سيبدو الأمر مبكرًا أو عجولًا، لكن صمود غزة لليوم الـ 42 في مواجهة حرب عالمية يدفع العقل إلى التفاؤل، ومن التفاؤل النظر إلى ما بعد المعركة وما بعد النص.
حتى لحظة كتابة هذه المادة، تدير المقاومة حربها باقتدار، وتصيب عدوها المباشر في مقتل، لكنها تصيب أعداء آخرين في مقتل أيضًا، وإن لم تسمّهم فنحن نسمّيهم، إنهم النظام الرسمي العربي، خاصة دول الطوق التي نراها تنهزم في غزة ولا تجد مخرجًا.
كما أسقطت الغزوة كل تيارات التشكيك في قوة المقاومة، وهي تيارات تختفي خلف الموقف الرسمي الفلسطيني، بزعم أنه لن تكون ملكية أكثر من الملك (وهي تعني عباس وشلة أوسلو)، وباطن موقفها انحياز ضد المقاومة ذات المرجعية الإسلامية، وهو موقف قديم يتعرى مع كل غزوة غزّاوية.
نهاية التطبيع
لقد أسقطت الغزوة المباركة ليوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول مشروع التطبيع، ونسفت مشروع ديانة جديدة، وحرمت الباحثين عن شرعية وجود عند الكيان من كل شرعية سياسية وأخلاقية، لكن ما بعد النصر سيكون أوضح وأشد بأسًا على هذه الأنظمة، وعلى كل مكونات المشهد السياسي العربي في كل قطر.
كان التطبيع يتم دومًا بخلفية أن المطبّع -وهو دومًا حاكم غير شرعي ومكروه من شعبه- يستند إلى كيان قوي، لا فقط بسلاحه بل بعلاقته بالقوة الأكبر أي الولايات المتحدة، وبالتالي هو يمرّ إلى حكم شعبه عبر الكنيست التي تمرره من البيت الأبيض.
لكن عندما يصبح الكنيست (الكيان أعني) أضعف من أن يحمي نفسه، فإنه ينتهي كوسيط مع الجهة الأقوى، التي لا شك أنها بصدد مراجعة نفسها وجدوى سياساتها في المنطقة.
لم يكن التطبيع يكلف الأمريكيين شيئًا سوى مساعدات قليلة لبعض الجيوش العربية، كان أغلبها يأتي على شكل أسلحة خردة، لكن ألن يجد الأمريكي نفسه مضطرًّا الآن لزيادة كلفة التطبيع؟ إني أراه يطرح أسئلة جوهرية في مستقبل غير بعيد عن جدوى الحفاظ على الكيان في المنطقة، ويبحث عن تحالفات مختلفة لا تكلفه شيئًا.
لقد فقدت الخريطة القديمة صلاحيتها، وهي تحمل في طريق انهيارها الأنظمة التي عاشت منها. لقد اختلف الزمن بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
مصالحات شعبية عربية أو حروب أهلية
حرب الطوفان لم تسقط مشاريع التطبيع والأنظمة المتعلقة بأذيال الكيان فحسب، بل أسقطت أيضا مشهدًا سياسيًّا عربيًّا في داخل كل قطر. يقوم هذا المشهد على حروب غير مسلحة لكنها دامية بين تيارات الحداثة (تسمية مجازية طبعًا) وتيارات الإسلام السياسي، وهي حرب متشابهة في كل قطر عربي.
هذه الحرب أفشلت الربيع العربي وخربت محاولات البناء الديمقراطي في مصر وتونس والمغرب وقبل ذلك في الجزائر. تيار الحداثة (وأكرر أنها تسمية مجازية) وقف مع الانقلابات العسكرية المطبّعة مع الكيان، بل منحها شرعيات مقاومة (كالقول إن السيسي وريث عبد الناصر أو أن نظام بشار مقاوم)، ولم يكن لهذا التيار من مشروع إلا منع تيار الإسلام السياسي من الوجود، فلما لم يفلح في إعدامه عمل على منعه من الحكم أو حتى مجرد المشاركة فيه.
هذا التيار بكل مسمّياته اليسارية والقومية وحتى الليبرالية، يتظاهر الآن بالوقوف مع المقاومة، لكنه يشعر بغصة أنه ليس منها، فوجه المقاومة الظاهر إسلامي وخطابها إسلامي جهادي يعلي مرجعية إسلامية، والمكون غير الإسلامي لا يكاد يظهر في الصورة.
وليخفف من غصّته، فإنه يفتح نقاشات جانبية مخذلة، من قبيل رفض الحرب الدينية، أو من قبيل مناقشة وضع فلسطين بعد الحرب وضرورة أن تكون دولة علمانية. هذا التيار لم يفهم ما يجري، ولم يشعر بقوة الزلزال الذي حصل في عقل المقاومة والزلازل القادمة بعد انتصارها.
حرب الطوفان ستمتد إلى كل قطر عربي بفرض النقاش (أو الصراع الضروري)، بين تيارات الإسلام السياسي ومن يحاربها ويمنعها من الوجود والمشاركة، وسينتهي هذا النقاش (والذي سيكون طويلًا وحاميًا وعنيفًا في بعض ردهاته) إلى القبول بالتعايش الممهّد للديمقراطية، ولا نتمنى مطلقًا أن يفضي إلى حروب أهلية.
لا ندري متى ستتلقّف تيارات الإسلام السياسي هذا النصر وتبني عليه خطتها النضالية الجديدة من أجل الديمقراطية، وقد تكون هذه التيارات الآن في حالة شلل سياسي نتيجة الضربات التي تلقتها خاصة في مصر، لكن هذه التيارات عوّدتنا على الانبعاث من أزماتها ومواصلة النضال السياسي.
نرى إسلامًا سياسيًّا مختلفًا بعد حرب الطوفان، يراجع أسلوبه ويراجع علاقاته ولا يرتبك أمام التخويف بالرجعية أو بالظلامية، وهي النعوت التي كان يرجمه بها تيار الحداثة المزيفة، فيرتبك ويترك مواقعه، بل يتخلى عن التفويض الشعبي الذي حصل عليه ذات انتخابات يتيمة.
نتوقع أن الإسلام السياسي الذي ينتسب إلى حماس والجهاد سيغيّر خطابه، ويكفّ عن الانسحابات الذليلة أمام خصومه، ليواجههم في الساحات بخطاب منتصر ويعلمهم أن التقدمية هي موقفه مع الحرية في فلسطين وفي غيرها وليس العكس، وأن الظلامية الفعلية هي معاداة الحرية، وهو موقف تيارات التحديث المزيفة.
وحتى إذا كانت توقعاتنا هذه سابقة لأوانها، فإن جيل إسلامي سياسي جديد يتعلم من حماس، سيكون بديلًا لجيل المؤسسين الخائفين الذين ظنّوا أن السلمية تجدي مع أحزمة الإسناد الأيديولوجي للأنظمة المطبّعة.
ليس من السهل وضع جداول زمنية لهذه التوقعات، لكن يقيننا أن حرب الطوفان أسقطت الأنظمة وأحزمتها الأيديولوجية (تيار التحديث المزيف)، وستفتح طريق الديمقراطية في كل قطر، وهي الرجّات التابعة للرجّة الأولى التي خلخلت الكيان ووضعته على منحدر الفناء الوجودي.
لقد علقنا آمالًا كثيرة على الربيع العربي بوصفه زلزالًا يمهّد للديمقراطية، ولم تتحقق كل الآمال، فالردة كانت قوية لكن البذرة لم تَمُت، ونراها تنتعش وتسقى من دماء غزة لتعيد ترتيب المسائل الجوهرية، وفي مقدمتها أنه لن تكون هناك شرعية لحاكم عربي إلا من صوت شعبه، أي عبر الصندوق الانتخابي، ومن هنا يبدأ طوفان الديمقراطية العربية المكمّل لطوفان تحرير فلسطين، فهنيئًا لمن يدرك ذلك الزمن المنتصر.