أثارت مشاهد الأحياء المدمرة وصور الجثث المتناثرة وأشكال الموت كل ساعة وملامح الأطفال المفجعة والتهجير القسري للفلسطينيين خلال أيام الحرب الوحشية التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر، ألم ووجع الذكريات المستمرَّين بسوريا، والإرث الهائل من المظالم، إذ لم يتمكن السوريون من كبح أنفسهم عن تذكّر مأساتهم حين شاهدوها تتكرر في غزة، فانتشرت على مواقع التواصل منشورات حكى فيها نشطاء سوريا قصص معاناتهم الشبيهة بما يمرّ به الغزيون.
جاءت جرائم الاحتلال الإسرائيلي ووحشيتها المروعة لتذكّرنا بما ارتكبتها قوات الأسد، وتحرك فينا درجات جديدة من الألم، وكأن الصور المروعة تطارد الذاكرة إلى الأبد.
لعلّ الشعب السوري، الذي ما تزال مأساته مستمرة، هو أكثر شعب يفهم جيدًا حجم المعاناة التي يمرّ بها أهل غزة اليوم، إذ إن كل ما يحدث الآن من دمار وقتل وتهجير في غزة على يد الاحتلال، عاشه ويعيشه السوريون مرات ومرات على يد نظام الأسد، لدرجة أن التشابه الكبير بين إبادة “إسرائيل” ونظام الأسد، جعل البعض لا يميزون بينهما، وينشرون صورًا لتدمير سوريا ومقاطع فيديو لقصف مدينة أريحا، وبكاء أطفال أثناء حصار نظام الأسد لحلب على أنها في غزة.
أكثر من ذلك؟ إعلام نظام الأسد نفسه، وإعلام جيش الاحتلال، كلاهما استخدم صورًا من سوريا للقول إنها من القصف الإسرائيلي على غزة!
أوسخ وأقذر وأحقر من هيك ما شفت -أعزّكم الله-
القناة الرسمية لنظام الأسد تنشر صورة مقصوصة من فيديو صورته بوقت سابق لقصفهم على مدينة أريحا بريف إدلب السورية، ويقولون بأن الصورة من قصف اسرائيلي على غزة !!!! pic.twitter.com/aINy9BtOU4
— أحمد رحال Ahmed Rahhal (@pressrahhal) November 2, 2023
صُدِمَ البعض حين اكتشف أن هذه المشاهد وقعت في سوريا، مع العلم أن ما قام به الأسد في سوريا لا يقلّ بشاعة ممّا يفعله الصهاينة الآن، وهذا بالتأكيد ليس دفاعًا عن الاحتلال بالطبع ولا مزاودة على جراح الغزيين النازفة، إنه مجرد توصيف لتوضيح لحجم المأساة.
إن سوريا وفلسطين تتقاطعان في العديد من المحن، فالاثنان دفعا تكاليف حريتهما قتلًا وتشريدًا، واُرتكبت بحقهما جرائم ضد الإنسانية، وما تزالان تنزفان الدماء وسط غياب الحلول الدولية، والآن يعيشان أكبر كارثة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية، ويواجه أبناء البلدَين نفس القلق والظلم الذي لا يمكن التصالح معهما.
كما أن القاسم الأكبر المشترك بينهما، هو أن وحشية النظام السوري والاحتلال الإسرائيلي تستمد من الحلفاء الأقوياء، فمستقبل النظامَين يعتمد على الدعم الذي يقدمه الخارج، الأول تحت رحمة روسيا وإيران، والثاني تحت رحمة الولايات المتحدة والغرب، وكما دمّر بشار وبوتين عدة مدن سورية، كذلك تبيد “إسرائيل” غزة بمساعدة الولايات المتحدة.
لا يهدف هذا العرض للتقليل من حجم مأساة الفلسطينيين، سواء في غزة أو حتى الضفة الغربية المحتلة التي تشهد بدورها عدوانًا لئيمًا، حاشا لله، ولا للقول إن وحشية “إسرائيل” أقل من وحشية نظام الأسد، هذا مفاضلة لا قيمة لها. إن هذا العرض يهدف فقط لشرح لماذا تتدفق على منصات التواصل الاجتماعي منشورات السوريين المفجوعين ولماذا تذكرهم مأساة غزة بمحنتهم، هذا تذكير بمحنة الشعبين وتشابهها، وكل جريح للجريح نسيب، لو سمح لنا امرؤ القيس بهذه الاستعارة.
ألوان الإبادة: تشابُه الأهداف
بالنظر إلى نوع الأهداف والاستراتيجية التي استخدمها نظام الأسد لإبادة الشعب السوري خلال سنوات الثورة، واستراتيجية الجيش الإسرائيلي لقتل الشعب الفلسطيني حاليًّا في غزة، نجد أن هناك أوجُه تشابه بينهما في الأصل والشكل لحدّ التطابق، وكأنه إطار مرسوم يتحرك الاثنان من خلاله.
فقد اعتمد النظام السوري بشكل رئيسي على القصف الجوي المستمر الذي يستهدف المناطق المأهولة بالسكان، بجانب فرض حصار كامل ومنع الكهرباء والمياه والغذاء والدواء والإمدادات الأخرى، حتى أصبح من الصعب الحصول على الخبز، واضطر الناس في بعض المدن إلى أكل ورق الشجر، كما في حي مخيّم اليرموك وهو شبه مدينة في دمشق تعد مركز اللاجئين الفلسطينيين في العاصمة السورية، وحمص القديمة، وحي الوعر الحمصي، وداريا، ومضايا، والغوطة الشرقية بريف دمشق، وغيرها.
و الأمر نفسه يطبّقه الاحتلال الإسرائيلي بالحرف في غزة، فالنظامان فرضا تكتيكات العقاب الجماعي، واستخدما الوقود والغذاء والماء والمساعدات الإنسانية كسلاح في الحرب.
كما شرع النظام السوري في تنفيذ التهجير القسري وتغيير التركيبة الديموغرافية، عبر إجبار السكان على النزوح وتوطين الميليشيات في أملاك ومناطق السوريين التي هُجّروا منها، ووضع اليد على ممتلكاتهم تحت مسمّى قوانين الأراضي والملكية الجديدة وتنظيم المدن، لإحلال عائلات الميليشيات والمقاتلين الإيرانيين مكان السكان الأصليين.
وسياسة الاستيطان نفسها تمارسها “إسرائيل”، والوضع نفسه يحدث حاليًّا في غزة، وجدير بالذكر أن العديد من قادة الاحتلال صرّحوا أكثر من مرة بنيّتهم إعادة بناء المستوطنات التي أخلوها في غزة عام 2005.
سوريا هي الدولة التي أُجبر أكبر عدد من سكانها على ترك منازلهم، ووفقًا للأرقام الدولية، فقد هُجّر منها أكثر من 13 مليون إنسان، نصفهم مهجّر داخلي، والنصف الآخر في بلدان العالم المختلفة، ما يعني أن الأسد تفوّق هنا في إجرامه على الاحتلال الصهيوني.
تدمير البنية التحتية المدنية والقصف المنهجي للمستشفيات واستهداف المدارس وتعمُّد قتل الأطفال والنساء ليست فقط سياسة إسرائيلية، في الواقع توسّع فيها النظام السوري إلى درجة لا يمكن تصورها، وبشكل أكبر وأقسى ممّا يفعله الاحتلال الآن بغزة، كما شنَّ هجمات مروعة بالأسلحة الكيميائية على دوما والغوطة الشرقية وخان شيخون وأماكن كثيرة عديدة، وقتل بالأسلحة الكيميائية حوالي 1400 إنسان بينهم أطفال في مذبحة بليلة واحدة بريف دمشق.
هناك أيضًا أوجُه تشابه بين طبيعة الهجوم وحجمه، ففي سوريا محى النظام أحياء بأكملها كانت مأهولة بالناس، فبعد 12 عامًا من المعاناة المستمرة، دُمّرت أكثر من نصف الأحياء السكنية بسوريا، على سبيل المثال في حمص وحدها سُوّي أكثر من 50% من الأحياء السكنية بالأرض، وفي غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول دمّر الجيش الإسرائيلي أحياء بأكملها، وحوالي نصف الأحياء السكنية تعرضت للتدمير بحسب تقارير الأمم المتحدة.
طالب إبراهيم، أحد أبرز المتحدثين باسم نظام الأسد على وسائل الإعلام، يقول نصًا: يا ليت عنده (النظام) سلاح نووي ليقصف (المعارضة) ويخلصنا”.
وكما استخدمت “إسرائيل” أسلحة محرمة دوليًا، مثل القنابل الفراغية وقنابل الفوسفور الأبيض والقنابل العنقودية، فقد استخدمها الأسد كلها في قصف شعبه مرارًا، وأضاف لها قصف المدن بالكيماوي والصواريخ البالستية، وكما تمنى مسؤولون إسرائيليون قصف الغزيين بالنووي، فقد فعل شبيحة الأسد علنًا كذلك.
أما حملات التدمير المتعمّد للتراث الثقافي فمتشابهة حد التطابق، فقد محى نظام الأسد ماضي سوريا الغني، واستهدف المساجد الأثرية على وجه الخصوص، وقصف أماكن مثل مسجد خالد بن الوليد في حمص، ودمّر المعالم الأثرية في مدينة حلب القديمة، وكان من نتائج هذه الإبادة الوحشية أن فقدت سوريا الكثير من تراثها وذاكرتها التاريخية، والسيناريو نفسه يطبّقه الكيان الصهيوني بالحرف على أرض الواقع الآن في غزة.
خاض بشار الحرب ضد الشعب السوري، وبرر الدمار الذي قام به باسم المؤامرة والحرب على الإرهاب، وهو التبرير نفسه الذي تستخدمه “إسرائيل” اليوم لإبادة الفلسطينيين، ورغم أن بشار ونتنياهو صنعا عالمًا لا قيمة فيه للحياة، وارتكبا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ويوجد جبل من الأدلة ضدهما، لكن الاثنين يفلتان من المساءلة والعقاب.
من المؤسف أن المشهد لم يتغيّر فيه أي شيء، والأسد ونتنياهو مستمران في ارتكاب المذابح والقصف، ولا شك أن حضور الأسد مؤتمر القمة العربية الإسلامية الذي عُقد الأسبوع الماضي، وإدانته نفس ما ارتكبه بحقّ الشعب السوري، تذكير مؤلم بالعدالة المفقودة، وغضّ الطرف عن الجرائم التي ارتكبها.
ومن اللافت أنه بينما كانت “إسرائيل” تدكّ غزة وأنظار العالم موجّهة نحوها، كان النظام السوري وحليفه الروسي في الوقت نفسه يستغلان أحداث غزة كغطاء لتكثيف جرائمهما، وقصف المناطق الخارجة عن سيطرتهما في شمال غربي سوريا.
لا أعرف إذا كنتم ستفهمون لكن سأحاول
هذه الصورة لعنصر في جيش الأسد يصور حذائه فوق إحدى المدن بعد رمي البراميل عليها
ما هو معيار التصويب عنده؟
فقط أن تأتي ضمن المدينة
إذا اعتبرنا أنه يقصف "مسلحين" فإن نسبة الخطأ مئة بالمئة
هذه المدينة الظاهرة تحت حذائه اسمها خان شيخون وهي مثل غزة… pic.twitter.com/kyKMKcGCpY
— قتيبة ياسين (@k7ybnd99) November 22, 2023
وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أدّت هجمات نظام الأسد وروسيا على شمال غرب سوريا خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلى استشهاد قرابة 45 مدنيًّا بينهم 13 طفلًا، و9 نساء و3 من العاملين في المجال الإنساني، علاوة على استهداف 51 منشأة مدنية خلال الشهر نفسه، من ضمنها ما لا يقل عن 10 مدارس و5 مستشفيات، فكما تعرضت مستشفيات غزة للقصف، كذلك في اليوم نفسه تعرضت معظم مستشفيات خان شيخون جنوب إدلب للقصف.
2/1ـ تصعيد عسكري غير مسبوق منذ سنوات، من قبل نظام الأسد وروسيا على شمال غربي #سوريا، يهدد حياة ملايين السكان ويضاعف مأساتهم بعد أكثر من 12 عام من الحرب والتهجير.#الخوذ_البيضاء #سوريا#الأسد_قاتل_السوريين pic.twitter.com/iXl3iELzrc
— الدفاع المدني السوري (@SyriaCivilDefe) October 26, 2023
وذكر فريق الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، أنه استجاب لـ 194 هجومًا في شمال غرب سوريا خلال أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وبعد زيارة منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في سوريا، ديفيد كاردين، لمدينة إدلب في الشهر الماضي، قال إن هناك 13 منشأة صحية تضررت بسبب قصف النظام.
إذا كانت هناك أي مقارنة يمكن استخلاصها الآن، فهي أن حرب الاحتلال الصهيوني اليوم ضد الفلسطينيين بغزة تحمل تشابهًا مع حرب نظام الأسد ضد السوريين، إذ إن المنهجية التي يتصرف بها الاثنان واحدة.
ومن الجدير بالذكر أن عامة السوريين، لا سيما في المناطق المحررة والخارجة عن سيطرة الأسد، أظهروا موقفهم الداعم لغزة من اللحظة الأولى، رغم انتقاد موقف حماس الأخير من النظام من خلال سعيها لإعادة العلاقة معه، وخرجوا في مظاهرات في الشمال السوري (حلب وإدلب) والجنوب السوري (درعا والسويداء) أعلنوا فيها تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، ورفعوا علم الثورة السورية بجوار العلم الفلسطيني، إضافة إلى حملات جمع التبرعات، في مشهد يدل على الألم المشترك، وأن الثورة السورية والقضية الفلسطينية لا يمكن فصلهما.
كانت إسرائيل دوماً آلة استعمار وقتل وجريمة وجود، ولكن مستوى الوحشية والاستباحة التامة غير المسبوق على غزة هذه الأيام هو في جزء منه نتيجة لبقاء بشار الأسد بعدما فعل كل ذلك وأصبح كل شيء مستباحاً وممكناً وآمناً من العقاب. pic.twitter.com/MNOAYVmHAh
— أحمد أبازيد (@abazeid89) November 5, 2023
ولعلنا نختم بتغريدة على “إكس” للكاتب والباحث السوري أحمد أبازيد يقول فيها: كانت إسرائيل دومًا آلة استعمار وقتل وجريمة وجود، ولكن مستوى الوحشية والاستباحة التامة غير المسبوق على غزة هذه الأيام هو في جزء منه نتيجة لبقاء بشار الأسد بعدما فعل كل ذلك وأصبح كل شيء مستباحًا وممكناً وآمناً من العقاب”.