في خطوة مفاجئة ألقت فرقة خاصة من الأمن التونسي، مساء أمس الثلاثاء، القبض على عدد من رجال الأعمال وبارونات التهريب والديوانة (الجمارك) وسياسيين منهم رجلي الأعمال شفيق الجراية ونجيب بن إسماعيل والمرشح سابقًا لانتخابات الرئاسة في 2014 ياسين الشنوفي، ووضعهم تحت الإقامة الجبرية بشبهة التورّط في ملفات فساد والمس بأمن الدولة، خطوة باركها عديد من التونسيين رغم تأخرها، فيما تساءل آخرون هل تكون بداية الحرب على الفساد.
إيقافات وفق قانون الطوارئ
لئن نفى الناطق الرسمي باسم النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية في تونس سفيان السليطي في تصريحات إعلامية، عِلم النيابة العمومية بتونس في القطبين المالي وقطب مكافحة الإرهاب والحق العام بموضوع إيقاف الثلاثة، فقد أكّدت مصادر من رئاسة الحكومة أنّ الإيقافات التي قامت بها فرقة أمنية مختصّة بإذن من رئيس الحكومة يوم أمس لرجال الأعمال شفيق جراية وياسين الشنوفي ونجيب بن إسماعيل، تمّت وفق مقتضيات الأمر رقم 50 لسنة 1978 المتعلّق بفرض حالة الطوارئ الذي يجيز للسلطة التنفيذية ممثّلة في وزيري الداخلية والعدل ورئيس الحكومة وضع أي شخص يُعْتبر نشاطه خطيرًا على الأمن والنظام العامين تحت الإقامة الجبرية في منطقة ترابية أو ببلدة معينة دون وجوب الحصول على إذن مسبق من القضاء.
وسبق أن أعلن رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد في نوفمبر 2016 تشكيل فريق أمني خاص يضم إطارات من الجيش والأمن والديوانة والمراقبة الاقتصادية والشرطة البلدية.
رجال أعمال وجمارك ومهربون وسياسيون ضمن القائمة
تمكنت إحدى فرق الحرس الوطني المختصّة من القبض على رجل الأعمال شفيق جراية في بمقهى بجهة البحيرة شمال العاصمة تونس ووضع الأصفاد في يديه على خلفية الاشتباه في تورّطه بقضايا تتعلّق بالاعتداء على أمن الدولة، وشفيق الجراية رجل أعمال تونسي، برز اسمه بعد الثورة التونسية، وتشير عديد من التقارير الإعلامية إلى وجود شبهات فساد تحوم حوله.
وتحوم حول جراية العديد من الشبهات حول ما حققه من ثروة ومكاسب في ظروف مشبوهة خاصة وأنه عرف في بداية حياته بعمله في التجارة الهامشية من خلال عربة صغيرة لبيع الغلال أمام مستشفى محافظة صفاقس وهو اليوم من كبار الأثرياء في البلاد، ويتهم جراية أيضا، بالوقوف وراء العديد من الاعتصامات وحالة الإرباك التي تعيشها البلاد.
رجل الأعمال شفيق الجراية
مباشرة بعد إيقاف جراية، تمّ أيضًا التحفظ أمنيًا على رجل الأعمال ياسين الشنوفي وذلك على خلفية الاشتباه في تورّطه بقضايا فساد ورشوة والاعتداء على أمن الدولة، فتم القبض عليه واقتياده من قبل إحدى الفرق المختصّة للحرس الوطني، والشنوفي أيضًا رجل أعمال وديواني تونسي (جمارك) ترشح لمنصب رئاسة الجمهورية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وفي ساعة متأخرة من مساء أمس، تمّ أيضًا إيقاف رجل الأعمال نجيب بن إسماعيل من قبل إحدى الفرق المختصة التابعة للحرس الوطني بجهة الجنوب وهو بصدد محاولة مغادرة التراب التونسي، للاشتباه في ضلوعه في قضايا متعلقة بالفساد والإضرار بالإدارة وتهديد أمن الدولة.
عمل هيئة الحقيقة والكرامة
هذه الإيقافات جاءت بعد أيام قليلة من جلسة استماع علنية خصصتها هيئة الحقيقة والكرامة (دستوريّة – مستقلّة) للاتهامات المرتبطة بقضايا الفساد المالي، أكّد فيها عماد الطرابلسي، صهر الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، أنّ منظومة الفساد لا تزال قائمة في البلاد إلى اليوم، معترفًا بأخطاء وتجاوزات، اعتذر عنها من أبناء شعبه.
هذه الجلسة العلنية اتهم فيها الطرابلسي “رجال أعمال معروفون يظهرون اليوم في المنابر الإعلامية وينشط بعضهم في أندية وجمعيات رياضيّة (لم يسمهم)، بالتورط في الفساد والتهريب”، كما اعترف في شهادته بجملة من التجاوزات من ضمنها التهريب والتلاعب الضريبي واستغلال النفوذ لتحقيق مكاسب شخصية خاصة في مجال الاستيراد والتصدير لمواد استهلاكية كالموز.
المرشح سابقًا لانتخابات الرئاسة في 2014 ياسين الشنوفي
وقال عماد الطرابلسي، أيضًا، إن ديوانيًا – ترشح سنة 2014 للانتخابات الرئاسية – اتصل به وأعلمه أن شاحنة ملكه قد تم حجزها حتى يتدخل لتحريرها، ليتبين لاحقًا أن الشاحنة ملك شخص آخر، وذكرت تقارير إعلامية أن الديواني الذي ذكره عماد الطرابلسي في شهادته والذي ترشح سنة 2014 للانتخابات الرئاسية هو رجل الأعمال ياسين الشنوفي.
أحداث تطاوين
إلى جانب ربطها باعترافات عماد الطرابلسي، ربط آخرون هذه الإيقافات بما يجري في محافظة تطاوين، إذ تتهم الدولة التونسية رجال أعمال ومهربين بتأجيج الاحتجاجات هناك وغلق باب الحوار مع الحكومة، حيث اتهم وزير التشغيل عماد الحمامي، رجل أعمال، لم يكشف عن اسمه، بتقديم مبلغ 12 ألف دينار للمعتصمين لتأجيج الأوضاع هناك في إطار حرصه على نيل أحد العقود النفطية.
كشف الناطق الرسمي باسم الحرس الوطني، خليفة شيباني، وجود العديد المتورطين في تأجيج الأوضاع بالكامور
بعدها اتهم الناطق الرسمي باسم الحكومة إياد الدهماني، أطرافًا سياسية ومخربين ومهربين وجماعات تتغذى من علاقة الشراكة بين التهريب والإرهاب، بتأجيج الوضع، ليضيف بعد ذلك مبروك كورشيد، كاتب الدولة لأملاك الدولة والشؤون العقارية: “هناك أطراف فاسدة تعرفها الدولة ازدادت ثراءً من الحدث الاحتجاجي.”
وليلة البارحة، كشف الناطق الرسمي باسم الحرس الوطني، خليفة شيباني، وجود العديد من المتورطين في تأجيج الأوضاع بالكامور، وأشار إلى عديد من الأشخاص الذين لم يذكرهم بالاسم، وصباح اليوم، أعلن محافظ تطاوين استقالته من منصبه، بعد أسبوع من توليه، لأسباب شخصية حسب قوله.
حرب على الفساد
تعليقًا على هذه الإيقافات، أكّد كاتب الدولة لأملاك الدولة والشؤون العقارية مبروك كرشيد أنّ حكومة الوحدة الوطنية أعلنت الحرب على الفساد، مشددًا أنها ستتصدى للفاسدين الذين يريدون سرقة خيرات الشعب التونسي.
وحسب “مؤشر مدركات الفساد” للعام 2016، الصادر عن “منظمة الشفافية الدولية” في يناير/كانون الثاني الماضي، فقد تصدرت تونس المرتبة السابعة عربيًا والـ75 عالميًا بـ71 نقطة في مؤشر الفساد للعام 2016، مقارنة بحصولها على المرتبة الـ76 بمجموع 38 نقطة في العام 2015.
مطالب بالكشف عن ملفات الفساد في تونس
وفي شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، أمضت الحكومة التونسية على الميثاق الوطني لتفعيل الاستراتيجية الوطنية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد (2016/2020)، كما حذّرت مجموعة الأزمات الدولية مؤخرًا من استشراء ظاهرة الفساد والرشوة وتفاقم الاقتصاد الموازي، منبهة إلى اتساع الفوارق الاجتماعية واستفحال التهميش الجهوي (بين المحافظات).
تأجيل مناقشة مشروع قانون المصالحة
كان مبرمجًا اليوم أن تتم مناقشة مشروع قانون المصالحة الاقتصادية من طرف أعضاء لجنة التشريع العام التابعة للبرلمان لمناقشته قبل إحالته إلى الجلسة العامّة، إلا أنه تم تأجيل ذلك لموعد لاحق، ويسعى حزب نداء تونس، أحد الأحزاب الحاكمة في البلاد، إلى تمرير مشروع قانون “المصالحة الوطنية في المجال الاقتصادي والمالي” الذي يقرّ العفو على قرابة 400 رجل أعمال تورطوا في قضايا فساد، والعفو عن الموظفين العموميين وأشباههم بخصوص الأفعال المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام، ما لم تكن تهدف إلى تحقيق منفعة شخصية، وتستثنى الرشوة والاستيلاء على الأموال العمومية، خلال فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي (1987 – 2011)، من الانتفاع بهذه الأحكام.
منذ سنة 2012، بدأ الحديث عن وضع استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد في تونس، لكن منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، بقي الموضوع مجرد شعارات
ويعمل نداء تونس وبعض الأطراف المحيطة به على تمرير مشروع هذا القانون الذي صادقت عليه الحكومة التونسية في 14 من يوليو 2015، بعد أن اقترحه الرئيس الباجي قائد السبسي، بهدف طي صفحة الماضي، وإغلاق الملفات المرتبطة بالانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام، حسب ادّعائهم.
ويؤكّد حرص هؤلاء على تمرير مشروع هذا القانون، تواصل منظومة الفساد التي كانت تحكم البلاد وخياراتها السياسية والاقتصادية الفاشلة، ومحاولة الالتفاف على المحاسبة كحلقة رئيسية ضمن مسار العدالة الانتقالية، وتشريع الإفلات من المحاسبة والتطبيع مع الفاسدين، حسب عديد من المراقبين.
ومنذ سنة 2012، بدأ الحديث عن وضع استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد في تونس، لكن منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، بقي الموضوع مجرد شعارات، وحتى شهر سبتمبر الماضي، تلقت هيئة مكافحة الفساد بتونس (دستورية مستقلة) التي تأسست أواخر 2011 خلفًا للجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة التي تم إنشاؤها مباشرة بعد الثورة في السنة نفسها، ما يقارب 12 ألف و500 ملف فساد.