ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال شهر تموز/يوليو الماضي، اجتمع قادة الدول الثمانية والعشرون الأعضاء في حلف الناتو في كل من وارسو وبولندا، في محاولة منهم لمجابهة أخطر التحديات التي تواجه الأمن في أوروبا، منذ نهاية الحرب الباردة. وفي الواقع، اندلعت خلال سنة 2014، سلسلة من الاضطرابات مع ضم روسيا غير الشرعي لجزر القرم، التي تعتبر جزءا من دولة أوكرانيا، التي تملك سيادة مستقلة.
كانت هذه هي المرة الأولى من نوعها التي يتم فيها استخدام القوة لتغيير حدود القارة الأوروبية، منذ أكثر من 70 سنة. فقد انتهك الرئيس فلاديمير بوتين بشكل صارخ كل اتفاق يحكم السلام العالمي، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة، ووثيقة هلسنكي الختامية، فضلا عن القانون التأسيسي بين روسيا وحلف الناتو.
وبعد بضعة أشهر، ذهب بوتين إلى أبعد من ذلك، عندما استخدم الجيش الروسي فضلا عن وسائل سرية لرعاية بعض الوكلاء الانفصاليين من أجل زعزعة استقرار محافظتين رئيسيتين في شرق أوكرانيا. علاوة على ذلك، تحدّت روسيا حلف الناتو بشكل مباشر أكثر من خلال تحديث برنامجها العسكري، ووضع عقيدة عسكرية جديدة أكثر عدوانية، بالإضافة إلى قيامها بالعديد من التدريبات الضخمة، التي انتهكت الاتفاقيات الرامية إلى تعزيز الشفافية والاستقرار في العالم.
خلال القمة التي استمرت يومين، تضمّن برنامج الناتو جلسات طويلة سلّطت الضوء على مواضيع منفصلة، تم فيها منح القادة الكلمة لعدة دقائق. وفي هذه الجلسات، اتخذ أعضاء الناتو قرارات لإعادة التركيز على الدفاع الجماعي، ووضع سياسة ردع جديدة تتلاءم مع الأوضاع في الشرق الأوسط
في الوقت نفسه، أدّى عدم الاستقرار في كل من سوريا والعراق إلى إعلان تنظيم الدولة لدولة الخلافة، بعد الاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي؛ بما في ذلك ثاني أكبر مدينة في العراق، الموصل. ونتيجة لذلك، واجهت أوروبا أكبر موجة هجرة غير نظامية، منذ الحرب العالمية الثانية.
في الحقيقة، أثارت كل هذه الأحداث استياء وغضب بلدان حلف الناتو، مما دفعهم إلى عقد قمة. وقد اضطر قادة الناتو الذين اجتمعوا في وارسو للرد على أشد التحديات الأمنية التي تواجهها أوروبا منذ أكثر من 25 سنة. ووجد حلف الناتو نفسه في اللحظة الحاسمة التي جعلته في مواجهة مباشرة مع تحديات متنوعة قادمة من خارج الحلف.
خلال القمة التي استمرت يومين، تضمّن برنامج الناتو جلسات طويلة سلّطت الضوء على مواضيع منفصلة، تم فيها منح القادة الكلمة لعدة دقائق. وفي هذه الجلسات، اتخذ أعضاء الناتو قرارات لإعادة التركيز على الدفاع الجماعي، ووضع سياسة ردع جديدة تتلاءم مع الأوضاع في الشرق الأوسط.
في الجنوب، اتفق أعضاء الناتو على أن على أن يبذل الحلف المزيد من الجهود لتعزيز الاستقرار بين الدول الضعيفة أو الفاشلة في تأمين حدودها. ونتيجة لذلك، قدّم هذا الحلف الدعم لأفغانستان، حيث قاد الائتلاف منذ سنة 2006، وقام بتوفير قرابة 12 ألف جندي في إطار مهمة تدريب وتمويل الجيش الأفغاني التي أطلقها.
وبعيدا عن الوطن، قدّم الرئيس الأوكراني وصفا مباشرا لنضال بلاده ضد العدوان الروسي. ومن أجل توفير الموارد اللازمة لكل ذلك، أكّد القادة مجددا التزامهم بالتحرّك نحو توفير 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع. وعموما، كان جدول الأعمال يتركّز بالأساس على دعم الدول التي لا تنتمي للحلف.
كشفت نقاشات القمة وجهات النظر المختلفة لأعضاء حلف الناتو. في المقابل، كان هناك توافق في الرأي حول أن جل محاولات الناتو، منذ نهاية الحرب الباردة، لإقامة شراكة استراتيجية مع موسكو، قد قوّضتها كل أعمال بوتين العدوانية في العالم
في يوم 8 يوليو/ تموز، انضم الرئيس باراك أوباما إلى بقية القادة في وارسو، بعد يوم طويل من السفر، لمناقشة جدول أعمال القمة، خلال عشاء عمل رسمي. وقد اتخذ ذلك العشاء طابعا رمزيا نظرا لأن القادة تناولوا الطعام في الغرفة، التي وُقعت فيها معاهدة وارسو سنة 1955، وأنشؤوا تحالفا مكوّن من ثمانية دول يقوده الاتحاد السوفياتي، الذي واجهه حلف الناتو خلال الحرب الباردة.
والجدير بالذكر أن زعماء بولندا كانوا فخورين بالإشارة إلى ذلك الاجتماع. ففي حين اجتمع القادة بمفردهم لتناول العشاء، تجمع عدد قليل من الموظفين المهمين من كل بلد في غرفة صغيرة مجاورة مجهزة بأجهزة سمعية ومرئية تُمكن القادة من متابعة ما يحصل فيها، لتناول بعض الشطائر وشرب القليل من النبيذ.
كان من المقرر أن يركز القادة في حديثهم على علاقة الناتو بروسيا، أكبر جاراتها التي تملك قدرات عسكرية ضخمة. خلافا لذلك، كشفت نقاشات القمة وجهات النظر المختلفة لأعضاء حلف الناتو. في المقابل، كان هناك توافق في الرأي حول أن جل محاولات الناتو، منذ نهاية الحرب الباردة، لإقامة شراكة استراتيجية مع موسكو، قد قوّضتها كل أعمال بوتين العدوانية في العالم.
ردًّا على ذلك، أعطى بعض الحلفاء الأولوية لتعزيز دفاعات الناتو. في حين، سلّط بعض القادة الضوء على التحديات المباشرة التي يواجهونها على غرار الإرهاب، والهجرة الجماعية، وعدم الاستقرار في الجنوب. أما البعض، فيعتقد أنه لا تزال هناك مناطق يمكن أن تتدخل فيها موسكو. في المقابل، شكك البعض الآخر في مدى صحة هذه الفرضية.
مع تطور النقاش ببطء حول طاولة العشاء، توصّل القادة إلى حلّ توافقي يتمثل في تحقيق توازن بين القوة والحوار، حيث أن الحلف سوف يفعل ما هو مطلوب منه لردع روسيا، بينما سوف يظل في حوار مفتوح معها في محاولة وذلك بغية الحدّ من مخاطر الوقوع في مواجهة معها. ولذلك، سوف يظل الناتو اللاعب الناضج والمسؤول في أوروبا.
ومع اقتراب نهاية العشاء، وفي حين كان الموجودين في غرفة الموظفين المزدحمة ينتظرون بفارغ الصبر نهاية التدخلات ويأملون في أن تكون موجزة، جاءت أهم رسالة من قبل أوباما، علما وأنه كان قد تكلم في وقت مبكر من العشاء، واستمع إليه جميع الحضور.
بالإضافة إلى ذلك، أعرب العديد من القادة عن أسفهم من تصرفات بوتين والتحدي الروسي لأوروبا، بما في ذلك حملات التضليل والتأثير الخبيثة والممنهجة التي تدور داخل أروقة الأحزاب السياسية المحلية. في المقابل، أشار البعض إلى أن روسيا لا تشكل أية تهديد، وإنما المهاجرون غير الشرعيون، هم من يمثلون التهديد الأكبر والأخطر.
وتجدر الإشارة إلى أنه خلال نهاية عشاء طويل ويوم طويل جدا، رفع أوباما بشكل غير متوقع يده بغية التحدث مرة ثانية. وفي الواقع، ألقى الرئيس الأمريكي السابق كلمته دون الاستعانة بأية ملاحظات مكتوبة. وفي هذا السياق، قال أوباما إن “كراهية الأجانب والسياسات المناهضة للهجرة، فضلا عن القومية غير المقيدة يمكن أن تقوض ديمقراطيتنا من الداخل”.
أصبحت مسؤولية حماية هذه القيم أمر ضروري لتحقيق أمن الولايات المتحدة. فضلا عن ذلك، يجب أن تشمل هذه الحماية جميع عواصم الدول الأعضاء الثمانية والعشرين. وهذا هو الخطاب الذي يرغب حلف الناتو في سماعه من ترامب
وأضاف قائلا: “إذا انحرفنا عن قيمنا الأساسية، فقد نفقد كل ما تم بناؤه على مدى السنوات السبعين الماضية”. لم يكن أوباما يقصد بوتين بحديثه؛ كان الأمر يتعلق بنا “الأمريكيين”. وقد كان هذا الخطاب كفيلا بأن يجعل الجميع يدخلون في حالة من الصمت، عند اختتام مأدبة العشاء.
من جهة أخرى، بينما يستعد الرئيس دونالد ترامب للقاء نظرائه للمرة الأولى في مقر الناتو، في بروكسل، خلال هذا الأسبوع، لا بدّ من تذكيره بهذه الرسالة التي تفيد بأن القوات، والدبابات، والسفن، والطائرات ليست سوى جوهر قوة الناتو. وعموما، يكمن جوهر قوة التحالف الأكثر استمرارية ونجاحا في التاريخ في جوهر القيم المشتركة بين هذه الدول التي نجد منها الديمقراطية، والحرية الفردية، وسيادة القانون. والجدير بالذكر أن هذه القيم هي التي تجمع دول الناتو الثمانية والعشرين المختلفة.
أما في الوقت الحالي، فيتمّ تحدّي هذه القيم من قبل أطراف عدّة على غرار الداخل. وبالتالي، أصبحت مسؤولية حماية هذه القيم أمر ضروري لتحقيق أمن الولايات المتحدة. فضلا عن ذلك، يجب أن تشمل هذه الحماية جميع عواصم الدول الأعضاء الثمانية والعشرين. وهذا هو الخطاب الذي يرغب حلف الناتو في سماعه من ترامب.
المصدر: فورين بوليسي