تتصاعد وتيرة الأحداث الميدانية بينما تدخل الحرب التي تشنها قوات الاحتلال ضد قطاع غزة يومها السادس والأربعين، وسط مواجهات ضارية بين قوات المحتل والمقاومة الفلسطينية التي نجحت خلال الساعات الأخيرة في تكبيد جيش الكيان خسائر فادحة، واستطاعت عبر رشقاتها الصاروخية الوصول إلى قلب تل أبيب ومشارف حيفا.
وفيما تتواصل المعارك، تحدثّت تقارير إعلامية عن قرب إبرام صفقة تبادل أسرى بين حركة حماس وحكومة الاحتلال، تلك الصفقة التي تباينت الرؤى بشأنها خلال الآونة الأخيرة بين داعم ورافض لها، في ظل ضغوط قوية تتعرض لها حكومة الكابينت داخليًا وخارجيًا.
وتمارس الولايات المتحدة ضغوطًا على حكومة بنيامين نتنياهو لإتمام تلك الصفقة في ظل مطالب الشارع الأمريكي المتصاعدة للإفراج عن الرهائن الأمريكيين بقبضة حماس، حيث يعتقد الرئيس الأمريكي جو بايدن أن إتمام الصفقة بات قريبًا، وقال المتحدث باسم البيت الأبيض: “أصبحنا أقرب من أي وقت مضى لإتمامها بشكل كامل”.
حالة من الارتباك يعاني منها المشهد الإسرائيلي الداخلي بسبب الصفقة، وانقسامات حادة داخل مجلس الحرب، وذلك بعد الفشل في التوصل إلى أي معلومات استخباراتية عن أماكن الأسرى والرهائن وعدم القدرة على إطلاق سراح أي منهم رغم مرور 46 يومًا على بداية المواجهات، وهو الفشل الذي وضع نتنياهو وجنرالاته في مأزق كبير بين الاستمرار في المعارك رغم ما يحمله ذلك من مخاطر على حياة الرهائن، والقبول بهدنة مؤقتة قد تحمل بين طياتها انتصارًا رمزيًا للمقاومة.
تطورات الميدان.. سياق مهم
التطورات الحاليّة للمشهد داخل ساحة المواجهات على مدار الأيام الأخيرة تحديدًا تلعب دورًا كبيرًا في رسم وتحديد بوصلة صفقة تبادل الأسرى، صعودًا وهبوطًا، ويمكن الوقوف عليها من خلال 5 مسارات رئيسية:
استمرار المقاومة بشراسة.. رغم مرور 45 يومًا على الحرب لا تزال المقاومة صامدة وتقف على أقدامها بقوة، ففي الأيام الثلاث الأخيرة فقط دمرت قرابة 60 آلية ومدرعة وأسقطت أكثر من 15 مجندًا وضابطًا، كما وصلت رشقاتها إلى قلب تل أبيب وهو أمر لم يحدث منذ الأسبوع الأول للحرب، في رسالة مفادها أن المقاومة قادرة على المواجهة والصمود رغم كل هذا القصف والتدمير.
ضغوط الإدارة الأمريكية.. تمارس إدارة جو بايدن ضغوطًا كبيرةً على حكومة نتنياهو لقبول صفقة تبادل الأسرى في ظل ما تعاني منه من انتقادات داخلية بسبب الأسرى الأمريكيين ودعم حكومة الحرب الإسرائيلية والانتهاكات التي يمارسها جيش الاحتلال بحق الفلسطينيين، وهو الأمر الذي وضع بايدن في حرج كبير، ويكاد أن يقلب الطاولة عليه عكسيًا فيما يتعلق بتوظيفه للمشهد لأغراضه الانتخابية.
ضغوط عائلات الأسرى.. ساعة تلو الأخرى تشن عائلات الأسرى والرهائن هجومًا عنيفًا على نتنياهو وحكومته، تظاهرات أمام منزله وأمام مجلس الحرب بين الحين والآخر، مناشدات مكثفة في الإعلام وعبر اللقاءات الحية في الشوارع والميادين ومن خلال منصات التواصل الاجتماعي، كل ذلك يمثل ضغطًا كبيرًا على الحكومة لإبرام صفقة تبادل أسرى مهما كان الثمن.
أهالي الأسرى الإسرائيليين يتظاهرون ويحاولون اقتحام مقر اجتماع مجلس الحرب الذي يبحث صفقة التبادل مع الفصائل الفلسطينية#الحدث pic.twitter.com/LGtAczclp1
— ا لـحـدث (@AlHadath) November 20, 2023
الفشل في تحقيق أهداف الحرب حتى الآن.. ساعد على تعزيز الضغوط الممارسة على حكومة الحرب، الفشل في تحقيق أي من الأهداف المعلنة منذ بداية المواجهات، فلا تم القضاء على حماس ولا دمرت بنيتها التحتية ولا تم تحرير الأسرى والرهائن، الأمر الذي زاد من تأزم وضع الجيش والحكومة شعبيًا وسياسيًا وعسكريًا.
إطالة أمد الحرب وكلفتها الباهظة.. الخسائر التي يتعرض لها الكيان المحتل منذ بداية الحرب، سواء في عدد القتلى بصفوف الجيش، أم الكلفة المادية الكبيرة جراء الإفراط في استخدام الأسلحة والمعدات وتعطب الكثير منها (بمعدل 20 مدرعة وآلية يوميًا)، كذا الانتقادات الحقوقية، الإقليمية والدولية، جراء الانتهاكات ضد الإنسانية المرتكبة بحق الأطفال والنساء في قطاع غزة، كل ذلك يمثل ضغطًا كبيرًا على الحكومة الإسرائيلية ويزيد من معاناتها ويربك حساباتها سواء في استمرار القتال أم قبول أي صفقات سياسية.
تفاصيل الصفقة ونقاط الخلاف
هيئة البث الإسرائيلية الرسمية، قالت مساء الإثنين 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، إن إسرائيل أعطت “ضوءًا أخضر” لصفقة تبادل أسرى، في انتظار رد المقاومة الفلسطينية، مضيفة “حماس نقلت خلال الأيام الأخيرة الماضية اقتراحًا لإسرائيل، وفي إسرائيل توصلوا إلى تفاهمات بشأن قبول شروط ومطالب حماس”.
وذكرت الهيئة أن الصفقة “أقرب من أي وقت مضى هذه المرة”، لافتة أنه في حال تنفيذها “فسيكون وقف إطلاق النار لمدة خمسة أيام، وقد يمتد لفترة أطول، لكن في نهايته، من المتوقع أن تعود إسرائيل إلى الحرب في قطاع غزة”.
ولم تتحدث الهيئة عن تفاصيل الصفقة فيما يتعلق بعدد الأسرى، بينما نقلت وسائل إعلام عبرية وعربية أنها تتضمن وقف إطلاق النار لمدة 5 أيام تقريبًا، وإطلاق سراح 53 أسيرًا إسرائيليًا من مزدوجي الجنسية من النساء والأطفال مقابل عدد من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
مدير مكتب #العربية بفلسطين زياد حلبي: صفقة تبادل الأسرى قد تشمل إطلاق سراح 53 إسرائيلية مقابل 100 من الأسيرات والأطفال الفلسطينيين pic.twitter.com/liXFC1dLXB
— العربية (@AlArabiya) November 21, 2023
وتشير الخارجية القطرية، أحد الوسطاء الرئيسيين في الصفقة بجانب مصر والولايات المتحدة، إلى أن الأطراف وصلت إلى مرحلة مهمة من المفاوضات والتفاهمات، وسيصدر بيان رسمي في حال التوصل لاتفاق نهائي وكامل عن الأسرى.
وبحسب التقارير الواردة فإن المفاوضات رغم أنها وصلت إلى مستويات متقدمة، هناك عدد من النقاط الخلافية، تتمحور حول المدة الزمنية لوقف إطلاق النار، ما بين 7 و5 و3 أيام، بجانب عدد الذين سيتم إطلاق سراحهم في المرة الأولى، إذ يريد الجانب الإسرائيلي أكبر عدد من الأسرى، فيما تتمسك حماس بعدد محدود يتزايد تباعًا وفق شروط ومتطلبات جديدة.
انقسام داخل الكابينت.. مشهد مرتبك
إبرام صفقة لتبادل الأسرى مع المقاومة وقت القتال، فكرة مثيرة للجدل، وعليه أحدثت حالة من الارتباك داخل مجلس الحرب الإسرائيلي، لما تنطوي عليه من دلالات ورمزيات تصب في النهاية في صالح المقاومة وتضع الجنرالات في مأزق كبير، وكشفت صحيفة “هآرتس” أن الكابينت خلال الساعات الماضية شهد العديد من الانقسامات خلال مناقشته هذا الأمر.
الفريق الأول.. يؤيد الصفقة في أسرع وقت، ويمثله وزراء من حزب الوحدة الوطنية، على رأسهم وزير الدفاع السابق بيني غانتس، ويرى هذا الفريق أنه يجب على “إسرائيل” استغلال الفرصة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه بشأن إطلاق سراح الأسرى وإعادتهم إلى أهاليهم مرة أخرى، خصوصًا بعد الأخبار عن قتلهم في أثناء عمليات القصف.
الفريق الثاني.. يؤيد الصفقة لكن بشروط مسبقة، على رأسها ضرورة الإفراج عن جميع النساء والأطفال وكبار السن قبل إبرام الاتفاق بشكل نهائي، حيث يميل هذا الفريق إلى أن التطورات الأخيرة وضغوط عائلات الرهائن ربما أزمت المشهد بشكل كبير ولا بد من الخروج بمشهد يحفظ ماء وجه الحكومة.
الفريق الثالث.. رافض لإبرام أي صفقات في الوقت الحاليّ، وعلى رأسه وزير الدفاع الحاليّ يواف غالانت ويدعمه رئيس أركان الجيش وكبار قادة جهاز الأمن العام، حيث يرون أن استمرار الزخم وتكثيف الضغط العسكري على حماس هما الطريق الوحيد لانتزاع التنازلات منها.
أما رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، فلم يحدد موقفه بعد بشكل نهائي في ظل ضغوط من اليمين واليسار ومن الشارع الإسرائيلي لإبرام الاتفاق، وهو الذي نفى قبل ذلك أكثر من مرة وجود أي مفاوضات بشأن صفقة لتبادل الأسرى، مؤكدًا على مواصلة القتال حتى تحقيق الأهداف المعلنة.
هآرتس تكشف عن خارطة الانقسامات داخل حكومة الحرب الإسرائيلية حول صفقة الأسرى المرتقبة#غزة#العربية pic.twitter.com/98f9CfFJmn
— العربية (@AlArabiya) November 21, 2023
لماذا يتلكأ نتنياهو في إتمام الصفقة؟
التطورات الأخيرة تذهب باتجاه مماطلة ممنهجة من نتنياهو ووزير دفاعه لتأجيل إبرام صفقة تبادل الأسرى وذلك للأسباب التالية:
أولًا: يبحث نتنياهو عن انتصار زائف، يعوض به خسائره التي يتكبدها يومًا تلو الآخر، وذلك من خلال المزيد من القتل والتدمير ومضاعفة أرقام الضحايا في صفوف الفلسطينيين من النساء والأطفال، بما يسمح له تسويق الصفقة لدى المتطرفين من شعبه الرافضين لإبرامها مهما كان المقابل، وحتى لا يخسر دعمهم له مستقبلًا، كما ذهب المحلل السياسي الفلسطيني ياسر الزعاترة.
ثانيا: خشية شهادات الأسرى.. قد يجد نتنياهو سرديته المضللة عن سير المعركة التي روجها طيلة الأيام الأربعين الماضية في مهب الريح أمام شهادات الأسرى والرهائن حال الإفراج عنهم، كما فعلت الأسيرة التي أطلقت حماس سراحها قبل ذلك حين أكدت على حسن معاملة المقاومة لها بما تفند رواية الاحتلال الإجرامية عن وحشية مقاتلي القسام في تعاملهم مع المدنيين.
عدو يبحث عن صورة انتصار، والمشافي هي الهدف.
يماطل العدو في صفقة الأسرى والتهدئة، لا لشيء سوى أمله بأن يحقّق صورة انتصار تسوّق الصفقة على من يرفضونها من شعبه.
صواريخ تصل تل أبيب من جديد، وجنوده يسقطون، وآلياته تتحطّم، فلا يجد غير المشافي ينفّس فيها غضبه، ويسوّق من خلالها أكاذيبه.
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) November 20, 2023
فالأمر قد يتكرر هذه المرة لكن بشهادة العشرات، بما يصعب معه التشكيك كما حدث مع الأسيرة الأولى، ويضع الرواية الجنرالية التي تبرر كل هذا الإجرام والقتل في مأزق كبير، وعليه ليس هناك مانع لدى نتنياهو من قتل كل الأسرى لدى حماس لدفن شهادتهم وأسرارهم معهم، أو على الأقل تأجيل الكشف عن تلك الشهادات حتى تحقيق انتصار يحفظ ماء وجهه.
ثالثا: رمزية الصفقة بالنسبة لحماس.. منذ عام 1968 أبرمت المقاومة الإسلامية مع دولة الاحتلال أكثر من 10 صفقات لتبادل الأسرى (مقارنة بـ38 صفقة تمت بين العرب جميعًا وإسرائيل) أشهرها “صفقة الجليل” و”صفقة وفاء الأحرار”، كلها كانت تتم وقت السلم أو على أبعد تقدير أوقات التوتر والمناوشات، وتلك هي المرة الأولى التي قد تضطر فيها دولة الاحتلال لإبرام صفقة في ظل استمرار الحرب، ولذلك رمزية سياسية وعسكرية تضع الحكومة الإسرائيلية الحاليّة في مأزق تاريخي مأزوم في مسيرة الصراع مع العرب.
انتصار لمن.. حماس أم الاحتلال؟
دلالة إبرام الصفقة في هذا التوقيت وما تحمله من رمزية أثارت اهتمام الصحفي الإسرائيلي نير كيبنيس، مقدم برامج في “راديو تل أبيب”، الذي حاول فض الاشتباك بشأن تلك المسألة عبر مقال نشره في موقع “واللا” العبري بعنوان “صفقة الرهائن تقترب، هل ستكون انتصار لإسرائيل أو لحماس؟”.
كيبنيس أشار إلى أن إسرائيل “تقترب من لحظة اتخاذ قرار شبه مستحيل في قضية محتجزيها”، متسائلًا عما إذا كانت تلك الصفقة التي تتضمن عودة الأسرى الإسرائيليين إلى عوائلهم تعد انتصارًا لحكومة نتنياهو أم لحركة المقاومة الفلسطينية “حماس”.
ويميل الكاتب الإسرائيلي إلى أن تلك الصفقة إذا تمت بالفعل، فهي تعد انتكاسة كبيرة للحكومة الحاليّة في تل أبيب، مستدلًا عل ذلك ببعض المؤشرات غير المسبوقة منها أن “مجرد وجود مناقشة واقعية بالأروقة والحكومة الإسرائيلية، لهذا الملف، بمثابة أمر مستحيل”، لا سيما أن ذلك يتم وما زال الجيش في ساحة القتال، لافتًا إلى أن هذا الأمر “يلخص كل المشهد”.
واعتبر مقدم البرنامج العبري أن حملة عائلات الأسرى والرهائن الإسرائيليين قد انتصرت بشكل كبير على حكومة نتنياهو، خاصة بعد غياب ملف الأسرى عن قائمة أولويات الحرب التي حددها الكابينت في الأيام الأولى من الحرب في هزيمة حماس، وقتل قادتها، وتدمير مقدراتها السياسية والعسكرية، ومع ذلك لم يتحقق أي من تلك الأهداف بعد مرور أكثر من 40 يومًا، فضلًا عن الفشل في تحقيق أي منجز بشأن الأسرى، وهو ما أرضخ في النهاية الحكومة لضغوط الشارع والرأي العام الغاضب.
تحاول حماس من خلال تلك الصفقة – حال إتمامها – السير بشكل مرحلي نحو الوصول إلى هدفها الرئيسي المعلن سابقًا وهو “تبييض سجون الاحتلال من الأسرى الفلسطينيين”، بداية من سياسة “طفل مقابل طفل” و”امرأة مقابل امرأة”، وصولًا إلى سياسة “الكل مقابل الكل”، وذلك بالتزامن مع هدف إنقاذ سكان القطاع عبر إدخال المساعدات الإغاثية والطبية لهم – كجزء من الصفقة – بعدما شدد المحتل حصاره الانتقامي عليهم حتى أوقع معظم مدن غزة في كارثة إنسانية محققة.
في الأخير.. فإن رضوخ حكومة الاحتلال لشروط حماس بشأن صفقة تبادل الأسرى، بصرف النظر عن تفاصيلها، يعد انتصارًا يحسب للمقاومة، ونقطة جديدة تضاف إلى نقاط المعركة التي غيرت بها الفصائل موازين القوى وأعادت هيكلة معادلة التوازن بشكل أرق الاحتلال وأعوانه من العرب والعجم على حد سواء.