منذ بداية الحرب التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي ضد غزة في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلنت بعض الشركات العالمية عبر وكلائها في الداخل الإسرائيلي دعمها الكامل لجيش الاحتلال في عمليته الإبادية ضد سكان القطاع.
ويأتي على رأس تلك الشركات سلسلة مطاعم “ماكدونالدز” الأمريكية للوجبات السريعة، التي أعلنت تقديم نحو 4 آلاف وجبة مجانية يومية لقوات الاحتلال، كذلك سلسلة “برغر كينغ” التي نشرت عبر حسابها الرسمي صورًا لتوزيع وجبات على جنود جيش الكيان، وكتبت عليها منشورًا بالعبرية قالت فيه “خرجنا لتقوية الأمة، فرقنا تعمل بجد لمواصلة التبرع بآلاف الوجبات لأبطالنا، برغر كينغ يرسل التعازي إلى عائلات الضحايا”.
أما سلسلة مطاعم “دومينوز بيتزا” فنشرت هي الأخرى مقاطع مرئية لعلم دولة الاحتلال، علقت عليه باللغة العبرية قائلة “من يستطيع أن يهزمنا؟”، الأمر ذاته فعلته مطاعم “بيتزا هت” ومتاجر “كارفور” وغيرها من وكلاء العلامات التجارية العالمية في تل أبيب.
ماكدونالدز ( McDonald's )
تدعم جيش الاحتلال بوجبات مجانية
سم و زقنبوت ببطونكم #قاطعوا_منتجات_تدعم_عدوك #غزه_تقاوم_وستنتصر pic.twitter.com/iepw9XaGxU
— رعد الجنوبي (@Ra3d1975) November 8, 2023
وأمام موجة الدعم تلك، شهدت منصات التواصل الاجتماعي انتفاضة شعبية عربية وإسلامية هائلة تدعو لتدشين حملات مقاطعة ممنهجة ضد تلك الشركات التي أعلنت رسميًا دعمها للاحتلال في مجازره المرتكبة ضد سكان غزة، كأحد الأدوات المتاحة شعبيًا لنصرة الفلسطينيين والتصدي لانتهاكات الكيان المحتل، في ظل الصمت والعجز الرسمي، الإقليمي والدولي.
وانقسم الشارع العربي إزاء تلك الحملات إلى رأيين، الأول يميل إلى ضرورة تكثيف تلك الحملات واستمرارها أيًا كانت محصلتها، فيما حاول الآخر تثبيط الهمم من خلال العزف على وتر عدم جدواها وأنها لن تغير من طبيعة المعادلة، بل إن عدد من المنتسبين إلى العرب، بعضهم مقرب من دوائر السلطة، دشن حملات دعم لتلك العلامات التجارية في مواجهة المقاطعة العربية.. فإلى أي مدى يمكن لتلك المقاطعة أن تنجز أهدافها؟
هل قتلت فلسطينيًا اليوم؟
“هل قتلت طفلًا فلسطينيًا اليوم؟”.. سؤال استنكاري صادم وضعته حملة المقاطعة في الكويت شعارًا لها، لمقاطعة الشركات والمنتجات الداعمة للاحتلال، سواء كانت إسرائيلية أم لها وكلاء في الداخل المحتل، تلك الحملة التي لم تقف عند حاجز الكويت وحدها، بل امتدت لتشمل عشرات البلدان والدول، العربية والإسلامية، بجانب بعض الدول الغربية كذلك.
واستندت تلك الحملات في إعداد قوائم الشركات التي من المفترض مقاطعتها إلى التصنيف الذي أعدته حركة مقاطعة “إسرائيل” “BDS” وهي الحركة المعنية برصد العلامات التجارية الداعمة للكيان، وتأسست عام 2005 على أيدي مجموعة من الناشطين الفلسطينيين والعرب واليهود المعادين للحركة الصهيونية واتحادات العمل والنقابات الأجنبية.
وتعد تلك الحركة هي الأكثر تنظيمًا وتأثيرًا وتفاعلًا فيما يتعلق بحملات المقاطعة، ولها تجارب عدة في هذا الشأن، واستطاعت تحقيق العديد من الإنجازات خلال العقد الأخير تحديدًا، ويعول عليها في تجييش الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي المناهض، لتعزيز المقاطعة وتقديم كل المعلومات المطلوبة في هذا الشأن.
هل قتلت فلسطينيا اليوم ؟#قاطع #قاطع_عدوك #boycott #BoykotaDevam pic.twitter.com/mhku6QKjHn
— Free Palestine 🇵🇸✌️ (@ibnarabimuhiddi) November 12, 2023
في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2023 نشرت الحركة عبر صفحتها على فيس بوك بيانًا أكدت فيه أهمية وضرورة مقاطعة الشركات العالمية التي وصفتها بأنها “شريك في حرب الإبادة الجماعية التي يشنها العدو الإسرائيلي ضد شعبنا في غزة المحاصر”، لافتة إلى أن حملات المقاطعة إنما الهدف الأساسي منها “تدفيع هذه الجهات ثمن تورطها ودعمها للعدو الإسرائيلي”.
ولفتت الحركة في بيانها إلى اعتمادها عما أسمته “المقاطعة المستهدفة” التي تعني التركيز على أهداف محددة وشركات بعينها ثبت تأييدها الواضح للاحتلال في جرائمه، بهدف تكبيدها الخسائر الكبيرة بما يدفعها لإعادة النظر في مواقفها السياسية.
المنسق العام للحركة، محمود نواجعة، أشار إلى أن المقاطعة تهدف في المقام الأول إلى “فرض عزلة على نظام الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري الإسرائيلي، لكي يخضع لحقوق الشعب الفلسطيني، ويتوقف عن الانتهاكات”، مضيفًا أن للمقاطعة أشكالًا عدة مثل: المقاطعة الاقتصادية والثقافية والأكاديمية، وتكتيكات تجبر الشركات الدولية المتورطة في الانتهاكات ضد الشعب الفلسطيني، على سحب استثماراتها من “إسرائيل”، بحسب تصريحاته لـ”الجزيرة”.
5 سيناريوهات للمقاطعة
فكرة الإعلان عن المقاطعة في حد ذاتها فكرة مرعبة لـ”إسرائيل”، رغم محاولات تصدير صورة مضللة بأنها مسألة هامشية غير مؤثرة، وهو ما تترجمه حرفيًا التقارير الصادرة من الداخل الإسرائيلي التي تضع تلك العملية في مسار خطير للغاية.
في 2015 نشرت وزارة المالية الإسرائيلية تقريرًا كانت قد أعدته عام 2013 بشأن المقاطعة الاقتصادية العربية والإسلامية لها، وخلص التقرير إلى 5 سيناريوهات للمقاطعة يمكن أن يكون لها تأثيراتها المتباينة حسب نوعية كل سيناريو ومدى انتشاره ومدته الزمنية.
الأول: المقاطعة الطوعية التي تقوم بها بعض الدول والمستهلكين، وهذا السيناريو يمكن أن يتسبب في خسارة 130 مليون دولار وفقدان 460 وظيفة سنويًا.
الثاني: مقاطعة دول الاتحاد الأوروبي لكل البضائع المصنعة في الداخل الإسرائيلي، وهذا يؤدي إلى تقلص تصدير البضائع الإسرائيلية بنسبة 1%، وخسارة نصف مليار دولار سنويًا، ونحو 1800 وظيفة.
الثالث: مقاطعة لكل البضائع الإسرائيلية، سواء المصنعة في الداخل الإسرائيلي أم عبر شركات الاحتلال في الخارج، وهنا قد تكون النتائج المحققة خسارة 10 مليارات دولار سنويًا ونحو 40 ألف وظيفة.
الرابع والخامس: فرض عقوبات اقتصادية على الشركات الإسرائيلية في الداخل والخارج، كما حدث مع نظام الفصل العنصري بجنوب إفريقيا ثمانينيات القرن الماضي، فهذا قد يكون السيناريو الأسوأ للاحتلال على مر تاريخه، حيث سيُمنى الاقتصاد بخسائر غير متوقعة.
هل حققت المقاطعة أي نتائج؟
بينما يتبنى الاحتلال سردية أن المقاطعة عديمة التأثير ومخاطرها هامشية، نشرت صحيفة “هارتس” العبرية تقريرًا لها في 2015 كشفت فيه وصول خسائر الاقتصاد الإسرائيلي بسبب المقاطعة نحو 6 مليارات دولار خلال عامي 2013/2014.
وعلى موقعها الإلكتروني نشرت حركة مقاطعة “إسرائيل” “BDS” ملخصًا عن أبرز الخسائر التي تكبدها الاحتلال جراء المقاطعة خلال عام 2014 وجاءت كالتالي:
– انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 46% سنة 2014 مقارنة بالسنة السابقة، وفق تقرير الأمم المتحدة، فيما تنبأت تقارير صادرة عن مؤسسة “راند” الأمريكية بأن حركة المقاطعة ستكلف الاقتصاد الإسرائيلي مليارات الدولارات خلال الأعوام القادمة.
– انسحاب الشركات العالمية من الاقتصاد الإسرائيلي، مثل فيوليا Veolia وأورانج Orange وسي آر إتش CRH بعد حملات قوية ضدها لتورطها في الانتهاكات الإسرائيلية، فيما أقدم مستثمرون دوليون، بمن فيهم الكنيسة المشيخية في أمريكا والكنيسة المنهجية، وصندوق التقاعد الهولندي PGGM وحكومات النرويج ولوكسمبورغ ونيوزلندا، ورجال أعمال مثل جورج سوروس وبيل غيتس، على سحب استثماراتهم من شركات ثبت تورطها في الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال في فلسطين، الموقف ذاته تبنته بنوك كبرى مثل بنك نوريدا ودانسكي.
– الأثر امتد من الشركات العالمية إلى الشركات الإسرائيلية ذاتها، حيث اضطرت شركة “أجريكسكو” Agrexco، التي كانت أكبر شركة تصدير زراعي إسرائيلية، إلى تصفية نفسها بعد حملة مقاطعة ضخمة ضدها، كما اضطرت شركة “صودا ستريم” إلى وقف أعمالها في المستعمرات الإسرائيلية، بسبب الهجمة الشرسة عليها.
– ونتاجًا لهذا التأثير تبنى الكيان المحتل حملة مضادة لتهديد الشركات العالمية التي أعلنت سحب استثماراتها من السوق الإسرائيلي أو تقليص التعامل مع حكومة الاحتلال، بفرض عقوبات صارمة والمنع من دخول الأراضي المحتلة مرة أخرى، بجانب التلويح بمقاضاتها بتهمة “معاداة السامية”، وهو ما دفع حكومات بعض الدول كبريطانيا والولايات المتحدة لفرض عقوبات مشددة على المؤسسات المشاركة في المقاطعة.
وقوفاً مع نضال الشعب العربي الفلسطيني من أجل حريته وحقوقه، ندعو الشعوب العربية الشقيقة لرفع صوتها ضد التطبيع بأشكاله مع العدوّ الإسرائيلي ولتصعيد مقاطعة، وسحب الاستثمارات من، الشركات المتواطئة في جرائم نظام الاستعمار والاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي.
لمعرفة ماذا نقاطع⬇️⬇️1/10🧵 pic.twitter.com/K15SXwqU5v
— حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) (@BDS_Arabic) October 8, 2023
سلوك أخلاقي في المقام الأول
بعيدًا عن التأثير الاقتصادي المباشر للمقاطعة رغم أهميته وحضوره وفق ما تم ذكره سابقًا، إلا أن المقاطعة كإستراتيجية هي سلوك قيمي ومبادئي وأخلاقي في المقام الأول، وأقل ما يمكن التعبير به لدعم الفلسطينيين وسط حالة الخذلان الرسمي التي تخيم على المشهد، وتضع أهل غزة العزل في مواجهة أعتى جيوش العالم المدججة بأحدث الأسلحة وأفتكها.
إذ إنه ليس من المنطقي ولا الأخلاقي ولا الحقوقي ولا حتى الإنساني، أن تُعلن شركات عالمية وسلاسل تجارية كبرى دعمها للانتهاكات الوحشية التي ترتكب بحق الأطفال والنساء في غزة دون أن يحرك ذلك ساكنًا لدى العرب والمسلمين.
فإن كان البعض يلتمس لهم العذر في عجزهم وتقصيرهم بحق قضيتهم الأم كون الأمر في البداية مرهونًا بقبضة الحكام والأنظمة، فإنه لا عذر للشعوب والهيئات غير الرسمية في تقديم أقل القليل بشأن عقاب تلك الشركات على موقفها البربري والتعبير عن رفض توجهها والضغط عليها للتراجع عنه.
الباحث في الأنثروبولوجيا الثقافية، الأمين البوعزيزي، يصف المقاطعة بأنها “فعل أخلاقي نبيل، مشحون برمزية الرفض لكل ما هو غير إنساني”، مضيفًا في تصريحات صحفية له أن هذا السلاح يمكن أن يكون فتاكًا باقتصاد الاحتلال إذا ما كان شاملًا ومدروسًا ومستمرًا.
ويرى البوعزيزي أن العرب أولى بالمقاطعة من غيرهم من أبناء الشعوب الأخرى، فهم أصحاب القضية الفلسطينية وأبناؤها، ومن ثم لا بد أن تكون المقاطعة خيارًا وطنيًا وشعبيًا ثابتًا وغير مرتبط بحادث بعينه، مضيفًا “المقاطعة سلاح رمزي يعكس انخراطًا مجتمعيًا في معركة إنسانية نبيلة كالتحرر من الاحتلال أو التخلص من التمييز العنصري”.
أنواع المقاطعة
تنقسم المقاطعة إلى 4 أنواع:
النوع الأول: من حيث الجهات الفاعلة ولها قسمين:
أولهما: المقاطعة الطوعية التي تقوم بها الشعوب والشركات والكيانات غير الرسمية.
ثانيهما: المقاطعة الرسمية الدولية التي تعلنها الحكومات والأنظمة، سواء بشكل فردي (دولة واحدة) أم إقليمي جماعي (تجمعات أو منظمات تضم عددًا من الدول).
النوع الثاني: من حيث المجال، فهناك مقاطعة اقتصادية وأخرى سياسية وثالثة أكاديمية ونقابية وفنية ورياضية وإعلامية وثقافية.. إلخ، بما تشمل كل مجالات الحياة.
النوع الثالث: من حيث إدارتها، فهناك مقاطعة عشوائية تتم بصورة فردية دون تنسيق مسبق بين الأطراف الفاعلة، ومقاطعة ممنهجة تكون مرسومة الخطة ومحددة الهدف وواضحة الأدوات والإستراتيجيات، وفي الغالب تكون مدعومة من الأنظمة والحكومات.
النوع الرابع: من حيث الوقت المحدد، فهناك المقاطعة المؤقتة المرتبطة في الأغلب بواقعة أو حدث محدد، تنتهي بانتهائه، كذلك المقاطعة المستمرة، التي تتواصل بشكل دائم طالما بقيت القضية الفلسطينية وطالما ظلت الانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني مستمرة.
عندما كان هناك علماء لايخشون فالله لومة لائم ولم يجعلوا من أنفسهم وفتاويهم مطيّة للحاكم الظالم كانت تصدر كهذه الفتاوى عن سلاح المقاطعة .
رحم الله الشيخ محمد بن صالح العثيمين وأسكنه فسيح جناته.. pic.twitter.com/RWueukTequ
— عرين (@CFrakerAI11) November 18, 2023
كيف يمكن للمقاطعة أن تكون مؤثرة؟
لا ينكر أحد فضل وتأثير وقيمة المقاطعة التي يقوم بها الشارع العربي والمسلم هذه الأيام، رغم تقليل البعض من شأنها، عرب وغير عرب، لكن في ضوء المواجهة الضروس التي كشفتها الحرب على غزة فإن البحث عن أدوات تعزز تأثير تلك المقاطعة أمر غاية في الأهمية، ومن أهمها:
أولًا: مزيد من التنسيق بين المقاطعين، أفراد وهيئات، لإحداث أكبر قدر ممكن من التأثير، وتبني خطاب مقاطعي واحد يتم تعميمه ويروج له إعلاميًا، بما يساعد في النهاية على هيمنة هذا الخطاب على المزاج الشعبي العربي.
ثانيًا: أن تدخل الحكومات والمنظمات الرسمية على خط المقاطعة، سواء بطريق مباشر عبر الإعلان عن ذلك صراحة، أم غير مباشر من خلال تهيئة الأجواء الإعلامية والفنية والثقافية والدينية والتشريعية لذلك.
ثالثًا: توسيع نطاق المقاطعة ورقعتها، لتشمل المقاطعة السياسية والثقافية والأكاديمية والرياضية والإعلامية والفنية، ولا تقتصر فقط على المقاطعة الاقتصادية، وأن تدخل الجمعيات والنقابات والأحزاب وكل مؤسسات المجتمع المدني كطرف أصيل في تلك المعركة.
رابعًا: إطالة أمد المقاطعة بحيث لا ترتبط بحدث عابر، حيث يكون تأثيرها هنا محدودًا، لكن يتعاظم هذا التأثير والمخاطر حال استمرارها لفترات طويلة، بما يمثل ضغطًا على تلك الشركات والكيانات لإعادة النظر في مواقفها الداعمة للاحتلال.
خامسًا: تقديم البديل المناسب للشارع العربي والإسلامي من المنتج الوطني، وهنا دور رؤوس الأموال العربية والإسلامية، بما يمهد الطريق رويدًا رويدًا نحو الاستغناء عن المنتج التابع للشركات الداعمة للمحتل، ويضعها في مأزق حقيقي أمام السوق العربي مستقبلًا.
التجربة الدنماركية والنموذج الجنوب إفريقي
في ثمانينيات القرن الماضي، وبينما كان النظام العنصري في جنوب إفريقيا يمارس كل أنواع البطش والتنكيل بمواطني الدولة الأصليين أبناء البشرة السمراء، ويمكّن الرجل الأبيض على حساب ابن البلد، انتفض العالم لمقاومة هذا النظام ومحاربة عنصرية البيض بحق السود.
وكانت المقاطعة أحد الأسلحة البارزة في تلك المعركة، حيث نجحت في إجبار العديد من البنوك البريطانية على رأسها بنك باركليز الشهير على وقف تعاملاته مع حكومة جنوب إفريقيا العنصرية بسبب الحملة القوية التي شنت ضده بسبب دعمه الحكومة وسياستها في الفصل العنصري، وتسببت في تراجع حصته السوقية وسحب المودعين لاستثماراتهم منه.
وقد شاركت العديد من الدول العربية في تلك المقاطعة، انتصارًا منها للمبادئ الإنسانية وحقوق الشعب الجنوب إفريقي في حياة كريمة، ورفضًا للعنصرية البيضاء والانتهاكات التي تمارس بحق مواطني الدولة الأصليين.
العرب الذين شاركوا في تلك الملحمة الحقوقية الإنسانية، وكانوا محل تقدير وإعجاب من أحرار جنوب إفريقيا حتى اليوم، أحرى بهم اليوم بعد 40 عامًا على هذا الموقف النبيل، أن يعيدوا تلك الوقفة مع أهل غزة ومع الفلسطينيين بصفة عامة، فما يتعرضوا له ليس أقل – إن لم يكن أبشع وأقسى – مما تعرض له الإفريقيون تحت مظلة النظام العنصري.
في 2005 أثبتت المقاطعة نجاحها كخيار عربي إسلامي في مواجهة الخصوم، فحين نشرت صحيفة “يلاندس-بوستن” الدنماركية صورة مسيئة للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم -، خرجت دعوات للمقاطعة انتصارًا للنبي ورمزيته الدينية المقدسة، وسط تقليل من شأن تلك التحركات حينها من الإعلام الدنماركي والغربي عمومًا.
وقد أدت تلك الحملات التي لم تستمر كثيرًا إلى تكبيد الاقتصاد الدنماركي خسائر تقدر بنحو 134 مليون يورو، أي ما يعادل 170 مليون دولار، فيما تراجعت الصادرات الدنماركية إلى الشرق الأوسط بمقدار النصف (تراجعت في السعودية المستورد الأول للبضائع الدنماركية بنسبة 40% وإيران بنسبة 47%) كما أوقفت ليبيا وسوريا والسودان واليمن استيراد المواد الدنماركية بشكل مفاجئ.
العرب والإمبريالية النفسية
تحاول الرأسمالية الغربية عبر عقود طويلة تدشين مرحلة جديدة من الاستعمار تتعلق بسلب البعد الأخلاقي والقيمي عن المواطنين بصفة عامة وهيمنة الفكر السلعي على عقولهم، وهي العملية التي أسماها المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري بـ”الإمبريالية النفسية”.
ويعرّف المسيري تلك العملية بأنها “انفصال الحياة اليومية الحديثة عن الأخلاق والعقائد الدينية وارتباطها بآليات اقتصاديات السوق الحر، الذي تتحكم فيها قوانين العرض والطلب والمكسب والخسارة المنفصلة عن القيمة وعن أي غاية إنسانية”.
ونتاجًا منطقيًا لذلك “تم تنميط الإنسان الغربي وتدجينه، وأصبح من السهل تحويله إلى مادة استعمالية عبر تجييش الجيوش بالسيطرة عليهم نفسيًا، ثم إرسالها لاستعمار العالم”، ونجحت بالفعل تلك المؤامرة في تحويل المواطن في العالم الثالث والشرق الأوسط ومواطني الدول التي توجد فيها مصالح الرأسمالية الغربية إلى “عبيد للسلع والاستهلاك” وأصابته بما يعرف بـ”السعار الاستهلاكي”.
هذا السعار الذي يجعل المواطن في تلك البلدان أسير شهواته ورغباته، مجردًا من أي اعتبار إنساني أو أخلاقي أو قيمي، وهو ما يمكن قراءته حرفيًا من خلال ما يقوم به بعض المحسوبين على العرب حاليًّا من تصد لحملات المقاطعة، وذلك بدعم الشركات المتورطة في تأييد الاحتلال والانتهاكات التي يمارسها، أو دعم المغضوب عليهم شعبيًا بسبب افتقادهم للبعد الإنساني في تعاملهم مع غزة، وتعويضهم عن مواقفهم التي خذلت الفلسطينيين.
ومرت المقاطعة العربية للاحتلال وداعميه بمحطات ومراحل عدة، لكنها للأسف اتسمت بمسار التهاوي والانزلاق، من أعلى الهرم إلى قاعه، بدءًا من إعلان جامعة الدول العربية عام 1945 منع منتجات المؤسسات اليهودية دخول الأراضي العربية، مرورًا بشرعنة وهيكلة هذا القرار بتدشين جهاز يشرف على عملية المقاطعة، عام 1951، يضم ممثلًا عن كل دولة عربية.
لكن بدأ العد العكسي لتلك المقاطعة والانزلاق نحو الهاوية وانتهاج سياسة الالتفاف على الموقف السابق، مع توقيع اتفاقية السلام بين مصر والاحتلال عام 1979، ثم اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والمحتل عام 1993، مرورًا باتفاقية وادي عربة مع الأردن عام 1994 وصولًا إلى اتفاقية التجارة الحرة عام 1996، التي أرغمت القاهرة وعمان على إدخال المكون الإسرائيلي بنسبة لا تقل عن 11.6% في منتجاتهم السلعية المنتشرة في معظم الأسواق العربية، فضلًا عن تحول العرب إلى المستورد الأول للسلاح الإسرائيلي المستخدم في قتل الفلسطينيين كما جاء على لسان وزير الدفاع، يوآف غالانت، قبل بدء الحرب الأخيرة بوقت قصير.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن خيار المقاطعة سلاح فتاك بكل المقاييس، فهو إن كان يحقق تأثيرًا اقتصاديًا محدودًا، رغم تداعيات ذلك الإيجابية على الاقتصاد الوطني وإنعاش المنتجات العربية، فتأثيره الأخلاقي والقيمي والاجتماعي أكبر، ومن ثم إنعاش حالة الزخم ضد الاحتلال وإبقاء القضية الفلسطينية متجذرة في العقل الجمعي العربي، وهي النتائج التي ترعب المحتل أكثر من خسائره الاقتصادية.