يتواصل العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة لليوم الـ 42، وهو ما يزيد من معاناة أهلنا الفلسطينيين ويرفع من عدد الشهداء الذين ناهزوا 12 ألف شهيد أغلبهم أطفال ونساء، فآلة العدوان الإسرائيلية تقصف الوحدات السكانية والمستشفيات وتحاصرها بالدبابات، وحتى المدارس التي تأوي النازحين لم تسلم من بربرية الإسرائيليين.
وضع مأساوي يزداد سوءًا مع صباح كل يوم جديد، إذ لم يبقَ مكان آمن في القطاع ولا أي شخص آمن، حتى النازحين الذي اختاروا اللجوء إلى المدارس والمستشفيات باعتبارها أماكن آمنة، لم يسلموا من همجية كيان الاحتلال الإسرائيلي.
نزح مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى ما قيل إنها أماكن آمنة في غزة، لكن معاناتهم تضاعفت أكثر مما كانت عليه، فالجوع والعطش والمرض والبرد والعيش في العراء يلاحقهم.
أعداد متزايدة
اقترب عدد النازحين في قطاع غزة من 1.6 مليون شخص، وفق وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، يعيش حوالي 748 ألفًا منهم في 151 منشأة تابعة للوكالة في أنحاء غزة، بما في ذلك 588 ألفًا في ملاجئ الوكالة في جنوب القطاع.
وفق الوكالة، يتوفر حمّام واحد لكل 125 شخصًا، فيما يتوفر مكان استحمام واحد لكل 700، وتأوي المدرسة التابعة للأونروا بالمتوسط نحو 6 آلاف شخص، ليصبح مجموع سكان المدارس التي أصبحت عبارة عن 94 ملجأ جنوبي القطاع نحو 670 ألف شخص.
ويخرج النازحون -وغالبيتهم من النساء والأطفال- قسرًا من شمال القطاع نتيجة القصف الإسرائيلي الهمجي الذي طال كل المباني هناك عبر طريق صلاح الدين، الذي يربط الشمال بالجنوب، يحمل بعضهم القليل من الممتلكات، لكن غالبيتهم لا يحمل سوى أطفاله وما يلزم من ملابس.
“هل يرضيكم هذا يا عرب ويا مسلمون؟.. الكلاب المسعورة تنهش جثـ،ـث الشهـ،ـداء”
مدير وزارة الصحة بغزة، د منير البرش#غزة_تنزف #القمة_العربية pic.twitter.com/jUHIy7Qnyb— نون بوست (@NoonPost) November 13, 2023
يفرّ النازحون خلال “رحلة العذاب” من شمال القطاع إلى جنوبه، سيرًا على الأقدام وعلى دراجات نارية وسيارات وشاحنات صغيرة وعربات بدائية تجرّها الحمير، وصار مألوفًا في الأيام الأخيرة مشهد فلسطينيين يحملون كل ما يستطيعون من ممتلكات في أكياس وحقائب سفر.
ويجبر جيش كيان الاحتلال الإسرائيلي النازحين على قطع مسافة تناهز 10 كيلومترات سيرًا على الأقدام مع أطفالهم وما تمكنوا من حمله من أغراض، لتجاوز “مفترق الشهداء” الذي تتمركز فيه دبابات وآليات عسكرية إسرائيلية، للوصول إلى ما بعد وادي غزة في طريقهم إلى مدن ومخيمات جنوب القطاع.
الأمراض والأوبئة
ما يزيد من معاناة النازحين إمكانية انتشار الأمراض والأوبئة بينهم، وسبق أن حذّرت الأونروا من تفشّي الأوبئة، خصوصًا التهابات الجهاز التنفسي الحادة والإسهال بين النازحين في مدارس الوكالة بسبب الاكتظاظ وشحّ المياه، فيما تحدث مسؤولو الأمم المتحدة عن تفشّي الكوليرا.
وتخشى المنظمات الإنسانية من انتشار الأوبئة بين النازحين، ذلك أنهم يعيشون الآن داخل المستشفيات التي هي في الأصل عرضة لنقل الأمراض لمريديها، ويتكدّسون في المدارس داخل الفصول الضيّقة بالعشرات، ويستخدمون مستلزماتهم الشخصية بشكل جماعي، فضلًا عن تكدُّس النفايات بالأطنان داخل هذه المراكز.
من أسباب انتشار الأمراض والأوبئة بين النازحين أيضًا، لجوء النازحين إلى شرب المياه الجوفية غير المعقّمة، نتيجة توقف كامل محطات التحلية عن العمل لعدم توفر الوقود اللازم لتشغيلها، حيث إن اعتماد جميع السكان على شرب هذه المياه يزيد من احتمالية انتشار الأمراض الخطيرة.
تحدث بعض الناجين من الاستهداف الصهيوني عن جثث تنهشها الكلاب وأشلاء ممزقة.
كما أن تكدُّس مئات الجثث داخل المستشفيات له أن يتسبّب في تفشي الأوبئة والأمراض الخطيرة بين النازحين داخل المراكز الصحية، فالعديد من سكان غزة اختاروا اللجوء إلى المستشفيات، ظنًّا منهم أنها آمنة وهي عكس ذلك.
وظهرت أمراض جدري الماء والجرب والقمل بين النازحين، فضلًا عن حالات إسهال عديدة بين الأطفال وفق وزارة الصحة في غزة، إلى جانب تعرض البعض لأمراض معدية أخرى تستدعي تدخلًا علاجيًّا سريعًا، لكن أغلب مستشفيات القطاع خارج الخدمة.
فيما قال ممثل منظمة الصحة العالمية في الأراضي الفلسطينية، ريتشارد بيبركورن، إنه جرى رصد أكثر من 70 ألف حالة عدوى تنفسية حادة، ونحو 44 ألف حالة إسهال في القطاع المكتظ بالسكان، مشيرًا إلى أن الأعداد أعلى بكثير من المتوقع.
الأمطار وفصل الشتاء
مئات آلاف الأسر التي نزحت إلى جنوب غزة سعت للنجاة من القصف الإسرائيلي العشوائي، إلا أنها اليوم تواجه مشكلة تساقط الأمطار التي تتحول إلى مياه راكدة تزيد من متاعب الأهالي البدائية، حيث تبلّلت الأغراض والملابس والفرش والأغطية وأغرقت الخيام.
وينذر حلول فصل الشتاء بازدياد معاناة النازحين، إذ تنخفض درجة الحرارة ويتزايد هطول المطر، في وقت يفتقدون فيه أبسط ما يواجهون به هذا الطقس، إذ لا بيوت تأويهم ولا أفرشة ولا غطاء في خيامهم البلاستيكية التي لا تقي من برد ولا تحمي من مطر.
ممر المـ،ـوت.. شهادات مروّعة لفلسـ،ـطينيين نزحوا إلى جنوب قطاع غـ،ـزة عبر “الممر الآمن”، الذي أعلن عنه الجيش الإسـ،ـرائيلي لإخلاء المدينة من السكان#غزة_الآن#طوفان_القدس pic.twitter.com/z9PzkBpVRa
— نون بوست (@NoonPost) November 13, 2023
من يجد قليلًا من الحطب فهو محظوظ، فهذه هي وسيلة النازحين المتاحة للتدفئة والطهي في هذه الأجواء الشتوية الصعبة، لكن حتى الاحتطاب بات محفوفًا بالمخاطر، بسبب العدوان الإسرائيلي المتواصل على القطاع.
استهداف النازحين
لم يسلم النازحون أيضًا من القصف الإسرائيلي الهمجي الذي أسفر عن سقوط عشرات الشهداء على الطرق التي زعم الاحتلال أنها آمنة، وفي آخر حصيلة استشهد فلسطينيون وجُرح آخرون جراء قصف مقاتلات حربية إسرائيلية مجموعة من النازحين شرق مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، فجر اليوم الجمعة.
كما سبق أن تعرضت مناطق جنوب وادي غزة التي زعم الاحتلال الصهيوني أنها آمنة لغارات خلّفت مجازر عديدة، كما تعرض دار الضيافة التابعة للأونروا في رفح جنوبي غزة لغارات إسرائيلية دون وقوع ضحايا، وكانت الأونروا قد أعلنت أن أكثر من 100 من العاملين لديها قُتلوا في قطاع غزة منذ بدء الحرب.
حتى الخيام التي تأوي النازحين وتتشارك فيها العائلات أغلبها بالية.
يروي بعض النازحين مشاهد مروعة لجثث وأشلاء منتشرة على جانبَي شارع صلاح الدين الرئيسي والوحيد، الذي حدده جيش الاحتلال مسارًا للنازحين من شمال القطاع إلى جنوبها، بعدما أغلق شارع الرشيد الساحلي في سياق عمليته البرية.
وتحدث بعض الناجين من الاستهداف الصهيوني عن جثث تنهشها الكلاب وأشلاء ممزقة، وحيوانات نافقة ومتعفّنة طوال الطريق الممتد من حي الزيتون في جنوب شرقي مدينة غزة وحتى مفترق الشهداء، وهو الطريق الذي يمرّ منه النازحون.
جوع وعطش
تتفاقم معاناة هؤلاء النازحين، خصوصًا الأطفال والنساء وكبار السن، في ظل انتشار الجوع بينهم، ويأكلون القليل من الخبز إن استطاعوا العثور عليه، وفي بعض الأيام لا يأكلون على الإطلاق، ويلجأ عدد كبير منهم إلى الجمعيات الخيرية للحصول على ما تيسّر من الطعام، في ظل أزمة إنسانية حادة.
ويحاول النازحون الحفاظ على حياتهم ولو بالحد الأدنى المتاح، في ظلّ الظروف القاسية والعدوان الإسرائيلي المتواصل الذي لم يسلم منه القطاع شمالًا وجنوبًا، ويقف النازحون في طوابير مكتظة يحملون الأواني في انتظار وجبة توزّعها إحدى الجمعيات الخيرية المحلية.
لا يمثّل الجوع مصدر القلق الوحيد بالنسبة إلى النازحين، فهم يعانون نقصًا كبيرًا في المياه الصالحة للشرب أيضًا، حيث يضطر غالبية النازحين للوقوف ساعات في طوابير كبيرة أمام صنابير المياه، للحصول على بعض القطرات من الماء.
كما يضطر النازحون أيضًا كل يوم البحث عن المياه وتعبئتها بشكل مباشر من الآبار الجوفية لغرض الشرب، بعد أن كانوا يستخدمونها في الأيام العادية لغرض النظافة، لكن الحصار المفروض على الأهالي أجبرهم على استخدام المياه الملوثة وغير الصالحة للشرب.
في ظلّ غياب المياه، يضطر النازحون للاستحمام وغسل أواني المطبخ وغسل ملابسهم في البحر، مع محاولة تجنُّب القمامة العائمة في الماء والمتناثرة على الرمال، وأصبحت هذه المشاهد متكررة، خاصة أن معبر رفح مغلق في أغلب الأوقات.
#غزة_الآن pic.twitter.com/6lyZC3kUS2
— نون بوست (@NoonPost) November 16, 2023
لا تنتهي معاناة النازحين وباقي سكان غزة هنا، إذ يعانون أيضًا نقصًا كبيرًا في الوقود والأدوية الضرورية، فضلًا عن نفاد كل شيء في المستشفيات بما في ذلك أدوات التخدير، ما يعرّض حياة آلاف المصابين للموت.
حتى الخيام التي تأوي النازحين وتتشارك فيها العائلات، أغلبها بالية مصنوعة ممّا تيسّر من خرق وأكياس نايلون وألواح خشبية هشّة، ما يجعل الحياة في غزة شبه مستحيلة، كل ذلك تحت مرأى ومسمع العالم الذي لم ينجح حتى تأمين هدنة قصيرة يتنفس فيها هذا الشعب المحاصر.