فجأة بلا مقدمات وفي هجوم مباغت كما كان يفعل خالد بن الوليد بأعدائه، سرى يوسف الشاهد على الفساد وقال عند الغنم يحمد القوم السرى، وها نحن ننتظر انجلاء غبار المعركة.
لقد فوجئنا فعلا فلا شيء قبل ذلك كان يدل على أن الرجل سيدخل المعركة أو يشير إليها، قبل أيام قليلة كنا نتظاهر ضد قانون الفساد ونعلن عدم العفو عن الفاسدين، فيما اعتصامات الجنوب المُفقّر لا تزال مفتوحة على أشكال تصعيدية قوية قد تصل إلى العصيان المدني، والحكومة ورئيسها يتصاممون دون صراخنا، وقانون مصالحة الفاسدين يفرض على جدول أعمال البرلمان، وفجأة أعلنت الحرب.
الشكوك بشأن حركة يوسف الشاهد رئيس الحكومة قبل أسبوع من شهر رمضان باعتقال بعض الوجوه المعروفة بفسادها المالي والسياسي أقوى من اليقين بجدية ما بدأه
هل هي حرب فعلية ولها خطة وأهداف أم استراق زخم الشارع بترضيات محدودة؟ الشكوك بشأن حركة يوسف الشاهد رئيس الحكومة قبل أسبوع من شهر رمضان باعتقال بعض الوجوه المعروفة بفسادها المالي والسياسي أقوى من اليقين بجدية ما بدأه، لكن ليس لنا إلا انتظار انجلاء غبار حملة الاعتقالات، أو بالأحرى حملة تحديد إقامة بعض الأشخاص بحكم قانون الطوارئ وهو إجراء لا يرقى إلى الاعتقال والاتهام والإحالة إلى القضاء.
شرعية المعركة ضد الفساد
لا يختلف اثنان في تونس بشأن أهمية مقاومة الفساد وإرساء حوكمة رشيدة، حتى الفاسدين أنفسهم يقرّون بذلك ويبذلون جهدهم لإدامة فسادهم، كان هذا حديث ما قبل الثورة وما بعدها وحديث الشارع والأحزاب والحكومات، لكن لا أحد جرؤ على البداية، بل رأينا طبقة سياسية حاكمة ومعارضة تفاوض مع الفساد وتسترزق منه بالارتشاء وتمويل النضالات وبعضها نضالات ضد الفساد بأموال الفساد، حتى صار الأمر مثيرًا للسخرية السوداء ثم الاشمئزاز ثم القرف من السياسة والنخبة عامة.
وصلت التحليلات إلى قناعة أن الفساد ليس أشخاصًا محددين يمكن تجميعهم ومحاسبتهم أو التصالح معهم بشكل قانوني يحفظ حق البلد، القناعة الآن أن الفساد نظام كامل يبرز منه أشخاص كما يبرز رأس جبل جليد عائم، لكن العمق الفاسد مس كل أجهزة الدولة وإدارتها وجعل نخبتها رهينة للفساد عاجزة دونه كلما حاول أحدهم “مرمطوه”، هكذا قال الفاسدون للحبيب الصيد رئيس الحكومة السابق الذي يبدو أنه بدأ المساس بالفاسدين فعزل وأهين.
النقاش إذًا ليس في مستوى الاتفاق على ضرر الفساد على الدولة والمجتمع بل النقاش الآن في سبل المقاومة، وهل يوسف الشاهد وحكومته جدّيون فيما دخلوا فيه من حرب؟ وهل لديهم الوسائل الناجعة؟ فلكل معركة سلاح وخطة ويبدو أننا فوجئنا أولاً بسرعة إعلان الحرب وبعد ثلاثة أيام نحن نفاجأ بغياب كلي لأي خطة ولا نعرف الوسائل وربما نقف في يوم الأحد (بالكثير) على أن يوسف كان يحقق نزوة من نزوات الطفل المدلل الذي غضب من قول شفيق الجراية الذي قال له بصوت مسموع في الإذاعة إن يوسف لا يقدر على إمساك عنزة فما بالك ببارونات الفساد، قد تكن كل هذه المعركة ردة فعل طفولية غير عالمة بل جاهلة تمامًا بمصير الدولة تحت قبضة الفساد وبمصير النظام السياسي إذا دخل معركة ولم ينهها بحسم منتصر.
نحن إزاء صورة ضبابية فإذا أحسنّا الظن قلنا إن الشاهد أعد عدته في صمت وفي هذه الحالة يكون من صالحه الآن أن يصارح الناس ببعض هذه الخطة لكي يلقى السّند الشعبي، أما إذا أسأنا الظن فإن كل الاحتمالات تصير ممكنة بما في ذلك تصفية الحساب الشخصي مع الجراية الذي أهانه في الإعلام
كيف تدخل معركة ضد الفساد وأنت تعرف أن هذا الفساد قد استولى على الآلة الإعلامية ووظفها ضدك قبل البدء والخاتمة؟
كيف تدخل معركة مماثلة ولديك قطب قضائي متخصص ولكن مجمد والملفات التي بين يديه مكومة ومركونة للنسيان؟
كيف تعتمد مدخلاً قانونيًا مؤقتًا لجرائم ثابتة وتعرض كل المسار إلى براعة محامين شرسين يعرفون أن الفساد يدفع جيدًا من أجل تأويل النص لصالحهم؟
نحن إزاء صورة ضبابية فإذا أحسنّا الظن قلنا إن الشاهد أعد عدته في صمت وفي هذه الحالة يكون من صالحه الآن أن يصارح الناس ببعض هذه الخطة لكي يلقى السّند الشعبي، أما إذا أسأنا الظن فإن كل الاحتمالات تصير ممكنة بما في ذلك تصفية الحساب الشخصي مع الجراية الذي أهانه في الإعلام.
الساحة السياسية تتفاعل
الموقف الغالب على الساحة منذ بداية حملة الاعتقالات هو المراقبة الحذرة لتطور الأحداث، فأغلب المدونين كتبوا في هذا الاتجاه نعم لمقامة الفساد ولكن بخطة متينة وقانونية وحاسمة، لكن يمكن تبين ملمح ردة الفعل السياسية العامة.
فحزب النداء (شق ابن الرئيس ومن خارج البلاد) أعلن مساندته للحملة ولرئيس الحكمة رغم أن الفاسد الأول المقبوض عليه هو عضو هيئة النداء السياسية والممول الرئيس للحزب ويعتبر من شق ابن الرئيس، وهنا توجد حيرة مضاعفة، فابن الرئيس في خلاف كبير مع الشاهد ويريد عزله بما يعيدنا إلى مسألة تصفية الحسابات داخل الحزب نفسه.
الموقف الأوضح كان موقف حزب النهضة الذي ساند الحملة بوضوح معتبرًا إياها ضرورية وحتمية، ودعا إلى مساندة الحكومة في ذلك وهو ما أربك موقف الطيف السياسي اليساري خاصة الذي كان يتهم النهضة بالضلوع في الفساد، فلما سبقت إلى دعم عملية القبض على الفاسدين فقد خصومها موضوعهم المفضل.
بقية الطيف السياسي والذي كان صوته عاليًا في الشارع ضد الفساد سكت بشكل غير متطابق مع حماسه القديم ونحا البعض من الأحزاب نحو التشكيك في جدية الحملة وشجاعة يوسف الشاهد.
هنا تجلى موقفان الأول هو الرضا بالبداية مهما كانت نيتها وخلفيتها ودفعها إلى التبلور وإسنادها في الشارع (حزام النهضة شارك في الدعوة إلى التظاهر بالقصبة عشية الجمعة 26 من مايو لمساندة الشاهد)، فالقليل من محاربة الفساد يفتح الطريق إلى الكثير والمهم أن يشرع فيه ولو بعدم التركيز على كل شقوقه.
بينما الثاني يشكك في الحملة ويعتبرها تمويهًا عن الفساد العميق والاكتفاء بالسطحي (أباطرة التهريب والاقتصاد الموازي لفسح المجال لاقتصاد مهيكل يسيطر عليه أيضًا فاسدون)، فالبعض ذهب إلى حد القول بأن أغنياء بورقيبة (أثرياء الانفتاح الأول/الاقتصاد المهيكل ) يطاردون الآن أثرياء بن علي (أثرياء التهريب والاقتصاد الموازي) وما الحملة إلا انتقام (تذكر الكثيرون هنا أيضًا مناورات أيام الثورة حين أراد أغنياء بورقيبة إسقاط بن علي وجماعته والاستيلاء على السلطة مستفيدين من هوجة الشارع وما يجري الآن هو مواصلة لتلك المناورة).
الموقفان لا يمنحان ثقة مطلقة ليوسف الشاهد وعليه إثبات أنه أهل للثقة وعمله ليس مناورات قصر في مربعات الأثرياء لتصفية حسابات قصيرة.
ما المطلوب يا سيد يوسف؟
ليس هذا من باب النصيحة لكن انتباه التونسيين لألاعيب الحكومة لم يعد يسمح بالتحايل عليهم، لذلك إذا كان السيد رئيس الحكومة يريد دخول هذه المعركة فليكن واضحًا وشفافًا ويتحدث إلى الناس، الناس ضد الفساد لأنهم ضحاياه، والشاهد ليس من ضحايا الفساد، بل ثمرة دولة الفساد التي أوصلته إلى السلطة، هل نقول له توقف عن هذا المسرح السخيف؟
نقول له اذهب وقاتل المعركة وحدها ستكشف قوتك وبقدر قوتك ستنال ثقة الضحايا وكثير منهم يراك في غزوتك الأخيرة ويترحم عليك بعد ويسعد أن لن تكون مرشح الفساد لرئاسة الجمهورية عام 2019.