“استولوا في دارفور على العديد من العربات والمدرعات، وبكل أسف مدرعات مصرية، ونحن نقولها بالصوت العالي إن المدرعات مصرية”، جسدت هذه التصريحات الصادرة عن الرئيس السوداني عمر البشير إحباطات الخرطوم من جارتها الكبرى مصر، والتي جاءت بعد أيام قليلة من تصريحاته السابقة التي أشار فيها إلى أن “صبر بلاده ينفذ نحو القاهرة”.
التصريحات التي خرجت عن البشير تعكس وبصورة واضحة مدى ما وصلت إليه العلاقات مع القاهرة من توتر بلغ أعلى مراحله منذ تأزم الموقف بين البلدين، وهو ما دفع البعض إلى التساؤل عما يمكن أن تتمخض عنه محاولات التحرش المتبادلة بين العاصمتين الشقيقتين، خاصة في ظل ما يثار بشأن تحول التوتر من الإطار الإعلامي والسياسي إلى العسكري وهو ما يتطلب التوقف حياله.
“مصر تتنكر للجميل”
لأول مرة يبعث الرئيس السوداني برسائل انتقاد لمصر أشبه بـ”العتاب” لما أسماه “تنكر القاهرة” لما قدمته بلاده من دعم عسكري لها في حربها ضد “إسرائيل” منذ عام 1967 في الوقت الذي تخلت فيه الجارة الشقيقة عن مساعدة بلاده في حربه في دارفور ضد الفصائل المسلحة أو ضد المتمردين في جنوب السودان، بذريعة أن ذلك شأن داخلي لا قبل للقاهرة به.
مبعوث الرئيس السوداني إلى المفاوضات بشأن دارفور، أمين حسن عمر، كشف في تصريحات له أن الهجمات التي شنتها الجماعات المسلحة شمال وشرق إقليم دارفور كانت بمدرعات وعربات مصرية، ورغم عدم التأكيد على إرسال القاهرة هذه المدرعات للحركات المسلحة في دارفور، فالتلميحات تشير إلى أن أنها جاءت عبر ليبيا.
العلاقات الوثيقة التي تربط بين النظام المصري واللواء المتقاعد خليفة حفتر وما يثار بشأن تزويد القاهرة له بالسلاح دفعت الخرطوم للذهاب إلى أن العربات العسكرية التي تم الاستيلاء عليها من قبل الجيش السوداني في دارفور والتي تقول إنها مصرية، جاءت عبر الحدود الليبية.
ورغم نفي القاهرة عبر رئيس الدولة أو وزارة الخارجية لمثل هذه الاتهامات، فإن الخرطوم ما زالت تعتقد أن تحريك جبهة دارفور خلال الفترة الماضية ومحاولة إثارة القلاقل مرة أخرى في الوقت الذي تسعى فيه السودان لكسب تأييد المجتمع الدولي ورفع العقوبات الأمريكية المفروض، مؤامرة تشترك فيها القاهرة.
وفي الوقت نفسه هناك فريق من السودانيين يرى أن هناك أصابع مصرية تعبث بأمن بلادهم عبر دعم فصائل المعارضة بالسلاح والمال داخل السودان وفي جنوبها، فضلاً عن دعم بعض التيارات المعادية للخرطوم من الخارج كما هو الحال مع أوغندا وغيرها.
مبعوث البشير كشف في تصريحات له أن الهجمات التي شنتها الجماعات المسلحة شمال وشرق إقليم دارفور كانت بمدرعات وعربات مصرية
الخرطوم والقاهرة.. تحرش مستمر
تصريحات البشير بشأن دعم القاهرة لفصائل المعارضة في دارفور أو جنوب السودان ونفي الخارجية المصرية لتلك التصريحات لا تعدو كونها حلقة من مسلسل التحرش الذي تلجأ إليه العاصمتان خلال الآونة الأخيرة، فما تكاد الأجواء تهدأ نسبيًا بين الجارتين حتى تشتعل مرة أخرى.
العديد من المظاهر تشير إلى اشتعال الأجواء بين البلدين بدءًا بالاتهامات المتبادلة لدعم المعارضين لنظامي الحكم في البلدين، مرورًا بفرض الخرطوم تأشيرات على المصريين من باب المعاملة بالمثل مع القاهرة، إضافة إلى وقف استيراد الحاصلات المصرية من قبل السودان، وصولاً إلى اتهام وزير الدفاع السوداني القوات المصرية بممارسة استفزازات لقوات بلاده في المنطقة.
ويبقى ميل الخرطوم نحو أديس أبابا رأس الحربة في تصاعد الخلافات بين البلدين، حيث جاءت التصريحات المتبادلة بين السودان وإثيوبيا بشأن الدفاع المشترك وتعزيز أوجه الشراكة الاقتصادية والعسكرية فضلاً عن التهديدات والتلميحات بشأن التصدي لأي دولة تهدد أي من الدولتين (السودان وإثيوبيا) في إشارة واضحة للقاهرة.
زيارة البشير لأديس أبابا مؤخرًا للمشاركة في الاحتفال بالذكرى السادسة لبناء سد النهضة كان ورقة التوت الأخيرة التي سقطت من على الخرطوم بشأن قيامها بدور الوساطة بين مصر وإثيوبيا، إذ بات من الواضح أن السودان آثرت مصالحها مع إثيوبيا على مصالحها مع مصر وهو ما زاد الموقف بين البلدين تأزمًا.
ميل الخرطوم نحو أديس أبابا يظل رأس الحربة في تصاعد الخلافات بين البلدين
التحالف السوداني الإثيوبي يقلق القاهرة
حلايب وشلاتين
وتتواصل المناوشات بين الجارتين بشأن ملكية كل منهما لمثلث حلايب وشلاتين الحدودي الذي يعد أحد الأوراق المهمة في إثارة التوتر بين البلدين ما بين الحين والآخر.
تمسك القاهرة بملكيتها لهذا المثلث تاريخيًا وإداريًا وهو ما يجسد على أرض الواقع منذ عشرات السنين، في مقابل دعاوى الخرطوم أحقيتها في هذه المنطقة وأنها كانت تابعة لها في القدم وتخلت عن سيطرتها لمصر بحكم العلاقة القوية التي كانت تربط بينهما سابقًا، دفع كلا الطرفين إلى الدفاع عن إدعائه بشتى السبل لا سيما بعدما دخلت إثيوبيا على خط المواجهة بإعلانها دعمها الكامل للسودان في تلك القضية.
وها هي القاهرة ترسل وحدات عسكرية للتعامل مع أي محاولة لاختراق سيادتها على هذا المثلث، بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى مطاردة بعض السودانيين العاملين في مجال التنقيب في هذه المنطقة، وهو ما أثار استفزاز الخرطوم التي لوحت أكثر من مرة باللجوء إلى التحكيم الدولي.. فهل تنجح في ذلك؟
إن كانت مسألة التحكيم الدولي في قضية حلايب وشلاتين بهذه الصعوبة، فلماذا تلوح به الخرطوم ما بين الحين والآخر؟
التحكيم الدولي
كثيرًا ما تلوح الخرطوم باللجوء إلى التحكيم الدولي البحري في قضية حلايب وشلاتين، وهو ما قلل البعض من تأثيره وفق بنود وشروط التحكيم المتعارف عليها والتي تتطلب وجود نزاع قائم على الأرض، إذ إن التحكيم هنا يستلزم مياهًا وأرضًا وليس مياه فقط أو أرض فقط.
ووفق البعض فإنه من الصعوبة أن يتم قبول تحكيم بحرى بشأن مياه إقليمية لأرض مصرية تمارس عليها السيادة منذ عشرات السنين، أما فيما يتعلق بخطوط الطول والعرض فهي ليست دائمًا الفيصل في مثل هذه النزاعات البحرية، خاصة أن هناك سند تاريخي يتعلق بمظاهر السيادة المصرية على هذه المنطقة، من وجود قوات عسكرية دون أدنى اعتراض من الطرف الآخر و ممارسة العديد من الأنشطة التي تتطلب بممارسات أنشطة الصيد وهناك حق القبول الضمني بعدم الاعتراض لمدة زمنية بما يعد قبولاً بالأمر الواقع .
ويبقى السؤال: إن كان الأمر بهذه الصعوبة فلماذا تلوح به الخرطوم ما بين الحين والآخر؟ وهنا وبحسب البعض فإن السودان يلجأ إلى هذه الورقة من باب الضغط على القاهرة في محاولة للخروج بأكبر قدر من المكاسب التي ربما يأتي في مقدمتها إثناءها عن ملف سد النهضة دعمًا للحليف الإثيوبي في ظل ما تنتظره الخرطوم من نتائج إيجابية من المتوقع أن تحققها حال إتمام مشروع السد.
حلايب وشلاتين.. قصة صراع حدودي بين الشقيقتين
نزاع عسكري على الحدود
“التصريحات وطبيعية النظامين اللذين يحكمان الدولتين سيجلبهما إلى حافة الهاوية وسيزيد من احتمالية دخول البلدين في نزاع عسكري على الحدود..” بهذه الكلمات استهل موقع “جلوبال ريسك إنسايتس” الأمريكي تقريرًا له مؤخرًا بشأن احتمالية الصدام العسكري بين القاهرة والخرطوم حسبما نقلت صحيفة “السودان اليوم“.
التقرير أشار إلى أن “النزاع الحدودي بين مصر والسودان ليس وليد اللحظة، وإنما يعود إلى سنوات مضت، إلا أنه طفا على السطح في الأشهر القليلة المنصرمة التي شهدت ارتفاعًا في النبرة العدائية بين مسؤولي البلدين اللذين كانا بلدًا واحدًا في الماضي القريب”، محذرًا من تصاعد حدة الخلافات بين الجارتين.
كما لفت الموقع أيضًا في تقريره إلى “تحذير كل من الخرطوم وأديس أبابا من ضربة جوية مصرية محتملة ضد سد النهضة خاصة بعد شراء مصر طائرات الرافال الفرنسية، مما يعني امتلاكها القدرة على ضرب السد من قاعدة بجوار سد أسوان (1500 كيلومتر).
موقع “جلوبال ريسك إنسايتس” الأمريكي يتوقع زيادة احتمالية دخول السودان ومصر في نزاع عسكري حدودي
واختتم الموقع بالقول: “إن ضرب مصر لسد النهضة من قاعدة قرب سد أسوان لا يعدو كونه مجرد تكهنات إثيوبية، إلا أنها نشرت صواريخ مضادة للطائرات بالقرب من سد النهضة الواقع بالقرب من الحدود الإثيوبية السودانية لمنع وقوع هذا السيناريو”.
ومن ثم فإن التحرش المستمر بين القاهرة والخرطوم وإن تضاءل احتمال تصعيده إلى حد المواجهة العسكرية بين البلدين إلا أنه سيعد ورقة في يد كل طرف يلعب بها وفق أجنداته الخاصة التي تحقق مصالحه التي يراها، وتظل القوى الخارجية – الإثيوبية والخليجية – لاعبًا أساسيًا في تحديد قوة ودرجة التوتر بين العاصمتين العربيتين.