وهل هلال رمضان، شهر الهدى والفرقان، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، فاستقبلته أفئدتنا بسرور المحبين، وهفت إليه أرواحنا بلهفة المشتاقين، وانطلقت ألسنتنا تلهج بذكر الله تعالى وتدعوه في شهره الفضيل قائلةً:
“اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والعافية المجللة ودفع الأسقام، والعون على الصلاة والصيام وتلاوة القرآن، اللهم سلمنا لرمضان وسلمه لنا وتسلمه منا، حتى يخرج وقد غفرت لنا ورحمتنا وعفوت عنا، يا عفو يا رحيم”.
وبهذه المناسبة العظيمة، رأيت أن أخصص مقالًا للحديث عن تأثير الصيام على الرياضيين، نبين فيه الآراء الطبية المنقسمة بشأن ذلك، ونستعرض كيفية تعامل اللاعبين المسلمين مع الصيام في أثناء التدريبات والمباريات، قبل أن نشرح جملة الأمور والتدابير الصحية والوقائية التي يجب مراعاتها عند ممارسة الرياضة في شهر رمضان، من أجل تحقيق الفوائد المرجوة، بعيدًا عن أي أخطار.
يخضع اللاعبون المحترفون لمراقبةٍ طبيةٍ دائمةٍ في أنديتهم
تنقسم الآراء الطبية بشأن تأثير الصيام على الرياضيين بين سلبي وإيجابي، حيث يرى بعض المختصين أن الصوم لا يؤثر على أداء الرياضيين ولا يضعف من قدراتهم وعطائهم، في حين يرى البعض الآخر أن للصيام تأثيرًا سلبيًا على أداء الرياضيين، قد يصل إلى درجة الخطر على حياتهم!
ويستند أصحاب الرأي الأول على حقيقة أن أجسام معظم الرياضيين المحترفين معتادةٌ على تحمل الأحمال التدريبية والضغوطات العالية، لذا لا يُشكل الصيام تأثيرًا يُذكر على مستوى أدائهم العضلي أو كفاءتهم الصحية، وخاصةً عند مراعاتهم بعض التوصيات المتعلقة بأوقات التدريب والراحة ونوعية الغذاء وتوزيعه.
أما أصحاب الرأي الثاني، فيشككون في قدرة أجسام الرياضيين على تعويض فقدان السوائل عند ممارستهم الرياضة وهم صائمون، مما يؤثر حتمًا بالسلب على أدائهم العضلي، بل وقد تبلغ التأثيرات مدى تشكل فيه تهديدًا على صحة اللاعبين وحياتهم، من خلال أخطارٍ أهمها: التجفاف، الإرهاق، انخفاض مستوى السكر في الدم، وصولًا إلى اضطراب عمل القلب والدورة الدموية ووظائف الكلى في بعض الأحيان.
تنقسم الآراء الطبية بشأن تأثير الصيام على الرياضيين بين سلبي وإيجابي
وفي الواقع، لا يمكن حصر مدى ذلك التأثير، فهو مرتبطٌ بعدة عوامل تختلف بين شخصٍ وآخر، منها كفاءة عمل القلب والكبد، وقدرة الجسم على إجراء عمليات الأيض والاستقلاب التي تضمن حفظ نسبٍ متوازنةٍ من مصادر الطاقة، ومعدل فقد السوائل المصاحب لأداء الرياضة، وغيرها من العوامل التي قد تتغير لدى الشخص ذاته بتغير عمره وحالته الصحية والبدنية، ولذا فلا يُنصح عمومًا بإجراء التمارين الرياضية المجهدة خلال فترة الصيام بالنسبة للأشخاص العاديين، بعكس الأمر لدى الرياضيين المحترفين، الذين يخضعون لمراقبةٍ صحيةٍ دائمةٍ من قبل الطواقم الطبية الخاصة بأنديتهم ومنتخباتهم.
لاعبو المنتخب التركي التزموا بالصيام خلال بطولة اليورو
وتختلف طريقة تعامل الرياضيين المحترفين مع شهر رمضان باختلاف البلدان التي ينشطون فيها، ففي حين يكون تأقلم الرياضيين مع فريضة الصيام سهلًا نسبيًا في بلدان العالم الإسلامي، التي يلجأ معظمها إلى تأخير مواعيد التدريبات والمنافسات لتتناسب مع ظروف الشهر الفضيل، تتابع بقية دول العالم برامجها الرياضية الاعتيادية، دون أدنى مراعاةٍ لظروف الرياضيين المسلمين، الذين يجدون صعوبةً كبيرةً في الجمع بين الصيام ومتطلبات الاحتراف، مما يضطر معظمهم إلى الإفطار تجنبًا للمشاكل والمشادات مع مدربيهم، كما فعل اللاعبون المسلمون في منتخبات فرنسا وألمانيا وبلجيكا، خلال بطولة أمم أوروبا الأخيرة التي استضافتها فرنسا عام 2016.
يتأقلم الرياضيون مع شهر رمضان بسهولةٍ في البلدان الإسلامية، بعكس الأمر في البلدان غير الإسلامية
بعكس لاعبي المنتخب التركي الذين التزم معظمهم بالصيام خلال البطولة ذاتها، وهو ما قام به أيضًا لاعبو المنتخب الجزائري خلال بطولة كأس العالم في البرازيل عام 2014، دون أن يؤثر ذلك على أدائهم، حيث استطاعوا بلوغ دور الـ16 من البطولة رغم صيامهم، وتمكنوا من الصمود في وجه المنتخب الألماني بطل العالم، وكانوا قريبين من هزيمته.
يجب تجنب التدريبات الطويلة المجهدة في أثناء الصيام
وتتطلب ممارسة الرياضة في شهر رمضان عمومًا، مراعاة جملةٍ من الأمور والتدابير الصحية والوقائية، التي من شأنها تحقيق أقصى الفوائد المرجوة بعيدًا عن أي أخطار، وتنقسم تلك التدابير إلى قسمين، الأول يتعلق بنمط التدريبات وأوقاتها، والثاني مرتبطٌ بالعادات الغذائية.
تتطلب ممارسة الرياضة في رمضان مراعاة جملةٍ من التدابير المتعلقة بالتدريبات والأغذية
فأما عن التدابير المتعلقة بالتدريبات، فيجب اختيار أماكن جيدة التهوية وبعيدةً عن التلوث لإقامتها، مع مراعاة الابتعاد عن التمرينات الطويلة المجهدة، حيث يُفضل ألا تزيد مدة التدريبات في نهار رمضان عن 90 دقيقة، تسبقها فترة تحمية، وتتخللها فترات راحةٍ واسترخاء، كما يجب تجنب إقامة التدريبات في أوقات الظهيرة والحر الشديد، مع ضرورة اختيار مواعيدها في الساعات الأخيرة من الصيام، لضمان تعويض السوائل في مدةٍ أقصاها 4 ساعاتٍ، على أن تُقام التدريبات المسائية بعد مدةٍ زمنيةٍ تتراوح بين ساعتين و4 ساعاتٍ من الإفطار، من أجل إعطاء الجسم فترةً كافيةً لهضم الطعام.
يُنصح بتناول الأطعمة الغنية بالبوتاسيوم خلال شهر رمضان
وأما عن نمط التغذية الأنسب للرياضيين خلال شهر رمضان، فيمكن تلخيصه من خلال النصائح الـ6 التالية:
– مراعاة تناول وجباتٍ صغيرةٍ بكمياتٍ معتدلة، وتجنب الوجبات الكبيرة الدسمة التي تؤدي إلى التعب والخمول.
– يُنصح عند وجبة الإفطار بالبدء بتناول مواد سكرية سريعة الامتصاص كالتمر، ومن ثم الانتظار لبضعة دقائق قبل تناول الوجبة الرئيسية، التي يجب أن تتضمن كمياتٍ كافيةً من النشويات والبروتينات والخضراوات.
– أما وجبة السحور، فمن الضروري أن تحتوي على الأطعمة الغنية بالألياف التي تمنح شعورًا بالشبع لفتراتٍ طويلة، ونذكر منها: القمح والأرز والتفاح والجزر والمشمش والخوخ.
– يجب الإكثار من شرب السوائل في الفترة ما بين الإفطار والسحور، من أجل تعويض نقص السوائل الحاصل في فترة النهار، حيث يُنصح بشرب نحو 3 ليتراتٍ من الماء والعصائر الطبيعية، مع مراعاة تقسيمها على دفعات، حيث لا يُنصح بشرب كمياتٍ كبيرةٍ من السوائل دفعةً واحدة.
– الإكثار من تناول الأطعمة الغنية بالبوتاسيوم، كالسبانخ والسمك والبطاطا والفاصولياء والليمون والموز، وذلك لأنها تزيد من قدرة الجسم على الاحتفاظ بالسوائل خلال فترة الصيام.
– الإقلال من احتساء القهوة والشاي وبقية المنبهات خلال فترة الإفطار، لدورها السلبي في إهدار السوائل والمعادن وجعل الجسم عرضةً للجفاف.
تساعد الرياضة في أثناء الصيام على التخلص من الوزن الزائد
وأخيرًا، نبين أن فوائد الصيام بالنسبة للرياضيين لا تقتصر على الجوانب الروحية والمعنوية، بل هناك جملةٌ من الفوائد الصحية الملموسة التي يمكن لممارسي الرياضة، من الهواة أو المحترفين، جنيها بمجرد التزامهم بالتدابير الوقائية والقواعد الصحية المناسبة، وهي:
– إنقاص الوزن والتخلص من الكتلة الدهنية الزائدة في أجسامهم، لأن الجسم يكون مجبرًا على حرق الدهون الزائدة والاستعانة بها كمصدرٍ لتغذية العضلات بالطاقة، عند ممارسة الرياضة أثناء الصيام.
– المساعدة في تحسين كفاءة الجهاز الهضمي وأجهزة الجسم عامةً، عن طريق التخلص الدوري من آثار السموم المتراكمة الناتجة عن عملية التمثيل الغذائي.
– الحفاظ على نشاط وحيوية الجسم، وعدم ترك الفرصة للكسل والخمول للتسلل إلى أجسامهم، سواء في أثناء فترة الصيام أو بعد وجبة الإفطار.
– الحفاظ على صحة العظام والعضلات والقلب والأوعية الدموية، وغيرها من الفوائد العامة التي تحققها ممارسة الرياضة عامةً.