أعلنت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” أنها توصلت إلى اتفاق هدنة إنسانية (وقف إطلاق نار مؤقت) مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بعد مفاوضات صعبة ومعقدة، فيما تدخل الحرب على غزة يومها السابع والأربعين وسط تكثيف جيش الاحتلال لغاراته التي تستهدف المشافي والمدارس والمدنيين من الأطفال والنساء شمال القطاع وجنوبه.
ومن المقرر أن تدخل الهدنة الإنسانية المحددة بأربعة أيام وتمت بوساطة قطرية مصرية أمريكية حيز التنفيذ تمام الساعة السادسة صباح الخميس 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 بالتوقيت المحلي لفلسطين (حسب إعلام عبري)، وسط تباين في وجهات النظر بشأن ما تعكسه تلك الصفقة من دلالات وما تبعث به من رسائل ومؤشرات عن سير المعركة وتحديد هوية المنتصر فيها.
تفاصيل الاتفاق
وفق البيان الصادر عن حماس فإن الهدنة تتضمن وقف إطلاق النار من الطرفين، ووقف كل الأعمال العسكرية لجيش الاحتلال في كل مناطق قطاع غزة، ووقف حركة آلياته العسكرية المتوغلة في قطاع غزة، بجانب إدخال مئات الشاحنات الخاصة بالمساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية والوقود، إلى كل مناطق قطاع غزة، بلا استثناء شمالًا وجنوبًا.
كما تتضمن إطلاق سراح 50 من محتجزي الاحتلال من النساء والأطفال دون سن 19 عامًا، مقابل الإفراج عن 150 من النساء والأطفال الفلسطينيين المحتجزين في سجون الكيان دون سن 19 عامًا وذلك كله حسب الأقدمية.
الاتفاق شمل وقف حركة الطيران في (الجنوب) على مدار الأربعة أيام، ووقف حركة الطيران في (الشمال) لمدة 6 ساعات يوميًا من الساعة 10:00 صباحًا حتى الساعة 4:00 مساءً، مع التزام جيش الاحتلال بعدم التعرض لأحد أو اعتقال أحد في كل مناطق قطاع غزة، وضمان حرية حركة الناس (من الشمال إلى الجنوب) على طول شارع صلاح الدين خلال فترة الهدنة.
هدنة لالتقاط الأنفاس رغم الدماء الغزيرة ..#غزة pic.twitter.com/h5wn7bj54K
— وائل الدحدوح Wael Al dahdouh (@WaelDahdouh) November 22, 2023
الحركة قالت إن بنود الاتفاق كاملة صيغت وفق رؤية المقاومة ومحدداتها التي تهدف إلى خدمة الشعب الفلسطيني وتعزيز صموده في مواجهة العدوان، كما أن الحركة وبقية فصائل المقاومة أدارت تلك المفاوضات من موقع الثبات والقوة في الميدان، مشددة على أن الأيدي ستبقى على الزناد والكتائب ستظل بالمرصاد للدفاع عن الشعب الفلسطيني ودحر الاحتلال وأعوانه.
عاجل | حركة "حـ.ـمـ.ـا.س": إطلاق سراح 50 من محتجزي الاحتلال من النساء والأطفال مقابل الإفراج عن 150 امرأة وطفلًا فلسطينيًا pic.twitter.com/JNVfz0ldJw
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) November 22, 2023
صفقة بخلع الضرس
إن كان هناك من مسمى لوصف الأجواء التي تمت فيها تلك الصفقة فمن الأحرى أن يطلق عليها “صفقة بخلع الضرس”، حيث تمت بالقهر والجبر والضغط على حكومة نتنياهو ومجلس الحرب المشكل لإدارة المعركة.
أكثر من 6 ساعات خاضتها حكومة الاحتلال في مناقشة الموافقة على بنود الصفقة، وسط تباين واختلافات وغضب بشأن عقد اتفاق مع حماس من الأساس، بينما الحرب دائرة، والجنود والضباط الإسرائيليون يتساقطون كأوراق الخريف.
الأجواء جميعها تذهب باتجاه أن الحكومة الإسرائيلية وافقت على الاتفاق مرغمة، بفعل الضغوط التي مورست عليها من جانب عائلات الأسرى والإدارة الأمريكية بجانب فقدان أي أمل في التقدم قيد أنملة نحو هدف تحرير الرهائن بالقوة والقتال.
ارتباك الاحتلال الذي فشل في تحقيق أي من أهدافه المعلنة من تلك الحرب، وتحقيق انتصارات زائفة على حساب الأطفال والنساء، وبهدم المشافي والمدارس والمساجد والكنائس، أحدث شروخات قوية في منظومة الدعم المقدم له دوليًا، ما مثل ضغطًا جديدًا عليه كما أشار الخبير في شؤون الأمن الإستراتيجي إبراهيم العبادي بقوله “الدعم الدولي لإسرائيل بدأ يتآكل، ونتنياهو اضطُرّ إلى الموافقة على شروط صفقة تبادل الأسرى بسبب الضغوط الداخلية”.
فرض شروطها كاملة.. انتصار للمقاومة
الكثير من التقارير والتحليلات الصحفية المنشورة في “نون بوست” وغيرها خلال الأيام الأخيرة حاولت الإجابة عن السؤال الملح: هل التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى يعد انتصارًا لحماس أم لدولة الاحتلال؟ وقد تباينت الإجابات التي جاءت في أغلبها في إطار تخميني بحت وفق رؤية ونظرة كل طرف، غير أنه وبعد الإعلان رسميًا عن بنود الاتفاق، تتضح الرؤية بشكل كبير للوقوف على إجابة هذا السؤال بشكل عملي وفق العديد من المؤشرات التي تذهب جميعها لتؤكد أن المقاومة هي المنتصر الأكبر في تلك المواجهة ومن أبرزها:
– حماس هي التي فرضت شروطها بداية من البنود المقترحة منذ انطلاق المفاوضات قبل أكثر من 3 أسابيع وحتى الموافقة عليها، وهو ما أقرته التقارير المنشورة في الإعلام العبري وتصريحات المسؤولين هناك.
– على مدار أكثر من 45 يومًا لم تنجح قوات الاحتلال وأجهزته الاستخباراتية والأمنية في كشف مكان اختباء الأسرى، كما أنهم فشلوا في تحرير أسير واحد فقط طيلة تلك المدة رغم التقدم التكنولوجي الذي يتمتعون به.
– الحكومة الإسرائيلية أُجبرت على الموافقة والرضوخ لشروط حماس، استجابة للضغوط سالفة الذكر التي عززتها المقاومة كإستراتيجية سياسية استخباراتية لإرغام المحتل على التسليم ورفع الراية البيضاء وقبول الصفقة.
وزير الأمن القومي الإسرائيلي:
"إسرائيل" قبلت إملاءات يحيى السنوار وحماس
صفقة التبادل خطوة خطيرة وحماس حصلت على ما تريد
— رضوان الأخرس (@rdooan) November 22, 2023
– حققت المقاومة من خلال تلك الصفقة العديد من أهدافها:
- تحسين صورتها أمام المجتمع الدولي – بما يخفف الضغط عليها – بالإفراج عن النساء والأطفال ومزدوجي الجنسيات بما لا يخل بأوراق الضغط التي لديها بشأن الضباط والجنرالات الأسرى من الإسرائيليين.
- إدخال الوقود للقطاع لإعادة الحياة مرة أخرى.
- إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من النساء والأطفال في سجون الاحتلال.
- وقف عمليات جيش الاحتلال ضد المدنيين ومنحهم فسحة لالتقاط الأنفاس.
- إعادة ترتيب الأوراق مرة أخرى من حيث أماكن التمركز وخطط المواجهة بعد أكثر من 45 يومًا من القتال دون فرصة لتقييم الوضع.
يرى الأكاديمي والسياسي المصري حسن نافعة أن صمود المقاومة والتفاف الشعب الفلسطيني حولها وتماسك الجبهة الداخلية وإصرارها على المضي قدمًا نحو تحرير الأرض بصرف النظر عن الخسائر، كان أبرز الأسباب التي أجبرت الاحتلال على قبول هدنة مؤقتة، معتبرًا ذلك انتصارًا كبيرًا يحسب للمقاومة.
السياسي الفلسطيني فايز أبو شمالة يعتبر أن المكاسب التي حصلت عليها المقاومة خلال المرحلة الأولى من الهدنة المؤقتة الحاليّة تعكس حجم الانتصار الذي تحقق، خاصة أن المقابل هو الإفراج عن النساء والأطفال الأسرى، لافتًا إلى أن المكاسب ستتضاعف عند التفاوض على الجنرالات والضباط والجنود الذين بقبضة المقاومة، متسائلًا: “ما الشروط التي ستفرضها المقاومة على الإسرائيليين مقابل إطلاق عشرات الضباط والجنود الإسرائيليين الأسرى؟ وما ثمن الجنرال الإسرائيلي نمرود ألوني؟”.
وتؤكد حركة الجهاد الإسلامي على تلك السردية من خلال بيانها الصادر تعليقًا على الصفقة حين قالت: “الاحتلال كان يتوهم أنه بإمكانه استعادة أسراه دون شروط، وخاصة بعد فشل جيشه في الميدان وعجزه عن كسر إرادة الشعب الفلسطيني ومقاومته”، مؤكدة أن “الأسرى الإسرائيليين لديها من غير المدنيين لن ينالوا الحرية حتى تحرير كل الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال”.
خيبة وحسرة.. هزيمة قاسية للاحتلال
انتصار المقاومة يعني بطبيعة الحال هزيمة الاحتلال، لكنها الهزيمة المذلة – بحسب وصف محللين إسرائيليين -، التي تضع سمعة الكيان السياسية والأمنية والاستخباراتية والعسكرية في مهب الريح، وتهشم كل الأساطير الوهمية التي بناها على مدار سنوات طويلة.
الكاتب الصحفي المصري أحمد إبراهيم يرى أن التزحلق الشديد في الأهداف الإسرائيلية من أعلى هرم الطموحات حيث القضاء على حماس وتدمير بنيتها التحتية عبر الدعم العسكري واللوجستي الهائل من حلفاء الغرب (أمريكا – بريطانيا – فرنسا – ألمانيا – إيطاليا)، والاستعانة بحاملات الطائرات والغواصات والقنابل الفتاكة، إلى الرضوخ لشروط حماس والموافقة على هدنة قابلة للتمديد، يعكس حجم الانتصار الذي حققته المقاومة، ومدى المهانة والهزيمة التي منيت بها حكومة الاحتلال، عسكريًا وسياسيًا.
حكومة الاحتلال وعلى لسان وزير أمنها القومي إيتمار بن غفير، يصف قبول الهدنة بـ”الكارثة” ويرى أنه سيكون لها تبعاتها المذلة على مستقبل دولة الاحتلال، الرأي ذاته شاطره فيه العديد من أعضاء الحكومة، فيما جاءت لغة جسد قادة مجلس الحرب، خاصة نتنياهو وغالانت، كاشفة بقوة عن حجم الانكسار الذي يعاني منه الكيان الذي فضحت المقاومة هشاشته وضعفه.
Itamar Ben-Gvir, Minister of National Security in Israel is defending the decision of not allowing fuel to enter Gaza so that the people got lice
إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي، يدافع عن قرار عدم السماح بدخول الوقود إلى غزة حتى يصاب الناس بالقمل
الترجمة من العبرية… pic.twitter.com/INd0jPdLjV
— Khaled Yousry (@KhaledYousry22) November 21, 2023
النخبة الإسرائيلية من محللي وخبراء الصحف العبرية جاءت تعليقاتهم هي الأخرى في هذا الاتجاه، حيث تميل إلى أن ما تعرض له الاحتلال من هزيمة بسبب تلك الهدنة لا يقل أبدًا في فضيحته وانكساره وتأثيره عما تعرضت له دولة الاحتلال في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
الكاتب الإسرائيلي ياساكا بينا في مقال له على صحيفة “إسرائيل اليوم” كتب يقول: “بعد 47 يومًا يتمّ إبلاغنا بالصفقة القادمة. تنكشف التفاصيل ومعها الترشيح. هذه ليست صفقة، هذا استسلام. هنا مرة أخرى تعتزم دولة إسرائيل أن تمنح قتلتها وقاتليها جائزة النصر بينما تُذلّ على الأرض”.
🔴 عدّ محلل سياسي في صحيفة "يسرائيل هيوم" العبرية، أن صفقة الأسرى الإسرائيليين تعني أن ما خططت له حـ..ـماس، يسير كما أرادت الحركة، وأن #إسرائيل سارت في المسار الذي حدده يحيى السـ.ـنوار ومحمد الضـ.ـيف، بصفقة الهدنة.
📌 التفاصيل| https://t.co/gsZq0pqvZh#إرم_نيوز pic.twitter.com/ioJReIRF6c
— Erem News – إرم نيوز (@EremNews) November 22, 2023
الكاتب ناحوم برنياع في صحيفة “يديعوت أحرونوت” يقول: “لا يجب أن يكون هناك أيّ سوء فهم: الخيارات سيئة، القرارات صعبة، الصيغة المبنية على الدفعات، وقف النار وبعده مزيد من وقف النار ومزيد من وقف النار تصعّب عملية برية متواصلة، ناجعة، وتشوّش الخطط. وهي تخلق إحباطًا في أوساط القوات بسبب المراوحة في المكان، وتخلق ضغطًا في الميدان وفي الجبهة الداخلية لتسريح قوات الاحتياط. هذه ليست صفقة، فالصفقة هي كلمة نكراء حين يدور الحديث عن منظمة إرهاب. هذا ابتزاز، هذا اضطرار”.
صحيفة “يسرائيل هيوم”: “صفقة الأسرى الإسرائيليين تعني أن ما خططت له حماس، يسير كما أرادت الحركة، وأن إسرائيل سارت في المسار الذي حدده يحيى السـنوار ومحمد الضيف، بصفقة الهدنة”.
عاجل | مستشار رئيس الحكومة الإسرائيلية: إسرائيل مستعدة لتمديد الهدنة الإنسانية في غزة لإخراج مزيد من مواطنيها pic.twitter.com/HSeBt6n0GV
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) November 22, 2023
لماذا يقلق الإسرائيليون من الهدنة؟
في الوقت الذي تتصاعد فيه أصوات – عربية في معظمها – تقلل من قيمة الهدنة وتأثيرها على سير المعركة، وأنها ستصب في صالح جيش الاحتلال الذي سيكون أمامه الوقت لإعادة ترتيب أوراقه، عبر الجنرال الأمريكي المتقاعد جيمس ماركس عن التداعيات السلبية لتلك الصفقة على قدرات الجيش المحتل.
وحذر ماركس خلال مداخلة تليفزيونية له مع قناة “CNN” الأمريكية من أن جيش الاحتلال خلال فترة الهدنة سيفقد الكثير من معلوماته الاستخباراتية التي جمعها خلال الأيام 46 الماضية، وأن حماس “خلال فترة التوقّف، ستقوم بإعادة التمركّز، وستبذل كل ما في وسعها لتعزيز أمنها”.
ولفت إلى أن تطورات المشهد الميداني تشير إلى أن الجيش الإسرائيلي وجنوده باتوا مكشوفين أمام مقاتلي حماس، وبالتالي أصبحوا أهدافًا لهم في ظل فشل الاستخبارات الإسرائيلية في الكشف عن منظومة الأنفاق الحمساوية، مضيفًا “يمكن أن تتحول هدنة الـ4 أيام إلى 5 أو 6 أيام إذا استمروا في إعادة الرهائن إلى إسرائيل، ستصبح المهمة العسكرية صعبة للغاية، سيتعيّن على الإسرائيليين في تلك المرحلة الانتقال إلى وضع دفاعي”.
جنرال أمريكي يشرح تبعات "الهدنة" السلبية على جيش الاحتلال ومهمّته!
هو الجنرال الأمريكي المتقاعد جيمس "سبايدر" ماركس، وكان يتحدث لـ"CNN" عن تأثير توقف النشاط العسكري على قدرات الجيش الإسرائيلي في غزة.
رأى أن "التأثير الأساسي هو أن الجيش الإسرائيلي يفقد معلومات استخباراتية عن… pic.twitter.com/zRCPjbqjYD
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) November 22, 2023
واختتم الجنرال الأمريكي حديثه بأنه بعد انتهاء أيام الهدنة قد يتغير الوضع عسكريًا، ويجد جيش الاحتلال نفسه في موقع الدفاع وليس الهجوم، وهو ما يغير مهمته بشكل كبير، وتابع “ستصبح هذه مهمة يصعب كثيرًا على القادة العسكريين تنفيذها”.
اللافت هنا أنه رغم رد فعل الداخل الإسرائيلي، نخبة وشارع، جنرالات وساسة، بشأن ما تعكسه تلك الصفقة من انتصار المقاومة وهزيمة واستسلام حكومة الاحتلال وجيشه الذي لا يقهر، إلا أن البعض يرى عكس ذلك، مستندًا إلى أرقام الضحايا من الفلسطينيين وحجم الدمار الهائل الذي حل بالقطاع.
غير أن تلك المقاربة الانبطاحية المنهزمة تتعارض شكلًا ومضمونًا مع فلسفة القتال ومقاومة الاحتلال، في أي أرض وتحت أي سماء، تلك المعارك طويلة الأجل التي يسقط فيها العديد من الضحايا ممن يقدمون أرواحهم ودماءهم ثمنًا لتحرير الأرض وحفظ العرض والتصدي للمحتل.
بالمحصلة، فإنّ ما حققته المقاومة حتى اليوم – رغم الثمن البشري الباهظ الذي تستحقه القضية وغاياتها النبيلة – يعد خطوة مهمة في مسار مواجهة المحتل الغاشم، الذي استقر في يقينه أن معادلة القوة قد تغيرت وأن خريطة التوازن يعاد تشكيلها من جديد، وأن ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لن يكون كما بعده.