خلال القمة العربية والإسلامية الطارئة التي عقدت قبل أسبوع، بالعاصمة السعودية الرياض، طالب القادة والزعماء، المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية، ببدء تحقيق فوري في جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية.
لم يكن ذلك إلا كلامًا، إذ لم تتحرك لا الجامعة العربية ولا منظمة التعاون الإسلامية لتقديم طلب رسمي للمحكمة رغم مرور 43 يومًا على بدأ العدوان الإسرائيلي البربري على غزة بضوء أخضر غربي، والذي خلّف إلى غاية يوم الأربعاء أكثر من 11.5 ألف شهيد، بينهم 4710 طفلًا و3160 إمرأة، فضلًا عن نحو 30 ألف مصاب، 70% منهم أطفال ونساء، وفق آخر إحصائية رسمية فلسطينية.
انتظر قادة وزعماء الدول العربية والإسلامية من يخلفهم لتقديم طلب رسمي لمحكمة العدل الدولية للتحقيق في جرائم دولة الاحتلال، فالمهمة صعبة عليهم، ولا يقوون على القيام بها، رغم أنها لا تتطلب غير بعض الوثائق القانونية، وإرادة.
5 دول تتحرك
تلقى مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان طلب للتحقيق في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، صادر عن الدول الأطراف الخمس، جنوب أفريقيا، وبنغلادش، وبوليفيا، وجزر القمر، وجيبوتي، وقال المدعي العام في بيان “مع تلقي الطلب، يؤكد مكتبي أنه يجري حاليًا تحقيقًا بشأن الوضع”.
ونهاية الشهر الماضي، قال المدعي العام للمحكمة، إن أهل غزة يستحقون العدالة مثل أي شعب، وشدد على ضرورة فعل شيء “لوضع حد للحالة الكارثية في غزة”، وشدد خان -في مؤتمر صحفي- على أن كل المساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات محمية بموجب القانون الدولي، وأضاف أنه “لا يمكن استيعاب ما نراه اليوم في غزة”.
ليس سهلًا على المحكمة أن تنفذ القرارات الصادرة عنها، إذ ليس لها قوة شرطة خاصة بها لتعقب واعتقال المشتبه بهم
أشار أيضًا إلى رغبته في الذهاب إلى قطاع غزة “كي ألتقي بمن يعانون، ونفي بالتزامنا تجاههم”، وأكد كذلك ضرورة أن تلتزم “إسرائيل” بـ”نظام روما الخاص” بالمحكمة في حربها مع حركة المقاومة الإسلامية “حماس”.
كما نبّه إلى أنه وقف على معبر رفح عند أبواب غزة، ولم يستطع الدخول للوقوف على معاناة أهلها، وقال إن عرقلة وصول إمدادات الإغاثة الإنسانية إلى غزة “قد تشكل جريمة حرب بموجب اختصاص المحكمة”، وأشار إلى أن أي اعتداء على المدنيين والمرافق المحمية، سيُحاكم وفقًا للقانون الدولي، وأكد أن التحقيق في الأوضاع في الأراضي الفلسطينية “لا يمكن التغاضي عنه”.
لكن رغم كلام كريم خان لم يجرأ أي من القادة العرب ولا المسلمين على رفع دعوى قضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية، ربما لأن القادة والزعماء لم تصلهم بعد مشاهد الغارات الإسرائيلية الهمجية على أبناء غزّة، ولا مشاهد الأشلاء المتناثرة وآلاف الشيوخ والأطفال النازحين.
الهدف من إنشاء المحكمة
من المهم أن نذكر أن الهدف من إنشاء هذه المحكمة هو محاكمة المسؤولين عن أسوأ الجرائم – الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب- وللمحكمة ولاية قضائية عالمية، ولا تتدخل إلا عندما لا تستطيع السلطات الوطنية القيام بذلك أو لا ترغب به أساسًا.
وفقًا لنظام روما الأساسي- المعاهدة التي أنشأت المحكمة- للمحكمة الجنائية الدولية، يجوز لأي دولة طرف أن تحيل إلى المدعي العام حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر، من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، قد ارتكبت، وتطلب من المدعي العام التحقيق في الحالة لغرض تحديد ما إذا كان ينبغي اتهام شخص محدد أو أكثر بارتكاب مثل هذه الجرائم.
#كريم_خان#غزة#فلسطين_الان #المحكمة_الجنائية_الدولية pic.twitter.com/qVTqH9IyWs
— BHRWS (@BHRWS) October 29, 2023
فضلًا عن ذلك، يمكن أن يبدأ المدعي العام التحقيق في حالة إحالة القضية إليه من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كما يمكنه أيضاً اتخاذ إجراءات مستقلة، ولكن يجب أن تتم الموافقة على الملاحقات القضائية من قبل هيئة من القضاة.
وعلى عكس المحاكم الدولية، فإن المحكمة الجنائية الدولية هي هيئة دائمة، لكن ليس للمحكمة ولاية قانونية بأثر رجعي- أي لا يمكنها التعامل إلا مع الجرائم التي ارتكبت بعد 1 يوليو/تموز 2002 عندما دخل قانون روما الأساسي حيز التنفيذ.
فضلًا عن ذلك، للمحكمة أيضًا اختصاص تلقائي فقط في الجرائم المرتكبة على أراضي دولة صدقت على المعاهدة؛ أو من قبل مواطن من هذه الدولة أو عندما يحيل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قضية إليها.
أبرز القضايا التي نظرت فيها
سبق أن نظرت المحكمة في العديد من القضايا من قبل، وكان أول حكم للمحكمة، في مارس / آذار 2012، ضد زعيم إحدى الميليشيات في جمهورية الكونغو الديمقراطية توماس لوبانغا، وأدين المتهم بارتكاب جرائم حرب تتعلق باستخدام الأطفال في الصراع في ذلك البلد، وحُكم عليه في يوليو/ تموز بالسجن لمدة 14 عامًا.
أما أكثر الشخصيات شهرة الذي مروا على المحكمة الجنائية الدولية فهو رئيس الكوت ديفوار السابق لوران غباغبو، الذي اتُهم في سنة 2011 بالقتل والاغتصاب وأشكال أخرى من العنف الجنسي والاضطهاد و”أعمال غير إنسانية أخرى”، في أحداث عنف أعقبت الانتخابات التي نظمت ببلاده في 2010-2011.
لكن المحكمة برأت استئنافيًا في مارس/آذار 2021 غباغبو، مؤيدة بذلك الحكم الصادر في 2019 لفائدته، وأمرت بإزالة جميع شروط الإفراج عنه، وقبلها أمرت المحكمة بالإفراج عن غباغبو، أول رئيس دولة يحاكم في لاهاي، شرط الإقامة في بلد لم يُحدد بعد.
كما نظرت المحكمة أيضًا في اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ضد الرئيس الكيني أوهورو كينياتا، وأدين هذا الأخير في سنة 2011 فيما يتعلق بالعنف العرقي الذي أعقب الانتخابات في 2007-2008، والذي قتل فيه 1200 شخص، لكن في ديسمبر/كانون الأول 2014، أسقطت المحكمة التهم الموجهة إلى كينياتا.
قرار فتح تحقيق في الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في حقّ الفلسطينيين مهم للغاية، لكنه لن يكون سهل التطبيق
في مارس/آذار 2023، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بشأن مزاعم جرائم حرب متعلقة بترحيل أطفال و”نقلهم بصورة غير القانونية” من أوكرانيا، منذ الغزو الذي شنته موسكو على الأراضي الأوكرانية في سنة 2022، لكن قرار التوقيف لم ينفّذ بعد.
فضلًا عن بوتين، لدى المحكمة أيضًا مذكرة توقيف معلقة بحق الرئيس السوداني عمر البشير – وهي الأولى التي صدرت ضد رئيس دولة كان لا يزال في منصبه، ووجهت للبشير ثلاث تهم بالإبادة الجماعية وتهمتين بارتكاب جرائم حرب وخمس تهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
كما تلاحق المحكمة أيضًا قادة حركة التمرد الأوغندية وجيش الرب للمقاومة النشط في شمال أوغندا وشمال شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان، بتهم تتعلم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بما في ذلك اختطاف آلاف الأطفال.
كيف تنفذ المحكمة قراراتها؟
ليس سهلًا على المحكمة أن تنفذ القرارات الصادرة عنها، إذ ليس لها قوة شرطة خاصة بها لتعقب واعتقال المشتبه بهم، وعوضًا من ذلك، يجب أن تعتمد على خدمات الشرطة الوطنية لإجراء اعتقالات والسعي إلى نقلهم إلى لاهاي.
وغالبًا ما ترفض الدول التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، حتى تلك الموقعة على المحكمة، وهو ما يفسر بقاء العديد من المطلوبين لدى المحكمة في حالة سراح، وعاينا ذلك في محاكمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأيضا الرئيس السوداني السابق عمر البشير.
تاريخ المحكمة مع فلسطين
القضية التي رفعتها الدول الخمسة السابق ذكرها، ليست القضية الأولى المتعلقة بفلسطين أمام المحكمة الجنائية الدولية، ففي سنة 2015، بدأت المحكمة تحقيقاً أولياً في حرب غزة 2014، وقدمت السلطة الفلسطينية في رام الله للمحكمة في يونيو/ حزيران من تلك السنة أدلة على جرائم حرب ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، لكن لم يصدر أي قرار من المحكمة حينها.
وفي سنة 2021، قام المدعي العام للمحكمة بتشكيل فريق مخصص لدفع التحقيق بشأن الوضع في دولة فلسطين، وحددت المحكمة المنطقة المعنية بالتحقيق غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وشملت القضايا قيد النظر حرب غزة سنة 2014، وسياسة الاستيطان الإسرائيلية، والاشتباكات الحدودية مع غزة في الفترة 2018-2019.
يُذكر أن “فلسطين دولة طرف” في “نظام روما الأساسي”؛ والمحكمة الجنائية الدولية تملك ولاية قضائية إقليمية عليها، وتمتد هذه الولاية القضائية إلى الأراضي التي تحتلها “إسرائيل” منذ عام 1967، وبالتحديد غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
خمس دول تحيل الوضع في فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية.
أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أن مكتبه تلقى، أمس الجمعة، إحالة من خمس دول- هي جنوب أفريقيا، بنغلاديش، بوليفيا، جزر القمر، وجيبوتي- بشأن الوضع في دولة فلسطين
صحيح إن الكيان الصهيوني ليست عضوا فيها لكن دولة… pic.twitter.com/HRh2wxX2bm
— د.فيصل حردان السليسل (@faisal_hardan) November 18, 2023
في مقابل ذلك فإن “إسرائيل” ليست عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية، وسبق أن عارضت بشدة أي تحقيق هي طرف فيه، ودائمًا ما يهاجم الكيان الصهيوني الغاصب المحكمة بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية.
قرار فتح تحقيق في الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في حقّ الفلسطينيين مهم للغاية، لكنه لن يكون سهل التطبيق، فالعديد من العقبات ستعرقله، خاصة وأن تل أبيب كما قلنا ليست عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية، ولن تتعاون معها؛ كما أن هناك دولًا ذات تأثير كبير، ترفض محاكمة هذا الكيان.
تعد ألمانيا إحدى أبرز الدول الممولة للمحكمة بنسبة 40 %، وهي من أشد المناهضين لمحاكمة “إسرائيل”، كما ترفض الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا، محاكمة مسؤولي دولة الفصل العنصري.