ترجمة حفصة جودة
قبل 6 أشهر كنت أقف في المتحف الوطني ببيروت أشاهد باندهاش تابوتين حجريين فينيقيين بين كنوز حضارات الشرق الأوسط القديم، عندما انقطعت الأضواء فجأة، بعد عدة أيام كنت في وادي البقاع، حيث ينقطع التيار عن المدن هناك لأكثر من نصف اليوم أيامًا عديدة، ومؤخرًا كنت في العراق الغنية بالنفط، لكن الكهرباء كانت متقطعة في أحسن الأحوال.
“في أحد الأيام تأتي الكهرباء لمدة 12 ساعة في اليوم وفي اليوم التالي لا تأتي الكهرباء على الإطلاق” هذا ما أخبرتني به الصحفية آراس مامان عندما انقطع التيار في أثناء انتظارنا في المطعم لتناول الغداء.
في مصر ناشدت الحكومة الشعب بالحد من استخدام المصابيح والأجهزة الكهربائية ومكيفات الهواء حتى في أيام الحر القائظ لمنع انقطاع الكهرباء على نطاق واسع، أما في ليبيا – حيث أكبر احتياطي للنفط في إفريقيا – تقضي العديد من المدن أسابيع دون كهرباء هذا العام، وفي قطاع غزة هناك مليونا مواطن يحصلون على الكهرباء ساعتين أو 4 ساعات فقط يوميًا بعد عودة الكهرباء في شهر أبريل.
ينبغي ألا نقلل من شأن العواقب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المترتبة على الأزمة وشيكة الحدوث – نيكولاي ملادينوف
تواجه المنطقة الأكثر تقلبًا في العالم تحديًا لا يشمل أسلحة أو مليشيات أو عسكريين أو إراقة دماء، لكنه يدمر المجتمعات أيضًا، ورغم أن الشرق الأوسط غني بالطاقة فإنه لا يملك كهرباء كافية، فمن بيروت وحتى بغداد، يعاني عشرات الملايين من الناس من انقطاع يومي للكهرباء، هذا الأمر يؤثر سلبيًا على الأعمال التجارية والمدارس والرعاية الصحية وخدمات أساسية أخرى مثل مياه الشرب والصرف الصحي، فالقليل من الأشياء تعمل دون كهرباء.
قال نيكولاي ملادينوف الشهر الماضي – ممثل الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط – عن الأزمة في قطاع غزة: “ينبغي ألا نقلل من شأن العواقب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المترتبة على الأزمة وشيكة الحدوث”، الأمر نفسه ينطبق على جميع أنحاء المنطقة.
أدى غضب العامة من تلك الانقطاعات الواسعة إلى انطلاق بعض الاحتجاجات، ففي شهر يناير وفي واحدة من أكبر التظاهرات منذ سيطرة حماس على غزة قبل عقد من الزمان، تظاهر عشرات الآلاف من الفلسطينيين تعبيرًا عن غضبهم من انقطاع الكهرباء في فصل الشتاء القارس، قام المتظاهرون بقذف الحجارة وأشعلوا النيران في إطارات السيارات أمام شركة الكهرباء.
أصبحت الأسر تستيقظ في منتصف الليل عندما تأتي الكهرباء لإنجاز العديد من الأعمال
أما العراق ورغم أنه صاحب خامس أكبر احتياطي نفطي على مستوى العالم، فخلال العامين الماضيين اندلعت العديد من المظاهرات المناهضة للحكومة بسبب انقطاع التيار المتكرر وعدم إعلامهم عن أوقات انقطاعه وكذلك لفترة غير محدودة.
هذه هي إحدى القضايا التي توحد السنة في الغرب مع الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال، وفي خضم الحرب اليمنية المعقدة، تجرأ مئات الناس على التظاهر في شوارع عدن في شهر فبراير ضد انقطاع التيار لفترات طويلة، وفي سوريا كان أنصار بشار الأسد في اللاذقية (المعقل الرئيسي للأسرة الحاكمة) والذين حافظوا على ولائهم للأسد لست سنوات من الحرب، قد وضعوا حدًا لانقطاع التيار، فقد نظموا احتجاجًا في يناير الماضي لخفض انقطاع الكهرباء لمدة ساعة واحدة في اليوم.
على مدى الثمانية أشهر الماضية، قابلت أشخاصًا يتحدثون قليلاً عن السلام أو خطر داعش أو نوايا ترامب في الشرق الأوسط، لكنهم يتحدثون عن معاناتهم في الحياة اليومية، تحكي الكثير من الأسر عن استيقاظها في منتصف الليل عندما تأتي الكهرباء فجأة من أجل غسل الملابس وإجراء بعض المعاملات التجارية على الحاسب وشحن الهواتف المحمولة أو من أجل الاستحمام واستخدام المرحاض حتى ينقطع التيار فجأة مرة أخرى.
بعد استقبال 2 مليون نازح عراقي، لم تعد كردستان تمتلك الوسائل أو الوقود أو الأموال اللازمة لتوفير الكهرباء
توقفت بعض الأسر عن استخدام المصاعد الكهربائية لخوفهم من توقف المصعد بأطفالهم بين الطوابق، يشتكي الطلاب من تجمد الفصول الدراسية في فصل الشتاء ومحاولة الدراسة وكتابة الأبحاث دون الحاسب أو القراءة ليلاً على ضوء الشموع، هذه التحديات سوف تزداد قريبًا مع ارتفاع الطلب على الطاقة ومكيفات الهواء حيث تصل درجات الحرارة في الصيف لأكثر من 125 درجة فهرنهايت.
هناك العديد من الأسباب المختلفة لانقطاع التيار، فباستثناء دول الخليج، نجد أن البنية التحتية قديمة أو غير كافية في العديد من الدول العربية (البالغ عددها 23 دولة)، كما أن الحروب المختلفة في الماضي والحاضر أدت إلى تدمير شبكات الكهرباء في بعض المناطق، هناك بعض الحكومات ومن ضمنها حكومة العراق والتي لا تستطيع أن تتحمل تكلفة تزويد محطات الطاقة بالوقود على مدار الساعة، يؤدي الفساد أيضًا إلى مواجهة العديد من التحديات المادية، فالعديد من السياسيين يعملون على تأخير أو منع الحلول اللازمة في حالة عدم حصول أصدقائهم على عقود شراء وصيانة وتزويد محطات الطاقة بالوقود.
أدت حركة اللاجئين كذلك إلى زيادة التكاليف، فدول مثل لبنان والأردن والعراق ومصر – والتي تعاني الكثير – استقبلت مئات الآلاف من اللاجئين السوريين منذ عام 2011، يقول ناوزاد هاي مولود حاكم أربيل إن كردستان شمال العراق – وهي موطن لـ4 ملايين كردي – قد استقبلت مليوني نازح عراقي هربوا من داعش عام 2014، بالإضافة إلى مئات آلاف الاجئين الذين فروا من الحرب في سوريا عام 2011، لم تعد كردستان تمتلك الوسائل أو الوقود أو الأموال اللازمة لتوفير الطاقة، أخبرني كبير الفنيين في شركة كهرباء كردستان أن الكهرباء تنقطع لتسع أو عشر ساعات يوميُا وأن الوضع أسوأ من ذلك في مناطق أخرى بالعراق.
دعاني الفني للحديث في منزله، فالكهرباء أصبحت قضية سياسية حساسة وهو لا يرغب في أن يراه أحدهم وهو يستقبل صحفية بمكان عمله، كان الظلام قد حل وأصبحت الإضاءة في غرفة الجلوس سيئة للغاية فالكهرباء انقطعت عنه أيضًا، الشيء الوحيد الذي كان يعمل هو “ساعة الحائط” لأنها تعمل بالبطارية، سألته متى تعود الكهرباء فهز كتفيه قائلاً: “عندما تضيء الأنوار مرة أخرى”، وأضاف: “أنا أعمل فقط في شركة الكهرباء لكنهم لا يخبروننا متى ينقطع التيار”.
الحكومة لا تحبني، لكنني لا أنافسهم، أحاول فقط أن أجد الحل لتصبح الحياة محتملة في تلك الظروف – مصطفى بعلبكي
في أربيل، كما هو الحال في مدن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، البديل الوحيد استخدام مولدات الكهرباء المزعجة والملوثة والتي تعادل تكلفتها من 3 إلى 10 أضعاف معدل تكلفة كهرباء الدولة، أخبرني الفني أنه لا يمتلك مولد كهرباء في منزله.
وفي لبنان حاول مصطفى بعلبكي – مهندس برمجيات شاب – مساعدة الناس على التعامل مع الأزمة من خلال تطبيق هواتف محمولة “Beirut Electricity” والذي يفعل ما لا تفعله الحكومة، فهو يتنبأ بأوقات انقطاع التيار في العاصمة ويرسل تنبيهًا قبل انقطاع الكهرباء بعشر دقائق.
يقول بعلبكي إنه يقضي أيامًا وليالي وهو يرغب في أن تقوم الحكومة بإصلاح المشكلة، توصل مصطفى إلى خوارزمية معقدة تمكنه من التخطيط لمحاضراته الجامعية وتحديد الوقت الذي يمكن لجدته المريضة أن تزورهم فيه حتى تتمكن من ركوب المصعد لتصل إلى شقة أسرته الواقعة في الدور التاسع، لقد نجح الأمر حتى إنه أتاح التطبيق مجانًا لمستخدمي أجهزة آبل في لبنان، وفي أول يوم من انطلاق التطبيق قام عشرات الآلاف بتحميله.
يقول بعلبكي: “لا تحبني الحكومة نوعًا ما، لكنني لا أنافسهم حقًا، أحاول فقط أن أجد الحل لتصبح الحياة محتملة في تلك الظروف، من المزعج أن نعيش هكذا ونحن في عام 2017، سوف أكون سعيدًا لإغلاق التطبيق إذا عادت الكهرباء للعمل 24 ساعة يوميًأ”.
المصدر: نيويوركر