هل سيمنحنا رمضان الفرصة للتمتع بتقاليده وعاداته مع أحبابنا؟، و هل ستكون هناك فرصة لكي نقضيه في بيت العائلة في بلدنا الأم، وأن نقوم بمشاركة الأحباب والأصدقاء طعام الإفطار المحبب إلينا كما تعودنا عليه في صغرنا؟ ربما لا تكون تلك أسئلة تشغل بال الكثيرين، إلا أنها حتمًا كل ما يشغل كثير من الأقليات والجاليات المسلمة حول العالم.
منذ عشر سنوات تقريبًا، كان رمضان شديد الاختلاف، كان ذو نسمات باردة، تتراوح زيارته السنوية في شهور الشتاء، كان النهار قصيرًا وساعات الصيام لا تزيد عن السبع ساعات في الأقطار المسلمة، لم تكن المواضيع السياسية تسيطر على موائد الإفطار، ولم تنقسم المجتمعات على خلفياتها السياسية، كان الكل متفقًا على أن الوضع سيء، إلا أنهم لم يتوقعوا أنه سيزداد سوءًا بتلك الدرجة الدموية.
قام جيل التسعينيات حينها بتوديع التلفزيون الرسمي واستقبل الفضائيات، والتي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الثقافة المجتمعية في شهر رمضان تحديدًا، فكانت مشهدًا رئيسيًا ضمن مشهد تجمهر أفراد العائلة حول مائدة الإفطار أمام المسلسل الذي كسب سباق الدراما واحتل مكانه للعرض في وقت الإفطار حينما تكون نسب المشاهدات الجنونية.
الآن، وخصوصًا بعد الربيع العربي، لم يعد شهر رمضان كذي قبل، لم تعد فوانيس مصر تضيء كما كانت، ولا مآذن دمشق وحلب تُكبر، وأسواق بغداد تُقفل أبوابها، اضطر الكثير والكثير من الشباب والعائلات من تلك البلاد بالإضافة إلى غيرها من البلاد المُضطهِدة للأقليات المسلمة، هجرة منازلها وأوطانها دون التفكير مرتين في القرار، حتى تجد نفسها تتخذ بلادًا غريبة عنها منزلًا جديدًا و وملجئًا مؤقتًا.
رمضان في الأقطار المسلمة
لا يمكننا إنكار مشاهد رمضان المألوفة في الأقطار العربية والمسلمة، والتي على اختلافها في الثقافات، اجتمعت على عادات مشتركة تظهر في كل من وقت الإفطار و وقت السحور، وما يرتبط بهما من مأكولات وحلويات محلية، ومشروبات مقدسة في تلك الأوقات، و مظاهر التجمعات والطقوس المرتبطة بها و التي لا يمر رمضان بدونها.
كان إلى جانب ذلك المظاهر العامة المرتبطة بذلك الشهر، مظاهر على المستوى الدولي، فكان منها الثقافة المجتمعية السائدة بأنه لا يجب تناول المأكولات والمشروبات خلال ساعات الصيام في الأقطار العربية تحديدًا، بل وصل الأمر إلى تقنين بعض التشريعات الخاصة بمعاقبة “المُجهر بإفطاره” علنًا في بعض الدول المسلمة، كالمملكة العربية السعودية التي تعاقب بالسجن والجلد جراء الإفطار في نهار رمضان.
وصل الأمر إلى تقنين بعض التشريعات الخاصة بمعاقبة “المُجهر بإفطاره” علنًا في بعض الدول المسلمة، كالمملكة العربية السعودية التي تعاقب بالسجن والجلد جراء الإفطار في نهار رمضان.
تُعاقب كثير من البلاد العربية المُجِهر بالإفطار مجتمعيًا على الرغم من عدم وجود قوانين بعينها تنص على عقوبة المُفطر في رمضان بدون عذر شرعي، فتقوم بحملة واسعة من الاعتقالات للمطاعم والمقاهي التي تقوم بالعمل في خلال ساعات النهار، إما لفرض سيطرتها الدينية على الشعب كنوع من أنواع التزام الخضوع لما تفرضه السلطة حتى ولو كان خضوع ديني، أو لترويج التزامها بالدين الإسلامي على الرغم من محاربتها الشديدة لكل مظاهر الإسلام السياسي كما هو الحال في مصر مثلًا.
الكل في البلاد المسلمة في حالة من التعود على أن ساعات نهار رمضان محرم فيها الأكل أو الشرب حتى على غير المسلمين، فكان ما سبق من أمثلة محاربة من القوانين، بالإضافة إلى العادات المجتمعية الصارمة من قبل الناس كذلك، حيث دائمًا ما يتوقع المسلمين من غير المسلمين احترام آداب رمضان، وعدم تناول المأكولات والمشروبات خلال نهار رمضان بشكل يجرح مشاعر الصائمين، ولكن ماذا إذا اختلفت البيئة، وكان الصائمون في بلاد لا تعرف الصيام؟
رمضان في بلاد لا تعرف الصيام
صورة من مظاهرات “وطنيون ألمان ضد أسلمة الغرب” في ألمانيا
تستقبل مدينة إسطنبول، العاصمة الثقافية لتركيا شهر رمضان من كل عام، بمائدة للإفطار يمتد طولها لمئات الأمتار في ساحة مسجد السلطان أحمد الشهيرة، والتي تنظمها بلدية إسطنبول، لاستقبال الصائمين من كل حدب وصوب، ومعهم الزائرين والسائحين القادمين للتمتع بنسمات الشهر المبارك في تركيا، بالإضافة إلى السائحين الأجانب، كنوع من الدعاية الثقافية للثقافة الرمضانية التي مازلت تحتضنها مدينة إسطنبول، كما إحتضنتها منذ عقود أيام الإمبراطورية العثمانية.
رمضان في إسطنبول بين تقاليد الماضي وعلمانية الحاضر
يعد مشهد مائدة إفطار ساحة السلطان أحمد، من أشهر المشاهد الرمضانية عالميًا، لا سيما أنه فرصة عظيمة لالتقاء العديد من الثقافات المختلفة على مائدة واحدة، حتى ولو لم يكونوا مسلمين، فتكون فرصة للمسلمين من ثقافات مختلفة للتعرف على بعضهم البعض حتى يقوموا بتلاوة الأدعية معًا باللغة العربية قبل الإفطار بدقائق، كما أنها فرصة للأجنبي من دين آخر للتعرف على عادات وتقاليد رمضان ومعايشتها مباشرة بجلوسه على مائدة الإفطار المجانية مع غيره من المسلمين.
على الرغم من احتفاء الأتراك برمضان، فهم مازالوا يحتفظورن بعادة “المسحراتي” من ينادي المسلمين للاستيقاظ وقت السحور، ومازال لهم مأكولاتهم الخاصة في الشهر الكريم، كما لهم زينتهم الخاصة للاحتفاء باستقبال رمضان، إلا أن تلك الظواهر الاحتفالية لم تكن داعمة بالشكل الكافي للجاليات العربية واللاجئين المسلمين لاسترجاع الأجواء الروحية كما كانت في بلادهم.
يعد مشهد مائدة إفطار ساحة السلطان أحمد، من أشهر المشاهد الرمضانية عالميًا، لا سيما أنه فرصة عظيمة لالتقاء العديد من الثقافات المختلفة على مائدة واحدة،
لا يمكننا اعتبار المشهد السابق مؤثرًا للأقليات المسلمة، ذلك لأن الأتراك مسلمين أنفسهم، إلا أن الوضع يختلف قليلًا هناك، فعلى الرغم من أن الغالبية العظمى بنسبة قد تصل إلى 97٪ من السكان بأنهم يدينون بالإسلام، إلا أن الالتزام الديني من قبل جميع شرائح المجتمع ليس بالشيء المعتاد عليه في تركيا، ففي رمضان، لن تتوقف المطاعم والمقاهي عن العمل، لا سيما أنه سيكون لها زوارها خلال ساعات نهار رمضان، كما لن يتأثر دوام العمل كثيرًا كما يحدث في الأقطار المسلمة، ولن يكون هناك إجازات خاصة بالشهر الكريم.
مشهد من إفطار ساحة السلطان أحمد في إسطنبول
تستمر الحياة بشكل طبيعي في شهر رمضان في تركيا، وعلى من يقرر الصيام هنا أن يلتزم بكل ما يحيطه، فعلى سبيل المثال، لا يمكن أن يكون الصيام هنا عذر لأي شيء، فلا يمكن أن يستغله الصائم للتأخر عن عمله، أو للتغيب عن مهامه، أو حتى لتفسير سلوكه الاندفاعي أو العصبي على غيره، كما يحدث بشكل يومي في البلاد المسلمة خلال ساعات النهار.
كانت الجاليات العربية ومعها اللاجئين في حالة من الصدمة الثقافية حينما مر عليهم أول شهر رمضان خارج بلادهم، فكان عليهم أن يتقبلوا الإجهار بالإفطار من حولهم على الرغم من كونهم في بلد مسلم مثل تركيا، بل كان عليهم أن يلتزموا بمواعيد العمل والدراسة كاملة، ولم يكن صيامهم عذرًا كافيًا لهم لكي يتحججوا بفعل عكس ما سبق، ليكون الحافز الرئيسي للصيام هو الالتزام الديني وليس التزامًا بالعادة المجتمعية وخوفًا من الوصمة المجتمعية أو من المعاقبة الدينية القانونية.
رمضان في الخارج
“جاستن ترودو” رئيس الوزراء الكندي في إفطار مع ممثلي إحدى الجاليات المسلمة في كندا العام الماضي
لم يكن التعود على ما سبق سهلًا، إلا أنه بالتأكيد لم يكن مستحيلًا، فمع التحولات الثقافية التي طرأت على الأقليات المسلمة في بلاد لا تعرف دينهم، كان لرمضان أيضًا شكلًا آخر معهم مختلفًا عما تعودوا عليه سابقًا، وخصوصًا هؤلاء من كانوا أقلية في البلاد الأوروبية والأمريكية وبعض البلاد الآسيوية.
لم يكن الخيار سهلًا أن يلتزم المرء بالصوم في محيط لا يعرف شيئًا عن ذلك الفرض الديني، بل وأحيانًا يراه شديد الصعوبة ولا داع لكي يمتنع المرء عن الطعام والشراب بإرادته مادام ليس هناك سبب يمنعه إلى ذلك، بل وليحتفظ المرء بالتزامه الديني في بلاد تهاجمه على ذلك وتقهره لإجباره على التخلي عنها.
لم يكن الخيار سهلًا أن يلتزم المرء بالصوم في محيط لا يعرف شيئًا عن ذلك الفرض الديني، بل ويجبره على التخلي عن ذلك الفرض
بحسب تقرير الجزيرة بلقان، يستقبل مسلمو صربيا الشهر الكريم بهدم لأحد المساجد في بلغراد، العاصمة الصربية، وهو من مركز من ضمن المراكز الداعمة للأقلية المسلمة في صربيا والتي تعمل على تمديدهم بالكتب الدينية والدروس الإسلامية، وكذلك على تأمينهم بما يحتاجون إليه في شهر رمضان من مؤن غذائية أو من خلال تنظيمهم لإفطار جماعي.
بعد منع المسلمين من الوصول إلى المركز، قامت السلطات بهدم ما كان فيه من مسجد من طابقين لمدة ثلاثة ساعات كاملة، وهو ما اعتبره المجتمع الإسلامي في صربيا بتعدي على حقوقهم وحرياتهم الدينية في البلاد.
يستقبل مسلمو صربيا الشهر الكريم بهدم لأحد المساجد في بلغراد، العاصمة الصربية
إن كانت السلطات تجبر المسلمين على الالتزام بمعتنقاتهم داخل منازلهم دون الإجهار بها علنًا في شكل مساجد ومراكز في الخارج، فإنها من الممكن أن تسمح به أحيانًا في كثير من البلاد الأوروبية ذات الأعداد الكبيرة من الجاليات المسلمة، ليس لأنها تؤمن بالحريات الدينية فقط، بل تكون بالنسبة إليها مصدرًا مهمًا لمراقبة النشاط الإسلامي في البلاد الأوروبية داخل تلك المساجد، لتستطيع منه مراقبة المجتمعات الإسلامية الصغيرة و السيطرة على نشاطاتها الجماعية.
إن كانت السلطات تجبر المسلمين على الالتزام بمعتنقاتهم داخل منازلهم دون الإجهار بها علنًا في شكل مساجد ومراكز في الخارج، فإنها من الممكن أن تسمح به أحيانًا في كثير من البلاد الأوروبية ذات الأعداد الكبيرة من الجاليات المسلمة لمراقبتهم
تكون تلك المراكز عينًا على المجتمعات الإسلامية للسلطات التي تحارب “الإرهاب”، إلا أنها في نفس الوقت ملاذًا للأقليات المسلمة وخصوصًا اللاجئين منها، لكي يجدوا ما يبحثون عنه من حنين لأوطانهم في شهر رمضان، ليعيشوا الجو الرمضاني مع غيرهم من المسلمين، ذلك لأن قلة العدد تجعلهم يشعرون بأن رمضان لا ميزة له خارج البلاد المسلمة، ولا شيء يميزه لأنه فقد أهم صفة وهي التجمعات الكبيرة.
الأقليات الخائفة في الصين
عنف الشرطة الصينية تجاه مسلمي الأويغور
في عزلة تامة عن العالم وتعتيم إعلامي على أخبارهم وأحوالهم، يستقبل مسلمو إقليم تركستان الشرقية (شينجيانج) بشمال غرب الصين شهر رمضان المبارك بقلوب مضطربة، ليس فقط خوفًا من الإجراءات الأمنية المشددة التي يتوقعون أن تتبعها السلطات الصينية ضدهم مثل حملات المداهمات والاعتقالات المكثفة، ولكن أيضًا لأنها ستعكر عليهم صفو الأجواء الرمضانية بالمحظورات التي ستفرضها على الصيام والصلاة والتراويح وحتى إخراج الزكاة.
رمضان حزين في كشمير
رمضان في كشمير حزين، وهو أشبه برمضان في فلسطين المحتلة، حيث يزيد رجال الدين الهندوس أو كما يسميهم مسلمو كشمير “جنود الاحتلال الهندوسي” من حصارهم للقرى والمدن الكشميرية التي تنطلق منها المقاومة خلال شهر رمضان الكريم؛ من أجل الحيلولة بين توجه الناس إلى المساجد التي يبلغ عددها في الإقليم نحو خمسة آلاف مسجد، كما يلقون القبض على من يشتبهون في أنه ملتزم دينيًّا، أو يشتبهون في أنه ينتمي إلى الجماعات الإسلامية.
رمضان في كشمير حزين، حيث يزيد رجال الدين الهندوس أو كما يسميهم مسلمو كشمير “جنود الاحتلال الهندوسي” من حصارهم للقرى والمدن الكشميرية التي تنطلق منها المقاومة خلال شهر رمضان الكريم
المساجد تريد الأمان
لا تكون صلاة التروايح مشكلة كبيرة في الأقطار المسلمة، ذلك لأن كل مجمع سكني يجاوره مسجد كبير، إلا أن في البلاد الأوروبية وأمريكا وكندا، تبعد المساجد كثيرًا عن المسلمين، ذلك لأنهم مهما زاد عددهم فيكونوا قلة، ومهما تسامحت السلطات معهم، لا يكون بناء مجمع إسلامي بهذه السهولة، إلا لو كان مدعومًا بأموال خليجية أو تركية، كما أنها لا تكون كبيرة المساحة ولا تكفي أعداد المصلين، الذين يستبدلون أحيانًا قباء المنازل للصلاة الجماعية.
بعد تزايد عدد الأحداث “الإرهابية” على المستوى العالمي، وبالأخص جرائم العنصرية والكراهية، لم يكن من المستحب للمسلمين الإصرار على الصلاة في المساجد في البلاد ذات الأقلية المسلمة، حرصًا على أمنهم وسلامتهم الشخصية بعد ما تم تفجير العديد من المساجد والهجوم المسلح على أخرى في بقاع مختلفة من الغرب.
تعتبر كل أقلية مسلمة رمضان شهرًا كباقي الشهور، إلا أنه يزيد عليهم أنهم يمتنعون عن الطعام من الفجر وحتى المغرب، إلا أنهم لا يجدون فيه عذر للتهرب من المسئوليات العملية، ولا يجدونه عذرًا كافيًا لانفاق الكثير من الأموال على المؤن الغذائية، كما تفعل كثير من البلاد العربية التي يتضاعف استهلاكها في شهر رمضان لمجرد تعويض ساعات الصيام بمزيد من الطعام.
تحمل كل أقلية عاداتها الرمضانية، وأكلاتها المحلية في شهر رمضان معها إلى بلد اللجوء، من أجل الاحتفاظ بآخر ما تبقى من روابط تربطهم بحياتهم في موطنهم الأم، وما بين عدد الساعات الطويل جدًا للصيام، وما بين تضييق السلطات الغربية عليهم في الاحتفاظ بعاداتهم وتجمعاتهم معًا، إلا أنهم مازالوا يسعون لاستحضار الأجواء الروحية والاجتماعية في بلدانهم الأصلية أو بالاحتفاظ بمعتنقاتهم كأقلية في بلد غير مسلم.