لم يعد للثورة السورية عاصمة بعد خروج المعارضة من حي الوعر الذي كان يمثل عائقًا أمام خطط النظام لفرض هيمنة مطلقة على حمص، وبخروج آخر دفعة من أهالي حي الوعر إلى الشمال في 22 من مايو/أيار الحالي لن يتكرر اسم مدينة حمص بعد الآن على أسماع العالم، بينما سيبقى تداول الاسم مقتصرًا على تذكر الذكريات في تلك المدينة.
لحظة صمت خيمت على أهالي المدينة بعد وصول آخر دفعة تركت آخر الأحياء المهجرة من مدينة حمص، حمص العدية لم تعد موجودة وأهازيج عبد الباسط ساروت والمظاهرات في أحياءها غابت، تلك الدفعة من سيروي لمن قبلهم كيف تركوا حمص!
عاصمة الثورة ومدينة الوليد والفقير والفكاهة
تعرف حمص بـ”مدينة الوليد” لاحتضانها لضريح القائد والصحابي خالد بن الوليد ومسجده الذي يقف شاهدًا على كل ما جرى في حمص، و”مدينة الفقير” لانخفاض تكاليف الحياة فيها و”مدينة الضحك” لتمتع أهلها باللطافة والفكاهة، وسميت بعد اندلاع الثورة في 2011 بعاصمة الثورة السورية، وهي أكبر محافظات سوريا مساحة وثالثها أهمية في سوريا بعد كل من دمشق وحلب.
لها سبعة أبواب تاريخية هي باب السوق، باب تدمر، باب الدريب، باب السباع، باب التركمان، باب المسدود، باب هود، و44 حيًا داخل المدينة أبرزها أحياء بابا عمرو، البياضة، جورة الشياح، الخالدية، دير بعلبة، القصور، باب تدمر، باب التركمان، باب الدريب، باب السباع، باب هود، التوزيع الإجباري، الوعر الجديد، الوعر القديم، القرابيص.
تتمتع حمص بموقع جغرافي مهم ومميز بفضل موقعها المتوسط في سوريا ووصلها للمحافظات السورية
تقع المدينة على منطقة زراعية خصبة وتطل على نهر العاصي، وتتمتع بموقع جغرافي مهم ومميز بفضل موقعها المتوسط في سوريا ووصلها للمحافظات السورية، إذ تحتوي على العقدة الأكبر للمواصلات في سوريا بسبب موقعها المتوسط، حيث إنها تقوم بربط المناطق الجنوبية بالمناطق الشمالية والمناطق الغربية بالمناطق الشمالية مما أدى إلى إكساب هذه المدينة أهمية جيوسياسية وتجارية كبيرة، كما أنها قريبة من العاصمة دمشق التي تبعد عنها ما يقارب الـ162 كم، وتعد من أهم المراكز السياحية وذلك لغناها بالمواقع الأثرية ومناخها المعتدل.
ساحة الساعة في حمص
اكتسبت المدينة أهميتها التاريخية من الحضارات التي مرت عليها، إذ نشأت فيها سلالات عديدة بفضل موقعها الاستراتيجي المهم الذي يتوسط بلاد الشام وخصوبة أرضها واستقرار مناخها وموقعها الجغرافي الذي كان يمثل حلقة الوصل بين مناطق مختلفة في تلك الآونة.
حكمها الرومانيون ثم فتحها المسملون وقام فيها الحكم الأموي والعباسي، وبعد ذلك خضعت لحكم السلاجقة والأيوبيين والمماليك وقد استمر ذلك إلى أن دخلت المنطقة تحت الحكم العثماني وبقي فيها حتى سقوط الإمبراطورية العثمانية في القرن الماضي، ومن ثم خضعت حمص للحكم الذاتي من قبل السوريين أنفسهم وخرّجت في هذه الفترة سياسيين ومسوؤولين حكوميين.
شهدت مدينة حمص استحداث أحياء لسكان موالين للنظام السوري ينتمون للطائفة العلوية ومن أبرزها حي عكرمة الجديد والنزعة ووادي الذهب وكرم اللوز
وبعد تقسيم الدولة العثمانية فيما عُرف باتفاقية “سايكس بيكو”، حل الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان في العام 1920 وتبعت حمص لدولة دمشق آنذاك واستمر هذا حتى اندلاع الثورة السورية الكبرى عام 1925 ضد الانتداب الفرنسي، وبعد خروج فرنسا من سوريا عام 1946 بقيت حمص جزءًا لا يتجزأ من تراب سوريا.
حمص الثورة
انتفضت حمص بعد محافظة درعا مباشرة في الثورة السورية 2011 ومع نهاية ذلك العام خرجت معظم المدينة عن سيطرة النظام وبدأ القصف العشوائي على أحيائها، وبالتحديد على حي بابا عمرو والتوزيع الإحباري، وتم شن حملة عسكرية كبيرة من قبل النظام انتهت بتهجيرالأهالي من الحيين في نهاية فبراير/شباط 2012 بعد انسحاب الفصائل المعارضة عقب 26 يومًا من القصف العنيف على الحيين، وسيطر النظام على كل من أحياء السلطانية وجوبر وبساتين باباعمرو والإنشاءات، وفي 12 من مارس/آذار ارتكب النظام مجزرة في كرم الزيتون راح ضحيتها ما لا يقل عن 100 مدني.
مدينة حمص لها أهمية بالغة للنظام السوري بسبب مركزيتها فيما يسميه “سوريا المفيدة” والتي روج لها خلال السنوات الماضية لتشكيل دويلة ذات طابع طائفي
ثم اقتحم النظام أحياء العشيرة والرفاعي وكرم الزيتون وتمكن من السيطرة عليها فتراجع الثوار إلى باب السباع وباب الدريب، وبقي النظام على سياساته الممنهجة بالقصف والاعتقال حتى تم تهجير أهالي من باب السباع والعدوية وجب الجندلي والمساكن إلى حمص القديمة والوعر، وبعدها فرض النظام حصارًا استمر لمدة سنة ونصف على حمص القديمة أجبر الفصائل في النهاية على توقيع اتفاق مع النظام بخروجهم إلى ريف حمص الشمالي المحاصر أيضًا.
تقرير لقناة الجزيرة حول مشهد الدمار الهائل في مدينة حمص
وبعدها لم يكف النظام عن المدينة، إذ لجأ إلى حصار حي الوعر الذي يوجد به نحو 20 ألف شخص امتد لثلاث سنوات عانى الأهالي خلاله من الجوع ونقص الأدوية ومن ويلات الحصار، إلى أن انتهى بهم المطاف بتوقيع اتفاق لتهجيرهم إلى الشمال السوري في مارس/آذار الماضي على 12 دفعة برعاية مباشرة من قبل مكتب المصالحات الروسي الذي يتخذ من قاعدة حميميم مركزًا له.
ونص الاتفاق على خروج من يرغب من الحي على دفعات، إذ تخرج كل سبعة أيام مجموعة تضم ما يصل إلى 1500 شخص إلى أن ينتهي عدد الخارجين إلى جهات ثلاث هي ريف حمص الشمالي وإدلب وجرابلس على الحدود السورية التركية.
وينص الاتفاق أيضًا على تسوية أوضاع المقاتلين والمطلوبين للأجهزة الأمنية التابعة للنظام وغير الراغبين بمغادرة حيهم، مع تسليمهم للأسلحة، إضافة إلى تسوية أوضاع الطلاب والموظفين من الجهات المختصة بشؤونهم، شأنهم شأن المنشقين عن جيش النظام والمتخلفين عن الخدمة فيه.
حجم الدمار في حمص
ونص الاتفاق كذلك على نشر كتيبة عسكرية روسية من 60 إلى 100 عنصر، بينهم ضباط روس، في حي الوعر بعد استكمال خروج المقاتلين، مع حصر مهامها بـ”مراقبة تنفيذ مراحل الاتفاق بدقة، وضمان التزام الأطراف بها، معالجة الخروقات، الإشراف على عودة الأهالي والمهجرين إلى حي الوعر، كذلك عودة المهجرين الموجودين حاليًا في الحي إلى منازلهم في أحياء حمص الأخرى”.
وتتولى الكتيبة الروسية مسؤولية “حفظ الأمن واحترام القانون داخل الحي، حماية الأهالي والممتلكات العامة والخاصة، تأمين المنشآت العامة، الإشراف على سير عمليات التسوية والاشتراك باللجنة المُشكلة مع قوات النظام ومراقبتها، منع اعتقال أهالي الحي، مراقبة معابر الحي وتأمينها، التأكد من خلو الحي من الأسلحة والمقاتلين بنهاية الاتفاق، منع عناصر مليشيات الدفاع الوطني التابعة للنظام والمليشيات الطائفية وغيرها من الدخول إلى الحي”.
حلم حمص
بالنسبة للنظام السوري فإن مدينة حمص لها أهمية بالغة بسبب مركزيتها فيما يسميه “سوريا المفيدة” والتي روج لها خلال السنوات الماضية لتشكيل دويلة ذات طابع طائفي، ولتطبيق هذه الغاية عمد النظام إلى تغيير معالم المدينة الجغرافية والديمغرافية إذ دمر نحو 19 حيًا في حمص بشكل كامل وشبه كامل وقتل وهجر نحو 900 ألف من سكان حمص بينهم 300 ألف قتيل ومفقود من سكان المدينة الذين كان يبلغ عددهم نحو مليون و200 ألف نسمة، وشهدت المدينة استحداث أحياء لسكان موالون للنظام السوري ينتمون للطائفة العلوية ومن أبرزها حي عكرمة الجديد والنزعة ووادي الذهب وكرم اللوز.
دمر النظام في حمص نحو 19 حيًا بشكل كامل وشبه كامل وقتل وهجر نحو 900 ألف من سكانها بينهم 300 ألف قتيل ومفقود من سكان المدينة الذين كان يبلغ عددهم نحو مليون و200 ألف نسمة
قبل الثورة عرفت حمص استلام المحافظ “محمد إياد غزال” المقرب من النظام السوري وعالة الأسد والمعروف أيضًا بملفات فساده كبيرة، أحضر المحافظ إلى حمص مشروع “حلم حمص” الذي أطلق عليه الأهالي “كابوس حمص” حيث يقوم المشروع على تدمير حمص القديمة وإنشاء مشاريع حديثة تضم أبراج سكنية ومكاتب وما شابه، إلا أن المشروع لاقى اعتراضًا كبيرًا من قبل الأهالي بسبب ما سيفضي إليه من تغيير في معالم المدينة القديمة وتهجير للأهالي من مناطقهم وهو تغيير ديمغرافي عميق.
وبعد اندلاع الثورة خرج أهالي حمص في مظاهرات عارمة للمطالبة بإسقاط النظام، ووجدوها فرصة ثمينة للثورة على مشروع “حلم حمص” وممارسات المحافظ إياد غزال الفاسدة الذي يمثل ويعبر عن رغبة النظام السوري ورأسه بشار الأسد.
مسجد خالد بن الوليد في حمص
مع أهمية المكان الاستراتيجية وحضارته وعبق التاريخ الذي ينطق منه، لا يزال أهالي حمص موجودون في سوريا وخارجها، فهم سكان المدينة وإن كانوا مهجرين وهم من صنعوا حضارة المدينة وليست أحجارها، هم من عمّروا أسوارها وحضاراتها وأغنوا تنوعها على مر العصور، هم من يتمتع بالفكاهة وليس الحي والحجر.
وإن كان النظام السوري يملك “حلم حمص” فليست المدينة وأحجارها من تبني حضارة وتعلم أجيال، بل الأهالي هم الحلم والمستقبل، وهم من يعول عليهم اليوم أن يخرّجوا رجالًا سياسيين كما فعلوا سابقًا إبان الثورة السورية الكبرى 1926 يدافعون عن مدينتهم ويطالبون بالعودة لها في المحافل الإقليمية والدولية، ويسعون جاهدين للعودة لها بكل الأدوات والسبل الممكنة.