يثير الموقف الإماراتي من الحرب الإسرائيلية على غزة، التي اندلعت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، الكثير من الجدل ويطرح حزم متباينة من التساؤلات عن بواعث هذا التوجه الذي يتميز بالتناقض أحيانًا والازدواجية أحايين أخرى.
ورغم أن الكثير من بلدان المحور العربي تعاني من ميوعة التوجه وتخاذله إزاء حرب الإبادة التي تُشن ضد سكان القطاع، فإن الموقف الإماراتي هو الأكثر استحواذًا على الأضواء لما ينتهجه من سياسة رمادية يحيط بها الشك والريبة.
فبينما تبذل أبو ظبي جهودًا دبلوماسية حثيثة داخل مجلس الأمن والأمم المتحدة لوقف إطلاق النار، وتقديم المساعدات الإنسانية لسكان غزة، إذ بها في الوقت ذاته لا تجد حرجًا في تقديم الدعم العسكري واللوجستي للكيان المحتل.. فماذا تريد الدولة النفطية من سياسة دعم المغتصب والضحية في آن واحد؟
الدولة التي لم تقطع الاتصالات بالاحتلال
بداية لا بد من الإشارة إلى أن الإمارات هي الدولة العربية المطبعة الوحيدة التي لم تقطع الاتصالات مع الاحتلال منذ بداية الحرب، عكس ما قامت به الدول الأخرى، حتى السعودية التي رغم ما قيل إنها لن تقطع مباحثات التطبيع مع تل أبيب كما نقل جاريد كوشنر، أوقفت التواصل مؤقتًا لحين تهدئة الأجواء.
شبكة “I24 News” العبرية قالت في تقرير لها نشرته في 12 نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ إن السفير الإسرائيلي في أبو ظبي لا زال موجودًا، ولم يُطلب منه المغادرة، وأوضحت أن الإمارات تنوي الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل” رغم الغضب من تزايد حصيلة الحرب في غزة، حسبما نقلت “رويترز” عن 4 مصادر مطلعة على سياسة حكومة أبو ظبي.
وأكدت الشبكة العبرية نقلًا عن المصادر الـ4 أن أبو ظبي تسعى جاهدة لتخفيف مواقف الدول العربية الغاضبة من دولة الاحتلال، حتى لا تكون ردود الفعل قاسية بما يهدد مشروع “أبراهام” الذي بدأته تل أبيب سبتمبر/أيلول 2020 بإبرام الاتفاق مع الإمارات والبحرين كخطوة أولى، تبعتها خطوة ثانية شملت المغرب والسودان، في ظل رغبة الاحتلال توسيع دائرة الاتفاق ليشمل العديد من دول المنطقة.
نصنع التاريخ بالأرقام
عقب مرور ٣ سنوات على ذكرى التوقيع على اتفاقات السلام الإبراهيمية تراوح حجم الاستثمارات المتبادلة بين الإمارات وإسرائيل وحدهما ما بين ٣.٥ إلى ٤ مليارات دولار أميركي. إن التعاون الإسرائيلي الاماراتي يبشر بسلام متميز اقتصاديا ورائع استثماريا ويعود بالنفع… pic.twitter.com/fo22VQTdrG
— إسرائيل بالعربية (@IsraelArabic) September 15, 2023
أحاديث عن التورط في قتل أطفال غزة
نشرت منصة التحقيقات العربية “إيكاد” عبر حسابها الرسمي على موقع “إكس” معلومات نقلًا عن البيانات الملاحية على موقع “Flightradar24” الذي يراقب حركة الطيران، تفيد بإقلاع طائرة شحن من طراز “Antonov An-124-100” من أبو ظبي إلى تل أبيب أمس 19 نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ.
وبحسب البيانات فإن الطائرة تتبع شركة “MAXIMUS AIR” الإماراتية وتحمل علم أوكرانيا ورقمها التسجيلي UR-ZYD، وأقلعت من مطار أبو ظبي الدولي الموجود فيه قاعدة الريف العسكري الساعة 7:14 بتوقيت غرينتش، ثم هبطت في مطار بن غوريون عند الساعة 12:47 ثم أقلعت مرة أخرى إلى أبو ظبي في تمام الساعة 13:49 بتوقيت غرينتش، أي أنها مكثت ساعة ودقيقتين فقط في المطار الإسرائيلي.
وسبق لتلك الطائرة من طراز “UR-ZYD” أن نقلت شحنات عسكرية بين دول مختلفة خلال الآونة الأخيرة، كما أن سجل رحلاتها يشير إلى أنها قامت بأكثر من رحلة في الأشهر الماضية بين أبو ظبي والقاهرة وتل أبيب، كان آخرها في يوليو/تموز الماضي حين قامت بنفس الرحلة من الإمارات إلى دولة الاحتلال وعادت في نفس اليوم.
السؤال هنا: ماذا كانت تحمل تلك الطائرة؟ وما الذي نقلته من أبو ظبي إلى تل أبيب؟ ولماذا مكثت هناك ساعة واحدة فقط؟ كلها تساؤلات تحمل الكثير من الشكوك بشأن مساعدات عسكرية تقدمها الإمارات للكيان المحتل الذي يشن حرب إبادة ضد الفلسطينيين في غزة، بمساعدة ودعم العديد من دول العالم.
#جيوبوست | كشفت البيانات الملاحية على موقع Flightradar24 عن إقلاع طائرة شحن من طراز Antonov An-124-100 من أبو ظبي إلى تل أبيب اليوم 19 نوفمبر.
✔️الطائرة تحمل علم أوكرانيا ورقمها التسجيلي UR-ZYD، وتتبع شركة MAXIMUS AIR الإماراتية.
✔️أقلعت الطائرة من مطار أبو ظبي الدولي الذي يضم… pic.twitter.com/1T7Jq4SKHn
— EekadFacts | إيكاد (@EekadFacts) November 19, 2023
سوابق عن الدعم العسكري
لم تكن تلك المرة الأولى التي تُتهم فيها الإمارات بدعم الاحتلال عسكريًا في حربه ضد غزة، ففي منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي بعد أسبوع تقريبًا من بداية الحرب، كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” حسبما نقلت عن البنتاغون، استضافة قاعدة الظفرة الجوية – 32 كم جنوب أبوظبي – سربًا أمريكيًا من طائرات A-10 لدعم جيش الاحتلال وردع أي محاولة لدعم المقاومة من القوى الإقليمية، ورغم نفي وزارة الدفاع الإماراتية لتلك المعلومات، لكن الكثير من الشواهد والمؤشرات الخاصة بالتعاون العسكري الإماراتي الإسرائيلي ذهبت نحو تصديقها.
ويعود هذا التعاون إلى عام 2021، حين حجزت الشركات العسكرية الإسرائيلية جناحًا في معرض ومؤتمر الدفاع الدولي آيدكس 2021، كما أعلنت مجموعة الدفاع الإماراتية “EDGE Group” عن صفقات دفاعية مع شركات إسرائيلية.
وفي عام 2022 نُشرت بعض التقارير الصحفية التي تؤكد إبرام اتفاقية دفاع مشترك بين أبو ظبي وتل أبيب، كان بموجبها هبوط 8 طائرات نقل ثقيلة تابعة لأبو ظبي في “إسرائيل” يرجح أنها كانت تنقل معدات، تتعلق بعقود الدفاع الموقعة بين البلدين.
ونتاجًا لهذا التعاون أصبح “الإماراتيون تحت حماية ليس فقط نظام واحد، بل نظامين مختلفين للدفاع الجوي الإسرائيلي اللذين يحميان الإمارات من صواريخ الحوثيين، إلى جانب نظام ثاد الأمريكي وباتريوت” بحسب مدير برنامج أمن الشرق الأوسط في مركز الأمن الأمريكي الجديد، جوناثان لورد.
ولعبت الإمارات دورًا محوريًا في إنعاش الاقتصاد الإسرائيلي من خلال زيادة حجم مبيعاته من الأسلحة التي وصلت خلال عام 2022 إلى مستويات قياسية مقارنة بالأعوام السابقة، حيث بلغت نحو 12.5 مليار دولار، استحوذت الإمارات والبحرين والمغرب على 24% من حجم تلك المبيعات مقارنة بـ7% خلال عام 2021.
شيطنة المقاومة.. دعم من نوع آخر
وبالتوازي مع دعم دولة الاحتلال عسكريًا كان الدعم السياسي، حيث تبنت أبو ظبي السردية الإسرائيلية في التعاطي مع المشهد، بداية من شيطنة المقاومة وتحميلها المسؤولية فيما وصلت إليه الأوضاع، وصولًا إلى التأكيد على استمرار اتفاق أبراهام وعدم التفكير في عرقلة مسار العلاقات بين البلدين مهما كانت نتائج حرب الإبادة الحاليّة الآن.
8 أكتوبر/تشرين الأول 2023.. بعد يوم واحد فقط من عملية “طوفان الأقصى” وصفت الخارجية الإماراتية في بيان رسمي لها هجمات المقاومة بأنها “تشكل تصعيدًا خطيرًا وجسيمًا”، وقدمت “تعازيها لأسر الضحايا الإسرائيليين”، مؤكدة في الوقت ذاته على ضرورة أن ينعم المدنيون من كلا الجانبين بالحماية الكاملة بموجب القانون الإنساني الدولي، وضرورة ألا يكونوا هدفًا للصراع.
10 أكتوبر/تشرين الأول 2023.. نفى وزير الدولة الإماراتي للتجارة الخارجية، ثاني الزيودي، ما يتردد بشأن تأثير تلك الحرب التي تشنها دولة الاحتلال على العلاقات الاقتصادية معها، مؤكدًا على أن بلاده لا تخلط التجارة مع السياسة.
17 أكتوبر/تشرين الأول 2023.. قالت المندوبة الدائمة بالأمم المتحدة لدولة الإمارات، لانا نسيبة، “حركة حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني، ولا سكان غزة الذين يعانون أشد المعاناة”، مشددة على ضرورة إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة “دون قيد أو شرط”، مجددة التأكيد على موقف حكومتها بأن هجوم حماس على “إسرائيل” لا يمكن تبريره، وتابعت “جميع أعضاء مجلس الأمن أدانوا القتل العشوائي للمدنيين الإسرائيليين الأبرياء، واحتجاز 199 منهم كرهائن، بما فيهم الأطفال”.
24 أكتوبر/تشرين الأول 2023.. هاجمت وزيرة الدولة لشؤون التعاون الدولي الإماراتية، ريم الهاشمي، حركة حماس مرة أخرى، وقالت في كلمتها خلال جلسة مجلس الأمن الدولي “الهجمات التي شنتها حماس في الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول هي هجمات بربرية وشنيعة، ونطالبها بالإطلاق الفوري وغير المشروط لسراح الرهائن لحقن الدماء وتجنيب جميع المدنيين المزيد من الويلات”.
1 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.. قال رئيس لجنة الدفاع والخارجية في المجلس الوطني الاتحادي بدولة الإمارات، علي راشد النعيمي، خلال مشاركته في المؤتمر الصحفي للجمعية اليهودية الأوروبية، ولجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية “أيباك”، الذي عقد في العاصمة الأمريكية واشنطن “إسرائيل موجودة لتبقى، وجذور اليهود والمسيحيين، ليست في نيويورك أو باريس، بل هنا في منطقتنا” وتابع “إنهم جزء من تاريخنا، ويجب أن يكونوا جزءًا من مستقبلنا” على حد قوله.
وعن تأثير الحرب الدائرة حاليًّا على مستقبل اتفاق أبراهام الذي وقعته أبو ظبي مع دولة الاحتلال قال النعيمي: “هي الحرب الثالثة في غزة، كلما حدث شيء ما في غزة، يأتي الناس إلينا، ويسألوننا: ما رأيك في اتفاقيات إبراهيم؟ هل ستتغير؟” وأجاب “الاتفاقيات هي مستقبلنا، وليست اتفاقية بين حكومتين، ولكنها منصة، نعتقد أنها يجب أن تغير المنطقة، حيث يستمتع الجميع بالأمن والاستقرار والازدهار”.
ومنذ انطلاق الحرب وحتى اليوم ورغم ارتقاء أكثر من 13 ألف شهيد في غزة، معظمهم من النساء والأطفال، حالت حكومة أبو ظبي دون خروج أي تظاهرات لنصرة الفلسطينيين كما حدث في بقية بلدان العالم، فيما كانت الأطعمة اليهودية التي تطهي داخل المطابخ الإماراتية تُرسل للمستوطنين في الأيام الأولى من عملية الطوفان، تزامن ذلك مع اشتعال منصات التواصل الاجتماعي بحملات الشيطنة والتشكيك في المقاومة وتبني السردية الإسرائيلية فيما يتعلق باتخاذ المقاومة من المشافي والمدارس مقرات لها.
الدعم الإنساني لغزة.. الوجه الآخر للازدواجية
في مقابل الدعم العسكري واللوجستي والسياسي الذي تقدمه الإمارات لدولة الاحتلال، تقدم على الجانب المقابل دعمًا إنسانيًا لقطاع غزة، فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي أرسلت أبو ظبي 7 طائرات محملة بقرابة 13.5 طن من المساعدات الإغاثية لسكان القطاع وصلت إلى مطار العريش بشمال سيناء، فضلًا عن المساعدة في تدشين مستشفى ميداني داخل القطاع، والإعلان عن مبادرة لعلاج 1000 طفل فلسطيني برفقة عائلاتهم في مستشفيات الإمارات.
هذا بخلاف الحراك الدبلوماسي المبذول داخل مجلس الأمن والأمم المتحدة من أجل التوصل إلى قرار لوقف إطلاق النار وإنقاذ ما تبقى من قطاع غزة، حتى وإن لم تسفر تلك الجهود عن أي نتائج إيجابية في ظل حرب الفيتو المستخدمة بين الولايات المتحدة وروسيا داخل الأروقة الأممية.
من خلال المساعدات الإماراتية التي تتحرك نحو معبر رفح تمهيدا لإدخالها إلى قطاع #غزة، واستضافة 1000 فلسطيني من المصابين بأمراض السرطان من مختلف الفئات العمرية لتلقي العلاجات وجميع أنواع الرعاية الصحية التي يحتاجونها بمستشفيات الدولة.. بتوجيهات #رئيس_الدولة.. مساعدات #الإمارات… pic.twitter.com/0mFglMSv6U
— فرسان الإمارات (@Forsan_UAE) November 19, 2023
السلاح لـ”إسرائيل” لمساعدتها في إبادة الآلاف من الفلسطينيين، في مقابل المساعدات الإغاثية لما تبقى من سكان غزة.. تناقض يعكس ازدواجية الدولة الخليجية في تعاطيها مع الموقف الراهن، تباين يثير الكثير من الشكوك بشأن النوايا الحقيقية لأبو ظبي التي لا تخفي عداوتها للمقاومة الفلسطينية بزعم دعمها من جانب إيران ووكلائها في المنطقة.
يحرص أبناء زايد على حميمية علاقتهم بدولة الاحتلال، معتبرين أنها الجسر الأكبر نحو استعادة الريادة والثقل الإقليمي المتراجع، فهم عرابو التطبيع في المنطقة، وحصن تل أبيب الخليجي والعربي دبلوماسيًا، وعليه من الصعب – إن لم يكن من المحال – أن يضحوا بتلك العلاقة تحت أي سبب، حتى لو أبيد قطاع غزة بأكمله.
لكنهم أمام الضغوط الشعبية العربية والإسلامية يحاولون الالتفاف على هذا الخذلان بتقديم المساعدات الإنسانية، وكأنها الحل الأنجع والأكثر تأثيرًا، بحسب ما تروج له لجانهم الإلكترونية، في محاولة لتبرئة الساحة وغسل عار الانبطاح الذي أسقط كل الأقنعة.