يمتد تاريخ الصيام إلى آلاف السنين قبل الإسلام، وقد عرفته الحضارات القديمة كنوعٍ من الممارسات الصحية الضرورية للجسم، إذ كانوا يعدون الصوم طريقةً ناجعة لحماية الجسم ووقايته من الأمراض والعدوى، خاصة عند انتشار الأوبئة المُعدية، لأن الصوم – كما كانوا يرون – يساعد على تنظيف الجسم وإزالة المواد السامة والراكدة فيه.
وفي اليونان القديمة، كان فيثاغورس من بين العديد من العلماء الذين تطرقوا لفضائل الصوم، وفي مصر كان يُفرض على الراغبين في الالتحاق بخدمة معابد إيزيس وأوزوريس أن يصوموا بضعة أيام كاملة لا يتناولون فيها غير جرعات قليلة من الماء، ويتمُ رفض غير القادرين على الصوم والتحمل.
وقد لعب الصيام دورًا رئيسيًا في جميع الأديان الرئيسية في العالم، باستثناء الزرادشتية التي تحظره، فالكتب السماوية اليهودية والمسيحية والإسلامية ركزت كثيرًا على أهمية الصوم في حياة الفرد والمجتمع، وبعضها دعت إليه باعتباره فرض لازم على أفرادها.
ففي اليهودية مثلًا يرتبط الصوم ببعض المشاعر النفسية القوية للفرد، مثل الحزن والندم والحداد، فيصومون ما يُعرف لديهم بيوم التكفير ويوم الغفران.
في القرن التاسع عشر، دعت مجموعة من الأفراد إلى “الصيام العلاجي”، كجزء من “حركة النظافة الطبيعية” في الولايات المتحدة، الذي يهدف مع إشراف طبي إما للعلاج أو لمنع تفشي الأمراض وانتشارها
أما في المسيحية فيعتبر الصيام عادةً نافعة للنفس، فمدون في كتبهم السماوية أن المؤمنين كانوا يصومون قبيل الإقدام على قرارات مهمة، لتدريب النفس على التركيز على ما هو مهم بعيدًا عن الأشياء المادية، وقد اتبع العرب قبل الإسلام في صيامهم الأديان المحيطة بهم مثل المسيحية واليهودية، فلما جاء الإسلام أقر شعيرة الصوم وأكد أنه لم يبتكره، وإنما كان سنةً من سنن الأولين في الأرض.
في القرن التاسع عشر، دعت مجموعة من الأفراد إلى “الصيام العلاجي”، كجزء من “حركة النظافة الطبيعية” في الولايات المتحدة، الذي يهدف مع إشراف طبي إما للعلاج أو لمنع تفشي الأمراض وانتشارها، وكان الدكتور هربرت شيلتون رائدًا في تلك الحركة، إذ افتتح كليةً للصحة في تكساس عام 1928، هدفها مساعدة المرضى لاستعادة صحتهم عن طريق الصيام، وقد زعم أنه ساعد 40 ألف مريض من خلال برنامجه.
في الوقت الحديث، استُخدم الصيام كنوعٍ من الاحتجاجات السياسية، وأكبر مثالٍ على ذلك المهاتما غاندي خلال نضاله من أجل استقلال الهند، فقد بدأ صيامه كوسيلة لضبط النفس وزيادة إمكانيتها على التحمل والمقاومة، ثم أدرك أن فوائده أكبر بكثير من ذلك منها تنقية الجسم من السموم وزيادة الوعي وتعزيز الروحانية، وخلص غاندي إلى أنه “ليس هناك صلاةً دون صيام”، حيث ربط الصيام بتنقية النفس كسببين أساسيين لإثبات الذات وتحقيق النصر.
قامت العديد من الدراسات والأبحاث في السنين الأخيرة بدراسة آثار الصوم على الصحة العقلية والنفسية للفرد، فقد أوجدت إحداها أن الصوم يؤدي إلى تحسين المزاج، والصفاء الذهني واليقظة، بالإضافة إلى زيادة الشعور بالسعادة وأحيانًا النشاط والخفة
ولا يُمكن أبدًا فصل الآثار الإيجابية للصوم على الجسد عن آثاره على النفس والعقل، فعندما يعمل الجسم والدماغ على الخلاص من المواد السامة والضارة يتم تحرير العقل بطرقٍ شتى سواء من الناحية الفسيولوجية أو النفسية، فتنقية خلايا الجسم من السموم والمواد غير النافعة تعمل على الحد من الحالات النفسية السلبية مثل القلق والملل والاكتئاب والخوف والتوتر والشعور بالوحدة وغيرها الكثير.
وبالإضافة إلى الآثار الإيجابية على الجسد وأجهزته، قامت العديد من الدراسات والأبحاث في السنين الأخيرة بدراسة آثار الصوم على الصحة العقلية والنفسية للفرد، فقد أوجدت إحداها أن الصوم يؤدي إلى تحسين المزاج، والصفاء الذهني واليقظة، بالإضافة إلى زيادة الشعور بالسعادة وأحيانًا النشاط والخفة.
فيما يلي بعض الآثار الإيجابية للصوم على الصحة النفسية والعقلية:
التحكم بالمزاج
يرى علماء النفس أن الآثار الإيجابية للصوم قد تكون إحدى الآليات التطورية التي تكيف معها الإنسان منذ القدم وطورها خلال فترات المجاعات ونقص الغذاء، وبعبارة أخرى، عندما يصبح الغذاء نادرًا، تقوم أجسامنا بإفراز بعض المواد الكيميائية لمساعدة أدمغتنا وحمايتها من الآثار السلبية لعدم وجود الطعام.
خلال الأسبوع الأول من الصيام، يبدأ الجسم بالتكيف مع الجوع من خلال إفراز كميات ضخمة من الكاتيكولامينات “catecholamine” بما في ذلك هرموني الأدرينالين والدوبامين، بالإضافة إلى الهرمونات التي تعمل على تنظيم نسبة الجلوكوز في الجسم، كل هذه الهرمونات يتم إفرازها في حالة “الكر والفر” التي يدخلها الجسم في أوقات الضغط والتوتر والإجهاد، لإدخال الجسم والعقل في حالة شعور جيدة وتقليل نسبة التوتر.
علاج القلق والاكتئاب
الصوم العلاجي خفف خلال بضعة أيام فقط من أعراض الاكتئاب والقلق عند 80% من ذوي الأمراض المزمنة ممن اشتركوا في الدراسة
أشارت دراسة أُجريت عام 2009، أن الصوم العلاجي خفف خلال بضعة أيام فقط من أعراض الاكتئاب والقلق عند 80% من ذوي الأمراض المزمنة ممن اشتركوا في الدراسة، ولم تتضح الآلية وراء ذلك، غير أن الباحثين اعتقدوا أن السبب يعود إلى إفراز هرمون الإندورفين “endorphins” خلال الـ48 ساعة الأولى من الصيام، والمسؤول عن تخفيف الألم والتوتر على المدى القصير، والشعور بالسعادة والراحة على المدى البعيد، أي أن مفعوله يشبه تقريبًا مفعول الكوكايين والهيروين وغيرها من المواد.
تحسين النوم وعلاج القلق
دراسة أخرى أُجريت عام 2003، توصلت إلى أن الصوم العلاجي يساعد على تحسين النوم عما كان عليه قبل الصوم، ومعروفٌ أيضًا أن النوم السيئ يرتبط بالمزاج السيئ، فتحسين النوم يعمل بطريقة أو بأخرى على تحسين المزاج ورفع مستوى السعادة والراحة عند الفرد.
الصيام يقي من الأمراض العصبية
يزيد الصيام من إفراز أحد الهرمونات الدماغية المعروف باسم BDNF والمرتبط أساسًا بزيادة تكوين الخلايا العصبية الجديدة في الحُصين، مما يُحسن من النتيجة الوظيفية للدماغ في حالات الأمراض مثل السكتة الدماغية أو مرض باركنسون ومرض هنتنغتون مثلًا، الأمر الذي يقي من تفاقم المرض ويزيد من إمكانية تحسنه.
ولا يجب أن نغفل عن أن الصوم يؤتي ثماره ونتائجه الإيجابية فقط إذا مورس بالشكل الصحيح، فقد يستغرب الكثيرون ممن يقرؤون هذا المقال من أن أنهم لا يرون أيًا من هذه النتائج أبدًا، وإنما على العكس تمامًا قد يجعل منهم الصوم أناسًا قلقين غاضبين لا يحتملون صغائر الأمور ويفقدون أعصابهم بسرعة كبيرة، متناسين أن الكثير من العادات الخاطئة التي ترافق الصوم تمنع عنا الكثير من إيجابياته وتحرمنا من فوائده، فالأكل النهم والإكثار من الحلويات بعد الإفطار مثلًا يقضي على ماهية الصوم وعلى فوائده التي صُمم من أجلها، وجديرٌ بالذكر أن الكثير من برامج علاج السمنة والسمنة المفرطة في الولايات المتحدة تقوم على فكرة الصوم، بالإضافة للرياضة والاهتمام بنوعية الأكل.
استسلام الجسم للقيود العقلية هي ما تمنعه من إحقاق فوائد الصوم وإيجابياته
وبالإضافة إلى عادات الأكل الخاطئة، يجب أن يدرك المدخنون الذين يبررون سبب غضبهم بامتناعهم عن التدخين لأجل الصوم، أن الكثير من برامج علاج الإدمان من الكحول والتدخين تقوم على فكرة الصوم العلاجي، أي أن امتناع الجسم عن الطعام والشراب لفترة يساعد في تخليصه من المواد الكيميائية السامة المرتبطة بالإدمان والتدخين.
خلاصة الأمر أن استسلام الجسم للقيود العقلية هي ما تمنعه من إحقاق فوائد الصوم وإيجابياته، فيُقنع الفرد نفسه بأن الصوم يشكل عائقًا أمام إنتاجيته فلا يعود قادرًا على الدراسة أو العمل أو إنجاز أي مهمة، في حين أنه وفقًا للكثير من الأبحاث والدراسات، فإن الصوم يساعد على التركيز وتصفية الذهن ومساعدة النفس على التحمل، أو يقنع المدخن نفسه بأن يومه دون سيجارة سيكون سيئًا جدًا مليئًا بالأحداث السلبية في حين أنه لو فكر في الأمر جيدًا سيرى أن الصوم فرصة له للتخلص من قيد السيجارة الذي يرافقه.