قالت النيابة الهولندية العامة إنها ستبدأ بمحاكمة متهم سوري جديد أُلقي عليه القبض داخل أراضيها في مايو/ أيار 2022، فيما ستكون أول جلسات المحكمة في لاهاي بتاريخ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني من الشهر الجاري.
ووجّهت المحكمة للمشتبه به (م. د) تهمًا تتعلق بعمله في دائرة الأمن العسكري السوري ودائرة استخبارات القوات الجوية في حلب عام 2013، كعضو في ميليشيا “لواء القدس” الذي يعمل عن كثب مع الاستخبارات السورية، كما يفيد التحقيق الأولي بأنه شارك باعتقال مدني من مخيم النيرب في حلب شمالي سوريا، ومارس عليه تعذيب جسدي ونفسي، إلى جانب عدة أشخاص من الوحدة الأمنية ذاتها.
ساهم المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية في دعم الملف بشهادة الضحية والأدلة اللازمة لبدء سير المحاكمة، وقد تحدثنا مع مديره المحامي أنور البني، ليطلعنا على المزيد من التفاصيل.
(م. د) واثنان آخران
قال البني في حديثه إلينا إن العمل على إدانة هذا المتهم بدأت عام 2021، قبل إلقاء القبض عليه من قبل السلطات الهولندية، بجمع الأدلة والوثائق التي تدينه من صور وفيديوهات ومعلومات حول نشاطه في ميليشيا “لواء القدس”، حتى مغادرته البلاد ووصوله كلاجئ، وأيضًا بسماع شهادة الضحية وتوثيق ما تعرّض له في سجن المخابرات الجوية على يد (م. د) وأفراد آخرين، وتأمين حماية شخصية له لضمان أمنه حتى صدور الحكم حول المشتبه به.
ويضيف أن جزءًا من عملية التحقيق شملت بحثًا حول ميليشيا “لواء القدس”، بالتعاون مع الادّعاء العام والشرطة الهولندية، للتبيُّن من نوع الجرائم التي ارتكبتها الميليشيا خلال سنوات الثورة، عبر جمع شهادات لضحايا وقعوا في أسرها وأدلة من صور وفيديو وأخبار.
فيما وجّه النائب العام للمتهم (م. د) لائحة اتهامات، شملت ارتكاب جرائم حرب من خلال اعتقال تعسفي وممارسة تعذيب جسدي ونفسي، وأيضًا المشاركة في تعريض حياة المعتلقين للخطر من خلال تسليمهم لسجن المخابرات الجوية.
ويؤكد أنه تمّ تبيان ضلوع مجموعات إيرانية في تشكيل هذا اللواء، وانخراطهم في تدريب وتوجيه باقي أفراد الميليشيا، وتحمّلهم مسؤولية اتخاذ القرارات التي نتج عنها انتهاك لحقوق المدنيين، وتعرضهم للقتل والتعذيب والإخفاء القسري.
ويتوقع البني ألا تستمر المحاكمة أكثر من 6 أشهر، لوجود أدلة كافية وواضحة تدين المتهم بالخصوص، مع تحديد المحكمة لموعد الجلسة الأولى والثانية في 4 ديسمبر/ كانون الأول القادم.
تشير البيانات الأولية التي يملكها المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، إلى وجود حوالي 1000 مجرم سوري في أوروبا يشتبه بارتكابهم لجرائم مختلفة على مدار السنوات الماضية، بينما يعمل فريق الأبحاث في المركز بالتعاون مع الشرطة الهولندية على التحقيق حول مشتبهَين اثنين آخرين مقيمَين على الأراضي الهولندية.
يختبئون أمام مرأى الجميع
يعيش في هولندا حاليًّا حوالي 125 ألف سوريّ موزعين بين حاملي الإقامات وطالبي اللجوء، بينما يشير تحقيق مشترك لصحيفة “تراو” الهولندية وأحد برامج هيئة الإذاعة الوطنية، إلى أنه يعيش في هولندا العشرات من المجرمين التابعين لنظام الأسد، وهو ما سبق وأكدته دائرة الهجرة والتجنيس الهولندية عام 2020، حين صرحت بإعادة الفحص والتدقيق بملفات آلاف السوريين الحاصلين على إقامات في أراضيها.
نتج عن التدقيق الذي جاء بطلب من وزارة العدل حينها سحب إقامة عشرات الأشخاص، بناءً على الاشتباه بتورُّطهم بملفات جنائية مختلفة يصل بعضها حدّ ارتكاب جرائم حرب، ما يسمح لهولندا بمحاسبتهم بحسب الولاية القضائية العالمية.
وتم بناءً عليه فرز 63 ملفًا يشتبه في تورط أصحابها بتجاوزات كبيرة، كما قادت تحقيقات الشرطة حينها إلى الكشف عن تورط عدد غير قليل بجرائم احتيال صُنّف بعضها بأنها تجاوزات تضرّ بالأمن القومي الهولندي، دون أن تفصح السلطات عن تفاصيل تلك التجاوزات.
دعت بعد هذا التحقيق دائرة الهجرة الهولندية عبر الإعلام الوطني، إلى التبليغ عن مشتبهين بارتكاب جرائم حرب وتجاوزات قانونية من خلال ممارسات شخصية، أو ممارسات منظَّمة ضمن تنظيمات وميليشيات عسكرية، سواء إن كانت موالية أو معارضة لنظام الأسد، وأكدت على أن طالبي اللجوء المشتبه بارتكابهم جرائم حرب أو جرائم أخرى خطيرة، لا يحق لهم التمتع بالحماية، وبالتالي إن هولندا لن تكون ملاذًا لهم.
عدالة فردية
يجدر بالذكر أن قضية (م. د) هي واحدة من عدة قضايا تبنّاها القضاء الهولندي، إذ وحسب هذا التقرير للنيابة العامة الهولندية، فإن 4 متهمين آخرين جرى محاكمتهم وصدرت بحقهم أحكام نهائية، من بينهم قضية المتهم أحمد ك الذي يقضي حاليًّا حكمًا بالسجن لمدة 20 عامًا، لتورطه بإعدام جندي من الجيش السوري أثناء انخراطه في صفوف “جبهة النصرة”، وهو ما أكدته مقاطع فيديو ظهر فيها المتهم يطلق النار على الضحية، فيما ساهمت الشرطة والنيابة الألمانية بالتحقق منه وإبلاغ السلطات الهولندية عنه.
بهذا المعدل تكون هولندا انضمت إلى مجموعة الدول التي تلاحق السوريين ممّن ارتكبوا جرائم حرب خلال السنوات الماضية، في محاكمات يمكننا القول إنها تقدم نوعًا جديدًا من العدالة سأصفه هنا بـ”العدالة الفردية”، لعدد من الضحايا الذين يقيمون في هذه البلدان ويملكون فرصة محاسبة جلاديهم.
وإن كانت -بالنظر إلى بقاء نظام الأسد في السلطة واستمرار المنظومة الأمنية التابعة له في ارتكاب جرائم بحقّ المدنيين والمعتقلين- لا تحمل معها عدالة انتقالية شاملة وواسعة تطال الجميع، لكنها لا تزال توجّه رسالة ضمنية إلى الأفراد الذين ما زالوا ينفّذون الأوامر، أنهم متورطون بقدر أو بآخر بهذه الجرائم، ولا مفرّ لهم من عملية التقاضي الحالية أو المستقبلية حال وُجدت.
كما تساهم هذه المحاكمات من خلال التحقيقات المتبعة والبحث عن الأدلة، في وضع حجر الأساس لبناء تحليل شامل لتسلسل القيادة العسكرية في سوريا، بالتالي تثبيت تورط الضباط الكبار بجرائم واضحة وشهود من الطرفَين، حتى يتسنى لنا محاسبتهم أو على الأقل إدانتهم، في سبيل تحقيق ضغوط وقوانين تبقي النظام في عزلة اقتصادية وسياسية، كالتي تفرضها عليه أمريكا حاليًّا من خلال “قانون قيصر”.
صحيح أن هذه المحاكمات -في هولندا وغيرها- لا تقدم عدالة كاملة وشافية لجروح كل السوريين يرافقها مرحلة انتقالية تحمل البلاد نحو تغيير سياسي يطوي معه الأحقاد الطائفية التي غذّاها نظام الأسد في حربه البشعة على السوريين، لكنها ربما تصبُّ في بئر تراكمي سنتمكن من أن نروي منه عطشنا في الوقت المناسب.