في عام 1870، تنبأ الروائي الفرنسي غوستاف فلوبرت بأن خلال قرن منذ ذلك الوقت، فإن إسطنبول ستصبح عاصمة للعالم، مر القرن وبعده عدة عقود، وبدأت تلك المدينة التاريخية العريقة في الازدهار شيئًا فشيئًا، وتحولت المدينة التي تصل بين القارة الأوروبية والآسيوية من مدينة هادئة إلى واحدة من المدن العملاقة يعيش فيها ما يقارب الـ15 مليون نسمة.
في عام 2014، كانت هناك قفزة في ترتيب إسطنبول بالنسبة لأكثر الوجهات للسفر والسياحة دوليًا، فتجاوزت مرتبة باري وروما ودبي، لتعتلي المرتبة الأولى في أكثر الأماكن قصدًا من قبل المسافرين والسائحين حول العالم، ربما لم تحتفظ إسطنبول بتلك المرتبة كثيرًا، لا سيما بعد أن كانت هي الأخرى ضحية للعمليات الانتحارية والهجوم الإرهابي، إلا أنها مقارنة بأشهر المعالم السياحية، فما زلت في المقدمة.
تضاعفت القدرة الإنتاجية في تركيا منذ عام 2004، وبالأخص في إسطنبول، والتي تمثل 20% من نسبة السكان، و40% من إيرادات الضرائب، صاحب ذلك خطة من الحكومة التركية بخصوص مشاريع وأعمال البناء المستقبلية، والتي ستُكلف مئات البلايين من الدولارات، والتي ستعمل على تغيير وجهة كثير من الأحياء العريقة في إسطنبول على وجه التحديد، كما أنها ستغير من مكانة تركيا الاقتصادية خلال خمس سنوات من الآن.
في عام 2014، كان هناك قفزة في ترتيب إسطنبول بالنسبة لأكثر الوجهات للسفر والسياحة دوليًا، فتجاوزت مرتبة باريس وروما ودبي، لتعتلي المرتبة الأولى في أكثر الأماكن قصدًا من قبل المسافرين والسائحين حول العالم
في حوار مع الصحيفة التركية “حرييت” في العام الماضي كشف رئيس الوزراء بن علي يلدرم عن خطة الحكومة بخصوص مشاريع البناء، والتي وصفها بالمشاريع الضخمة والتي ستعود بالنفع الكبير على الاقتصاد التركي، حددها في سبعة مشاريع تم إنجاز البعض منها والبعض الآخر قيد التنفيذ، كان أهمها مشروع أكبر مطار في العالم، وثالث مطارات إسطنبول، المقرر إنجازه في نهاية العام المقبل بحسب تصريحات وزير النقل والمواصلات التركي أحمد أرسلان بأن الوزارة تعمل على تحقيق هدف 200 مليون مسافر سنويًا بعد إنجاز أكبر مطار في العالم.
كشف رئيس الوزراء بن علي يلدرم عن خطة الحكومة بخصوص مشاريع البناء، والتي وصفها بالمشاريع الضخمة والتي ستعود بالنفع الكبير على الاقتصاد التركي، كان أهمها مشروع تطوير وتحسين الأحياء العريقة في إسطنبول وتحويلها من أحياء تاريخية إلى أحياء حديثة
تنوعت المشاريع بين قطارات تصل بين مختلف المدن التركية وبالأخص الصناعية، وكذلك جسور تصل بين الجانب الأوروبي من إسطنبول ومنطقة “إيجه” حيث مدينة “إزمير” وأنفاق تحت البحر تصل الجانب الآسيوي بالجانب الأوروبي في المدينة، بالإضافة إلى ما لا يقل أهمية عن مشروع مطار إسطنبول الثالث، وهو مشروع تطوير وتحسين الأحياء العريقة في إسطنبول وتحويلها من أحياء تاريخية إلى أحياء حديثة.
أحد مشاريع البناء في منطقة “فيكيرتيبه” في إسطنبول
القليل من التاريخ والكثير من الحداثة
“منذ عام 2007 ونحن نشاهد المحلات بجاورنا تغلق شيئًا فشيئًا، وبالأخص تلك العائدة للأقليات الدينية في إسطنبول، كالتجار اليهود أو المسيحيين من تبقى من المهاجرين منهم منذ عقود مضت، أما عنّا فنحن ليس بأيدينا حيلة، لقد تمنينا أن يكون القرار عائدًا لنا، ولكن هذا القانون سينهي حياتنا التجارية هنا”.
كان هذا على لسان أحد التجار المحليين بمنطقة “باي أوغلو” في مركز إسطنبول في تقرير من وكالة “رويترز“، والتي كانت أكثر المناطق التي تميز إسطنبول تاريخيًا، حيث كانت مركز الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في إسطنبول، استوطنها غير المسلمين في العهد العثماني، وشكّلت مكان إقامة لأولئك الذين يعملون في “باي أوغلو”، فسكنها اليهود واليونان والأرمن، وتعود معظم المباني فيها إلى القرن التاسع عشر.
بعد رحيل الأقليات غير المسلمة عن تركيا، تاركة خلفها كثير من المباني والمحلات المهجورة التي لم يجد أغلبهم الوقت لبيعها قبل الرحيل، أتاحت هذه المساكن المهجورة، التي تبعد مسافة قصيرة عن المنطقة التّجاريّة، مجالاً واسعًا لاستغلال الأملاك داخل المدينة، حيث تم هدم أكثر من 300 مبنى شرقي من أجل بناء “طارلاباشي جاديسي” وأدى إلى تسريع الانحلال الاجتماعي والاقتصادي والمادي للحي بما يتعذر إصلاحه، وقد أدى ذلك إلى بداية “تقوقع” الحي على نفسه.
السياسة التركية في تطبيق “الاستطباق”
أحد أزقة طارلاباشي في منطقة “باي أوغلو”
قام الصحفي التركي عيسى تتلكان بإخراج فيلم وثائقي بعنوان “ربيبة باي أوغلو: طارلاباشي”، عن تاريخ الحي العريق منذ أيام الدولة العثمانية وحتى الآن بتنوعه الديموغرافي وعراقة وأصاله ما تبقى من آثاره العمرانية والدينية المختلفة.
تزامن تاريخ إنتاج الفيلم مع مشروع إعادة بناء حي “طارلاباشي” وهو مشروع “تحوله حضاريًا” من حي مهجور صار ملجأ للطبقات الفقيرة والمعدومة، إلى حي حديث ليكون مقصدًا للمستثمرين والمالكين وكذلك الزائرين.
بين شدّ وجذب وتعطيل مشروع التحول الحضري في الحي من قبل المحكمة الإدارية العُليا بكونه مشروعًا لا يخدم المصلحة العامة، وخطة التحول الحضري السريع في عهد حزب العدالة والتنمية، أقرّ القضاء استمرار المشروع، بعد أن أقر بالحالة الانحلالية للحي والتي تنذر بمشاكل أمنية وصحية، وكذلك الحاجة لترميم المباني التي لن تستطيع الاحتفاظ بحالتها بسبب قدم عمرها.
“الفيلم الوثائقي”
إن عملية “الاستطباق” أو أو في سياق آخر استبدال طبقة محل الأخرى خلال مرحلة التحول الحضري، نموذج تدريجي نصح به رئيس الوزراء آنذاك ورئيس الجمهورية الحالي رجب طيب أردوغان، في شباط/فبراير 2006، حددت مرحلته الأولى من مشروع طارلاباشي المذكور هنا سابقًا، وسيستمر في التطبيق في كثير من الأحياء في مختلف أنحاء المدينة، من أجل أن تتحول إسطنبول إلى مدينة رائدة في العالم الحديث، ويتحول طارالاباشي إلى شانزيليزيه في “باي أوغلو” مركز إسطنبول.
إن عملية “الاستطباق” أو أو في سياق آخر استبدال طبقة محل الأخرى خلال مرحلة التحول الحضري، نموذج تدريجي نصح رجب طيب أردوغان، في شباط/فبراير 2006، حددت مرحلته الأولى من مشروع طارلاباشي
أصبح مقبولاً حينها أن يجري بالكامل هدم هذه المباني التاريخية، وهي التي كانت تحت حماية الدولة، وعلى الرغم من أن مئات الدعاوى القضائية الفرديّة رُفِعَت ضد البلدية فيما قاوم السكان عمليات الإجلاء منذ عام 2008، لكن بعد إجلائهم، لم يعد بإمكانهم البقاء في منطقة بايوغلو، فبدلات الإيجار مرتفعة جدًا بما لا يتناسب مع ميزانيتهم.
تشابهت حالة “طارلاباشي” مع الحي التاريخي “بلاط” والذي كان هو الآخر ملجأ للأقليات الدينية وبالأخص اليهود، وبعد رحيلهم، كان ملجأ للطبقات الفقيرة والمعدومة، فلم يكن “بلاط” مركزًا لاهتمام الدولة وأصحاب رؤوس الأموال فحسب، فكان لليونسكو أيضًا حظًا من الخطة التطويرية بمشروعها التطويري الحضري للعلوم والثقافة للحفاظ على معالم حي “بلاط” الأثرية وإعادة ترميم ما تم هجره منها لعقود.
من ضمن مشاريع التطوير الحضري العملاقة، كان لحي “بلاط” نصيبًا منها، فكما يستطيع الزائر ملاحظة الطبقات الفقيرة التي ما زلت تسكن بعضًا من أزقة الحي، إلا أنه لا يمكنه إغفال المشاريع الاستثمارية الكبيرة من أجل تطوير وتحسين المباني القديمة
من ضمن مشاريع التطوير الحضري العملاقة، كان لحي “بلاط” نصيبًا منها، فكما يستطيع الزائر ملاحظة الطبقات الفقيرة التي ما زلت تسكن بعضًا من أزقة الحي، إلا أنه لا يمكنه إغفال المشاريع الاستثمارية الكبيرة من أجل تطوير وتحسين المباني القديمة بهدم بعضها وترميم البعض الآخر، كما لا يمكن إنكار التحول الديموغرافي بزحف المطاعم والمقاهي ذات الطابع المرفه إلى الحي لخدمة أصحاب الأملاك الجديدة وأصحاب الدخول المرتفعة.
أصبحت تلك الأحياء بعد بدء تطبيق مشاريع التحول والتطوير الحضرى لا تختلف كثيرًا عن أشهر الشوارع والمناطق السياحية والتجارية في مدن العالم الكبرى مثل باريس وبرلين وروما، بعد أن كانت أحياءً عريقة تاريخية تقطنها الطبقة الفقيرة أو المعدومة.
يرى البعض أن تلك السياسة تمكن حزب العدالة والتنمية من فرض سيطرته الاستثمارية والعمرانية على أغلب أحياء إسطنبول التاريخية، لتثبيت قاعدة قوية له تعزز وجوده في الحكم، كما يراها البعض أنها استراتيجية لن تفيد مصلحة الطبقة المتوسطة، ولن تترك سوى الطبقات الغنية في مقابل الطبقات المعدومة التي لن تستطيع مواكبة الأولى والعيش معها في نفس الحي.
يقول الروائي “كايا جينش” في تقرير عن التطوير الحضري في تركيا في صحيفة “الغارديان” أن بعدما زحفت الطبقات الغنية من المالكين والمستثمرين إلى تلك الأحياء، ربما ما نرى مظاهر حياة غربية الشكل والأسلوب بعض الشيء، وهو ما لا يمكن وصفه بالشيء الجيد أو الخاطئ، وكل هذا يعتمد على من يعيش في تلك المناطق، فإذا اختار التحول الحضري عمرانيًا ومجتمعيًا أيضًا، فلا يمكننا اتهامه بأنه مخطئ أو جاهل، وإن لم يرد، فلا يمكننا إجباره أيضًا على ذلك، إلا أننا لن يمكننا مساعدته أيضًا، إن لم يتسطع مواكبة الحياة في الأحياء المتحولة حضريًا اقتصاديًا وحتى على المستوى المجتمعي والديموغرافي.