في 10 تشرين الثاني/نوفمبر؛ دخل مستوطنان إسرائيليان برفقة جندي، قرية طوبا الفلسطينية في ريف جنوب الضفة الغربية المحتلة، وفتحا خزانات المياه الخاصة بالسكان – مصدر المياه الوحيد لهم – وشاهدوا المياه تتسرب إلى أرض القرية قبل أن يغادروا دون قيود. وقبل بضعة أسابيع؛ في التجمع البدوي للرعاة في وادي السيق شرق رام الله، قامت مجموعة مسلحة من المستوطنين بالاعتداء على المجتمع وتهديده، كما تفعل منذ أشهر. في اليوم التالي؛ حزم سكان التجمع في الضفة الغربية، حوالي 100 فلسطيني، أمتعتهم وغادروا. وفي 28 تشرين الأول/أكتوبر، أطلق مستوطن إسرائيلي مسلح النار على بلال محمد صالح فأرداه قتيلاً أثناء قيامه بجني الزيتون بالقرب من نابلس.
هذه هي نوعية الحوادث التي تجسد الحياة في الضفة الغربية المحتلة، والتي اشتدت وتزايدت منذ هجوم حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، والذي هاجم فيه آلاف الفلسطينيين إسرائيل وقتلوا 1200 إسرائيلي، معظمهم من المدنيين، واحتجزوا أكثر من 200 رهينة. وكما أخبرني أحد رعاة الأغنام الفلسطينيين من وادي الأردن في أيلول/سبتمبر، حتى قبل اندلاع الحرب الحالية، فإن “ما نشهده هو تطهير عرقي. ويمكن لبؤرة استيطانية واحدة تسكنها عائلة أو عائلتان إسرائيليتان أن تسيطر على آلاف الدونمات من الأراضي، ويحرسها الجيش بالسلاح يحميهم والشرطة لا تفعل شيئًا”.
تصاعدت أعمال العنف التي ترتكبها القوات الإسرائيلية والمستوطنون بشكل حاد خلال الأسابيع الستة الماضية، في عام يُعد بالفعل الأكثر دموية بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين في الضفة الغربية منذ 20 عامًا،
وبينما تتجه كل الأنظار نحو غزة، حيث قتلت إسرائيل ما يزيد على 11 ألف فلسطيني، نصفهم تقريبًا من الأطفال، فإن الصحفيين وصناع القرار السياسي والمحللين، وإسرائيل ذاتها، يتعاملون مع الضفة الغربية باعتبارها جبهة منفصلة ومتميزة، وكأنها مجزأة. وحذر رئيس الشاباك، جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، من أن عنف المستوطنين يمكن أن يساهم في “انفجار” الضفة الغربية، مما يضر بالحرب الإسرائيلية في غزة. وقد حثت الولايات المتحدة إسرائيل مرارًا وتكرارًا على كبح جماح عنف المستوطنين في الضفة الغربية، محذرة من أنها قد تصبح جبهة أخرى في هذه الحرب، وقال الرئيس جو بايدن: “إنهم يهاجمون الفلسطينيين في الأماكن التي يحق لهم التواجد فيها”.
لكن الضفة الغربية أصبحت بالفعل واجهة؛ إنها جزء من نفس الحرب.
هناك، بطبيعة الحال، اختلافات بارزة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، بدءًا بالمناطق الجغرافية المنفصلة في كل منهما، فالضفة الغربية تحكمها جزئيًّا السلطة الفلسطينية (أو ما تبقى منها)، وليس حماس، وتحتلها إسرائيل من الداخل، في حين تخضع غزة منذ عام 2005 للعقاب من الخارج بحصار إسرائيلي. والضفة الغربية هي أيضًا موطن لنصف مليون مستوطن إسرائيلي. ولكن على الرغم من الفوارق والمسافة بينهما؛ فإن غزة والضفة الغربية هما موطن لشعب واحد، يشترك في حرب واحدة، تحت نظام واحد من الاحتلال الدائم والسيطرة الإسرائيلية.
بدأت إسرائيل احتلالها العسكري لغزة والضفة الغربية، فضلاً عن القدس الشرقية ومرتفعات الجولان وسيناء، بعد انتصارها على مصر وسوريا والأردن في حرب الأيام الستة عام 1967 (أعادت إسرائيل سيناء إلى مصر في عام 1982). ومنذ ذلك الحين؛ اتبعت إسرائيل استراتيجية “فرق تسد” التي أبقت السكان في الأراضي المحتلة منفصلين جسديًا، ومنعت الحركة والوصول فيما بينهم. إن إدارة وتقسيم جميع الأراضي الخاضعة لسيطرتها هو – وكما يدرك المزيد والمزيد من الناس – حقيقة دولة الكيان الواحد.
ومن عجيب المفارقات أن سحب رئيس الوزراء أرييل شارون من جانب واحد للقوات الإسرائيلية والمستوطنات من غزة في عام 2005، وبعد ذلك تم انتخاب حماس وسيطرت على القطاع في عام 2007، كجزء من إطار دولة الكيان الواحد. لم يكن الانسحاب تنازلًا أكثر منه تقليصًا للنفقات، نتيجة لحسابات ديموغرافية تركت لإسرائيل أغلبية سكانية يهودية في المنطقة الخاضعة لسيطرتها المباشرة في حين عزلت سكان غزة البالغ عددهم 1.5 مليون نسمة، كما كان لها أثر في زيادة تمزيق الجسم السياسي الفلسطيني وتقليص احتمالات قيام دولة فلسطينية موحدة، مما أدى إلى مزيد من إفراغ عملية السلام، وزعمت إسرائيل أن غزة لن تكون مسؤوليتها بعد الآن، حتى عندما فرضت حصارًا على المنطقة ومنعت في الغالب الحركة بين الضفة الغربية وغزة، وبين كل منطقة وإسرائيل.
إن هندسة الديموغرافيا والأرض التي تميز فن الحكم الإسرائيلي تنطبق بطبيعة الحال على عاصمة إسرائيل أيضًا، والتي تشمل القدس الشرقية المحتلة والمضمومة. هناك؛ شجعت الحكومة بشكل منهجي تهجير السكان على مدى عقود من خلال إلغاء الإقامة الدائمة للسكان الفلسطينيين ومن خلال جهود مجموعات المستوطنين للمطالبة بالممتلكات في أحياء مثل الشيخ جراح.
وفي مايو 2021؛ أثبتت حماس أن ما يحدث في القدس لا يبقى في القدس؛ حيث أطلقت الجماعة المسلحة صواريخ على المدينة من غزة في أعقاب سلسلة من الإجراءات القمعية والتصعيدية التي اتخذتها إسرائيل ضد الفلسطينيين في القدس، والتي كان أخطرها مداهمات الشرطة لمجمع المسجد الأقصى. وأدى هذا إلى اندلاع أعمال عنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين في جميع أنحاء فلسطين – في الضفة الغربية والقدس و”أراضي الداخل” – مما كشف عن أن هذه الانقسامات مصطنعة. وعندما هاجمت حماس إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر؛ أطلقت على عمليتها اسم “طوفان الأقصى”، حيث تمركزت مرة أخرى في القدس.
لقد هز الهجوم – بنطاقه غير المسبوق وتأثيره العميق على المدنيين – إحساس إسرائيل بالسيطرة على كامل أراضيها وشعور الإسرائيليين بالأمن. وهذا؛ بالإضافة إلى حقيقة أن الحركة الإسلامية هي الخصم الوحيد الذي خاضت إسرائيل حربًا معه منذ جيل كامل، يفسر السبب الذي يدفع إسرائيل إلى الضغط بقوة لإعادة فرض سيطرتها.
وتزعم إسرائيل أنها تسيطر الآن على الجزء الشمالي من قطاع غزة، وقد قامت بطرد الكثير من سكانه، وأمرت أكثر من مليون شخص بالتحرك جنوباً في بداية الحرب. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 800 ألف فلسطيني قد فعلوا ذلك بالفعل، ووفقاً للأمم المتحدة، فإن 1.5 مليون فلسطيني في غزة مشردون داخليًّا في جميع أنحاء القطاع (من إجمالي 2.3 مليون). كما اعترف مسؤول أمني إسرائيلي كبير سابق على القناة 12 الإسرائيلية في التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر، فإن نزوحًا بهذا الحجم لم يحدث منذ عام 1948، عندما أصبح 700 ألف فلسطيني لاجئين، وانتهى الأمر بالعديد منهم في غزة. وعلى نفس القناة بعد بضعة أيام، تفاخر آفي ديختر، الرئيس السابق لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي وعضو مجلس الوزراء الأمني الحالي ووزير في حكومة نتنياهو، بأن إسرائيل “تنشر نكبة غزة”.
ومن الواضح أن العديد أو معظم النازحين بسبب هذه الحرب لن يتمكنوا من العودة والعيش في شمال قطاع غزة لفترة طويلة بسبب الدمار، مما يتيح لإسرائيل حرية العمل هناك لفترة غير محددة، كما أنها تحاول تأمين حدودها مع غزة، فيما دعا اثنان من أعضاء البرلمان الإسرائيلي الولايات المتحدة وأوروبا إلى استقبال اللاجئين الفلسطينيين من غزة الذين يسعون للهجرة، فيما يبدو أنه اقتراح للهندسة السكانية تمت صياغته على أنه اهتمام إنساني، وهو صدى للمناورة الإسرائيلية في بداية الحرب لنقل الفلسطينيين من سكان غزة – لبعض الوقت على الأقل – إلى شبه جزيرة سيناء المصرية.
وفي الوقت نفسه؛ قتلت القوات الإسرائيلية والمستوطنون في الضفة الغربية ما يقرب من 200 فلسطيني في الأسابيع الأخيرة، أكثر من 50 منهم أطفال، في حين يُجبر عدد متزايد من الأشخاص في جميع أنحاء الضفة الغربية على ترك منازلهم. فوفقا للأمم المتحدة؛ منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر وحده؛ تم تهجير أكثر من 1000 شخص من 143 أسرة بسبب عنف المستوطنين والقيود المفروضة على حرية التنقل والوصول.
ورغم أن الحرب لم تؤد حتى الآن إلى جولة أخرى من العنف بين المواطنين اليهود والعرب في “أراضي الداخل”، إلا أن المواطنين الفلسطينيين في الدولة يشعرون بآثارها، وذلك من خلال حملة قمع شاملة لحرية التعبير في جميع أنحاء إسرائيل؛ حيث يتم اعتقال الفلسطينيين وإيقافهم عن العمل لمحاولتهم الاحتجاج على الحرب أو بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يعبر الكثير منها عن التعاطف مع الشعب الفلسطيني والقومية، لكن إسرائيل تدعي أنها تدعم حماس.
إنه قانون أساسي في الفيزياء: عندما تضع محتويات نظام مغلق تحت الضغط، فإنك تتعرض لخطر الانفجار. لعقود من الزمن، ظلت المعادلة هي نفسها: الحصار والقصف في غزة؛ والتوسع الاستيطاني والقمع والتهجير في الضفة الغربية؛ والحرمان من الحقوق في القدس الشرقية؛ وانتهاك الوضع الراهن الحساس في المسجد الأقصى؛ وإغلاق المجال العام أمام أي معارضة ذات معنى في إسرائيل. ووصف الباحث الإسرائيلي باروخ كيمرلينغ هذا بأنه “قتل سياسي”، أي التدمير المنهجي للهوية السياسية الفلسطينية ووجودها. فمرة تلو الأخرى، في منطقة أو أخرى، بشكل منفصل أو في انسجام، سلميًا أو مميتًا، لا بد أن يتفاعل الفلسطينيون، ثم تضاعف إسرائيل من استخدامها للقوة، وتستمر الحلقة المفرغة.
وبغض النظر عما سيحدث في هذه الحرب؛ فإن كل الناس وكل الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط ستبقى مرتبطة. ففي هذا الأسبوع فقط؛ في 16 تشرين الثاني/نوفمبر، أطلق العديد من الفلسطينيين من مدينة الخليل بالضفة الغربية المحتلة النار على عريف إسرائيلي فقتلوه وأصابوا خمسة جنود إسرائيليين آخرين عند نقطة تفتيش جنوب القدس، وتقول الشرطة إن المهاجمين خططوا على الأرجح لتنفيذ هجوم كبير داخل القدس نفسها، وأعلنت حماس مسؤوليتها.
من يعتقد أن هذه الحرب تبدأ وتنتهي بغزة فهو لا ينتبه، وأي جهود للتخفيف من حدة العنف يجب أن تنظر إلى الصورة بأكملها والسياق الكامل، وليس فقط إلى القطع والأجزاء.