تتزايد الانتهاكات ويتسع نطاق المجازر ووقاحة آلة الحرب الإسرائيلية، في تطبيق سياسات دولة الاحتلال الهادفة إلى الإبادة الجماعية بحقّ المدنيين العزل بقطاع غزة، وسط غطاء -بل دعم مباشر- أمريكي أوروبي، وعجز المجتمع الدولي عن إيقاف الفظائع المروعة.
فمنذ 44 يومًا، ارتكب الجيش الإسرائيلي أكثر من 1300 مجزرة (بالتعريف الدولي للمجزرة) في عدوانه المستمر على قطاع غزة المحاصر، راح ضحيتها 12 ألفًا و300 شهيد، بينهم 5 آلاف طفل و3 آلاف و300 امرأة، فضلًا عن أكثر من 30 ألف مصاب، 75% منهم أطفال ونساء، وفق أحدث إحصاء رسمي فلسطيني صدر مساء السبت الماضي.
إذ جرى استهداف أحد أكبر مراكز الإيواء التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”، فلم يردع القصف علم الأمم المتحدة الذي يرفرف فوق مدرسة الفاخورة ومن لجأوا إليها، هربًا من حمم الصواريخ والقذائف العشوائية، مخلفًا أكثر من 200 شهيد.
تعليقًا على مجزرة الفاخورة، قال المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في فلسطين، في بيان: “هذا أمر مشين، ويظهر مرة أخرى استهتارًا صارخًا بحياة المدنيين. لم يعد هناك مكان آمن في غزة، ولا حتى منشآت “الأونروا””، ويضيف أن “مدارس قد تعرضت للقصف رغم قيام “الأونروا” بتوفير إحداثيات منشآتها لجميع “الأطراف المعنية” كل يوم، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي”.
كما وثقت منظمة العفو الدولية ارتكاب القوات الإسرائيلية هجمات غير قانونية، تسبّبت في سقوط أعداد كبيرة من المدنيين، وأوصت بالتحقيق فيها على أنها جرائم حرب.
ما أبرز الانتهاكات الإسرائيلية بغزة وفق القانون الدولي؟
وتعرف جرائم الحرب بأنها تلك الانتهاكات لقوانين الحرب أو القانون الدولي، التي تعرض شخصًا للمسؤولية الجنائية الفردية، ولم يتبنَّ المجتمع الدولي فكرة المعاقبة على جرائم الحرب بسهولة، إنما مرت هذه الفكرة بعدة مراحل، من معاهدة فرساي 1919، واتفاق لندن 1945، واتفاقات جنيف 1949، وقد اعتبر المجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الأولى انتهاكات معينة لقوانين الحرب جرائم، وأدخل تعديلات على اتفاقَي لاهاي لعام 1899 وعام 1907.
بحسب المعاهدات الدولية التي نظمت قوانين الحروب، هناك أنواع للجرائم: تعذيب الأسرى أو إساءة معاملتهم أو إعدامهم؛ الجرائم الموجهة ضد المدنيين والتعدي على الممتلكات الشخصية؛ التشغيل والتهجير القسري؛ والتعذيب والإبادة الجماعية.
وتشمل الجرائم ضد الإنسانية: القتل والإبادة والتعذيب والتهجير والإبعاد والاستبعاد والإرهاب والاعتقال غير الشرعي والاضطهاد، لأسباب سياسية أو دينية أو عرقية، سواء كانت فردية أو جماعية، ويلحق بهذه الأعمال تلك الشبيهة بها التي تقترQف ضد المدنيين في المناطق المحتلة.
استنادًا إلى اتفاقية جنيف الثالثة أو الرابعة واتفاقية لاهاي لقواعد الحرب البرية وقرار الجنائية الدولية، لم يبقَ شيء لم تقترفه قوات الاحتلال خلال عدوانها المستمر على غزة، إلا وأنه يصبّ في سياسة التطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية، وكل ما حصل بقطاع غزة ينطبق عليه القانون الدولي بكل تفاصيله، بحسب مدير مركز شمس لحقوق الإنسان في رام الله الدكتور عمر رحال.
وأوضح رحال لـ”نون بوست” أن أبرز الانتهاكات التي تصنَّف على أنها جريمة حرب، تتمثل في الاستهداف المتعمد والمباشر للمدنيين، وتعمُّد سياسة التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وتشمل الجرائم ضد الإنسانية الإبادة وإبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، كإجبار أهل القطاع على النزوح.
وأشار إلى أن الحصار ومنع إدخال المياه والوقود والمستلزمات الطبية من مأكل ومشرب خلال الحرب لأجل إبادتهم وإيقاع المزيد من الضحايا، يعدّ انتهاكًا آخر للقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان، كذلك الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي، بحسب رحال، تتمثل في انتهاك الأعيان المدنية من المستشفيات والمدارس ودور العبادة، ومراكز الإيواء والمخابز والمراكز الطبية والصحية، ومحطات تحلية المياه والممتلكات الخاصة، وهذا كله لسلب الحياة المدنية، هذا إلى جانب البنية التحتية للقطاع وتدميرها وتخريبها.
واستعان بحديث الصحة العالمية بأن كل شخص بحاجة إلى 50 لترًا يوميًا من المياه بالحد الأدنى المطلق لتلبية الاحتياجات الأساسية بما فيها الشراب والغسل والاستحمام والنظافة الشخصية، لكن اليوم نتحدث عن أقل من نصف لتر يحصل عليه المواطن الفلسطيني بغزة.
ومع الإشارة إلى أن 95% من مياه قطاع غزة غير صالحة للشرب، بالتالي هناك تعمُّد لتعطيش الناس وإصرار على قصف مراكز الإيواء التي يرفرف فوقها أعلام الأمم المتحدة، وكل ذلك يبرهن على أن الانتهاكات والجرائم التي ترتكبها “إسرائيل” وفق معطيات القانون الدولي، هي أقرب ما يكون إلى الإبادة الجماعية.
من جهته، يقول أستاذ القانون الدولي ورئيس اتحاد المحامين العرب في باريس، مجيد بودن، إن “الأراضي الفلسطينية ليست تابعة لـ”إسرائيل” لكن هي تحت احتلالها، وبالتالي هناك مسؤولية إسرائيلية، إذ تجب عليها حماية هذه الأراضي وسكانها، والحماية تعني أن تمتنع عن الاعتداء عليهم خاصة المدنيين منهم، وحمايتهم واجب في القانون الدولي، وإن لم تطبّق ذلك فيعدُّ الأمر خرقًا للقانون الدولي”.
ويبيّن أن “المنظمات الدولية والإنسانية، وفقًا للأعراف والمواثيق الدولية، لا يمكن المساس بها، لأنها تحت وصاية الدولة المحتلة وضمانتها، وتاليًا لا يجوز قصف هذه المنشآت أو العاملين فيها أو إيقاف أعمالهم، إلى جانب إقصاء المدنيين وإخراجهم من بيوتهم بالقوة وترحيلهم أو اعتقالهم أو إخفائهم قسرًا، وهذا مخالف للقانون الذي يعدّ كل ترحيل قسري قائم على الإكراه والإجبار انتهاكًا”.
تحركات قانونية في العالم لإدانة “إسرائيل”
وفي ظل تصاعد المجازر والانتهاكات بحقّ الأعراف والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، سعت تحركات قانونية أجنبية لتوثيق الانتهاكات الإسرائيلية خلال عدوانها المتواصل على قطاع غزة، وجرائم الحرب التي مورست فيها، بالإضافة إلى السعي لتحقيق العدالة ولو بأقل مقاديرها، وطرحت تحركات قانونية للمطالبة بتحقيق العدالة للضحايا ومحاسبة “إسرائيل” ومن يوفر لها الحماية والدعم.
وكشف المحامي الفرنسي جيل ديفر، الذي يرأس “جيش محامين” للدفاع عن المضطهدين الفلسطينيين في المحكمة الجنائية الدولية، عن الأسباب الموجبة لاعتبار ما يحدث في غزة إبادة جماعية.
وحشد المحامي الفرنسي “جيشًا” يضم 500 محام من أنحاء العالم، لتمثيل المضطهدين الفلسطينيين في المحكمة الجنائية الدولية، ضد الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي ارتكبتها “إسرائيل” في غزة، حيث يعمل في هذا المجال منذ سنوات طوال.
وفي حديثه لـ”الأناضول”، قام ديفر بتقييم العريضة التي رفعوها مذيّلة بتوقيع مئات المحامين، من أجل تضمين جريمة الإبادة الجماعية والهجمات الإسرائيلية على غزة، في التحقيق الفلسطيني الحالي في المحكمة الجنائية الدولية.
وذكر أن هناك قرابة 80 حاشية قانونية في العريضة التي قدموها، فيما يتعلق بجريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” في غزة، مشيرًا إلى أن أي حدث يعتبَر إبادة جماعية إذا تعرض وجود مجتمع للخطر، وانقطعت سبل وصوله إلى أبسط الاحتياجات الأساسية.
ولفت ديفر إلى امتلاك أدلة كثيرة، بما في ذلك الوثائق التي عرضتها وسائل الإعلام والشهادات التي تمّ الحصول عليها من المنطقة، وتابع: “مستوى أدلتنا مرتفع للغاية، ولهذا السبب نطلب إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو”.
وأردف: “توصلنا إلى صور صادمة عرضها جنود الاحتلال للانتقام، والتي يمكن اعتبارها غير إنسانية”، وبيّن أن من بين الصور المذكورة ما يظهر جنودًا إسرائيليين يضربون أسرى فلسطينيين ويسخرون منهم، أثناء وضعهم في حافلة وهم عراة.
إلى جانب دعوة المحامي الفرنسي، وجّهت عدة منظمات حقوقية فلسطينية دعوى قضائية مشتركة رفعتها إلى المحكمة الجنائية الدولية ضد الحكومة الإسرائيلية، بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين في غزة، وعلى رأسها جريمة الإبادة الجماعية.
رفعت منظمة “مراسلون بلا حدود” في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 شكوى إلى مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بشأن ارتكاب جرائم حرب، إذ يتطرق ملف القضية بالتفصيل إلى حالات الصحفيين الذين قُتلوا والاثنين اللذين أُصيبا أثناء التغطية الإعلامية، والتدمير المتعمد، كليًّا أو جزئيًّا، لمباني أكثر من 50 وسيلة إعلامية في غزة.
ووفقًا للحصيلة التي أحصتها المنظمة، قُتل أكثر من 50 صحفيًّا منذ بداية الصراع الدائر بين “إسرائيل” وحماس، 12 منهم على الأقل لقوا حتفهم أثناء قيامهم بعملهم، 10 في غزة وواحد في كل من “إسرائيل” ولبنان.
كما أعلنت مجموعة من محاميي حزب العدالة والتنمية في تركيا، رفع دعوى جماعية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة الإبادة الجماعية.
هل من جدوى؟
يعلق على تلك الجهود أستاذ القانون الدولي مجيد بودن، بالقول إن “محاكم الجنائيات الدولية تعاقب مرتكبي كل هذه الجرائم والانتهاكات، فهناك سلسلة من الأشخاص تحت طائلة المحاسبة، بداية من الذي أعطى القرار وحتى الذي نفّذه، ولا يمكن للّذي نفّذ أن يتحجّج بأنه لم يصنع القرار، ولا يمكن للّذي قرر أن يقول أنا لم أنفّذ، كلاهما تحت تهمة ارتكاب فعل إجرامي مسترسل في القانون الدولي”.
ويشير رئيس اتحاد المحامين العرب في باريس، إلى أن المحكمة الجنائية الدولية من الممكن أن تتتبّع كل شخص أو جهة تقوم بتلك الانتهاكات، وتاليًا الواجبات الحقوقية والقانونية تطبَّق، وكما تطبَّق في أوكرانيا تطبَّق بغزة، القانون ينظر إلى الناس على أنهم سواسية، مهما كانت جنسيتهم وعرقهم وانتماءاتهم، وهنا تتمثل قوة القانون، وإن لم يقع احترام القانون فهذا لا يعني أن مبادئ القانون تضرب بعرض الحائط.
“في القانون لا يمكن لطرف أن يتحصل على حقه دون المطالبة به، وفلسطين عضو في محكمة الجنائيات الدولية، وحتى لو كانت “إسرائيل” رافضة للعضوية فإن الاختصاص ثابت في المحكمة الدولية في نظامها الأساسي. فلسطين لها الحق في ملاحقة جرائم “إسرائيل” أمام محاكم الجنائيات الدولية، لأنها عضو في هذه المحكمة، ومهما طال الزمن أو قصر تجب المثابرة على التقاضي، وأيًّا كانت الصعوبات ستأتي النتيجة”، وفقًا لحديث أستاذ القانون مجيد بودن.
ويحثّ مدير مركز شمس للإعلام الحقوقي، الفلسطينيين على ألا يسقطوا أي من الخيارات والمسارات التي تهدف إلى محاكمة “إسرائيل” وتوثق جرائمها خلال عدوانها على غزة، وأضاف: “نحن مقتنعون بأن العدالة لن تكون منجزة غدًا أو العام القادم، نعي جيدًا أن محكمة الجنائية الدولية يمارس عليها ضغوط كبيرة من الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية، الأمر الذي يعني أنه سيكون هناك تلكُّؤ ومواربة من قبل الجنائية الدولية لفتح تحقيقات أو اتخاذ قرار يتعلق بإدانة قادة “إسرائيل”، العسكريين منهم والسياسيين”.
“مع ذلك، لا يعني أننا نهمل هذا الجانب القانوني المهم، بل نستخدم كل الخيارات والمسارات، نحن على وعي ودراية أن الجنائية الدولية فيها الكثير من التنفيذ، مثلما قررت المحكمة الدولية قبل مرور عام على حرب روسيا وأوكرانيا أن بوتين “مطلوب للعدالة”، وقبله عمر البشير وغيره، ما يعني أن هناك ضغطًا لكن لا يمكن إسقاط هذه الخيارات، يومًا ما ستكون هذه التحقيقات في اتجاه القانون الدولي والمحاكم الدولية في لاهاي، وسيكون لها أثر في ملاحقة قادة العدو وحصارهم”، وفق تصوره.
كيف أوثّق جريمة حرب من داخل غزة؟
من حسن الحظ، أن رفع الشكوى وتقديم الأدلة للمحكمة الجنائية الدولية لا يقتصر على الحكومات أو الدول، إذ بإمكان أي فرد متضرر من هذه الحرب من داخل غزة أو من خارجها التواصل مع المحكمة وتقديم الشكاوى أو الأدلة.
ويوضّح مدير مركز شمس لحقوق الإنسان، أن الصحفيين بغزة نقلوا شهاداتهم عن تلك الجرائم من عين المكان، وهذا التوثيق أدّى إلى بناء وتشكيل رأي عام مناصر للشعب الفلسطيني، وأدّى إلى تغيير الرأي العام بعد أيام من بداية العدوان.
إلى جانب أن ما يتم توثيقه من عين المكان من الجرائم والقرائن أدلة مهمة جدًّا لمسارَين، الأول مرتبط ببناء رأي عام دولي، وهو مسار آني ولحظي لتوثيق ونقل ما يجري من جرائم، وهذا يساعدنا على مستوى الرأي العام الدولي وعلى المستوي السياسي، وإلى جانب ذلك والأهم ستساعدنا هذه الأدلة والقرائن على أن يتم استخدامها في إدانة الاحتلال.
“لولا هذه التوثيقات والأدلة التي يقدمها الصحفيون والصحفيات، لم ولن نستطيع أن نفتح ملفات جرائم “إسرائيل” بغزة على المستوى الدولي، أو أن نكوّن ونوثّق للذاكرة البعيدة والأجيال القادمة ما حصل من انتهاكات. هذه التوثيقات ستبقى تذكّر العالم بهذا البطش وهذه الجرائم والمذابح التي ارتكبها الاحتلال، لأنها لن تُمحى من الذاكرة كما لن يفلت الاحتلال من إنكارها ومن ثم العقاب”.
وإلى جانب هذه الأدلة، يمكن الاحتفاظ بأجزاء من بقايا شظايا أو رصاص، مع الحذر الشديد من البقايا المتفجّرة أو المسمّمة، لتقديمها من قبل أفراد فقدوا أفراد عائلاتهم، أو شهود على جرائم حرب.
يمكن التبليغ عن الانتهاكات كأفراد، من خلال ما أتاحته المحكمة الدولية عبر مواقعها الإلكترونية من نماذج (اضغط هنا للوصول إلى نموذج التبليغ)، لاستقبال الشهادات بشكل مباشر إلى المحكمة الجنائية الدولية، وسيتم ضمّها إلى الملف الخاص بالانتهاكات في غزة.
وعلى الصعيد المحلي، تستقبل 4 مؤسسات فلسطينية الأدلة على الانتهاكات وترسلها إلى الجنائية الدولية، وهي مؤسسة الحق، والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان – ديوان المظالم، ومؤسسة الضمير، ومؤسسة الميزان.
أخيرًا، من المهم جدًّا لإثبات حالة الإبادة الناتجة عن الحصار، توثيق اليوميات بالساعة والمكان، فالإبادة فعل طويل الأمد، ويجب إثباته من خلال توثيق أثره الممتد زمنيًّا.