في تمام الساعة الثانية عشر من منتصف ليل اليوم الأول من شهر رمضان المبارك، رن هاتف البيت فأيقظ صوته العالي جميع أفراد العائلة، فأسرعوا جميعًا إلى الصالون كأنهم يتسابقون نحو الهاتف ورفعت السماعة للحديث مع “الغالي” الذي طال انتظاره، ولكن صوت الرنين انقطع فجأة وعاد الهدوء للبيت مجددًا.
وعند اقترابهم من الهاتف سمعوا حديثًا خافتًا، يقول: “الله يرضى عليك يا عمري يا غالي، أنا بستاناك من ساعتين جنب الهاتف لأسمع صوتك وأقلك رمضان كريم”، فكانت أمهم قد سبقتهم للهاتف وردت على “الغالي” وتحدثت معه قبلهم جميعًا، هكذا كان الاتصال الأول الذي أجراه المغترب الفلسطيني ياسر العوضي “37 عامًا”، بعائلته في اليوم الأول من شهر رمضان المبارك.
الشعور بالغصة الممزوج بالحنين ومرارة الغربة، كان يسيطر على المغترب العوضي، الذي يدرس طب الأسنان في النمسا، خلال اتصاله بعائلته
الشعور بالغصة الممزوج بالحنين ومرارة الغربة، كان يسيطر على المغترب العوضي، الذي يدرس طب الأسنان في النمسا، خلال اتصاله بعائلته، حين بدأ الحديث مع أمه لأكثر من 15 دقيقة، ثم انتقل لباقي أفراد عائلته يهنئهم بحلول الشهر الفضيل، مع سرد بعض الذكريات الجميلة التي كان يقضيها مع أخوته خلال وجوده في غزة قبل سنوات.
مشتاق للمه العيلة والقطايف
ويقول العوضي والذي حرمه معبر رفح البري من دخول غزة ورؤية عائلته للعام الرابع على التوالي، لـ”نون بوست”: “اتصالي الأول بعائلتي لأهنئهم بالشهر الفضيل، كان قاسيًا وصعبًا، فأنا محروم من رؤية عائلتي منذ 4 سنوات بسبب إغلاق معبر رفح البري”.
ويضيف العوضي الذي يسكن رفقه 3 فلسطينيين في بيت للإيجار في العاصمة النمساوية لاستكمال الدارسة: “حاولت أن أتماسك خلال حديثي مع والدتي، لكن دمعة الشوق والحنين سبقتني ولم أتمكن من تمالك نفسي، حتى شعرت أمي بذلك وقالت لي: لا تبكي ياسر، وأكيد راح نشوفك وتشوفنا قريب”.
ويتابع: “أعيش 4 سنوات في الغربة، وأحاول أن أتعايش مع شهر رمضان المبارك وأقوم ببعض العادات التي كنت أعيشها بغزة، لكن للأسف لا الأجواء ولا الإمكانيات تسمح بذلك”، ويختم العوضي حديثه بالقول: “مشتاق للملة العيلة الجميلة وأكل القطايف، نأمل من الله أن يجمعنا بغزة قريبًا”.
أما الطالبة آية التلولي، فهي أقربهم للوطن وللأطباق الفلسطينية، حيث تدرس في جامعة الزقازيق مصر، وتقيم مع أربع طالبات فلسطينيات، يتناوبن على تحضير الإفطار وجلي الأطباق.
لم يكن اليوم الأول في رمضان سهلًا على آية، فهي المرة الأولى التي تقضي الشهر الفضيل بعيدة عن مائدة العائلة
لم يكن اليوم الأول في رمضان سهلًا على آية، فهي المرة الأولى التي تقضي الشهر الفضيل بعيدة عن مائدة العائلة و”فوضاها”، فتقول: “أشتاق لأكلات وطقوس رمضان حتى أبسط التفاصيل كالفوضى في المطبخ قبل الآذان واجتماعنا بعد صلاة التراويح”.
وتضيف بانزعاج فيما تنتظر مع صديقاتها: “مرت ساعة على أذان المغرب وما زلنا ننتظر الطعام يجهز، هذه أول مرة نعمل ورق عنب ومحاشي”.
ليس سهلًا على آية الجمع بين الدراسة وإدارة المطبخ في رمضان، وخاصة في أوقات الامتحانات، لذلك قد تلجأ للطعام الجاهز أو المعلبات طيلة فترة الامتحانات، “عشان نجهز الإفطار ما بندرس، بنبدأ تجهيز من الظهر” تقول.
قصة معاناة العوضي والتلولي ليست سوى واحدة من قصص المعاناة والألم التي يعيشها آلاف الفلسطينيين المغتربين في الخارج، والذي يقف معبر رفح عائقًا أمام أحلامهم في رؤية عائلاتهم في قطاع غزة، والعيش معهم روحانيات الشهر الفضيل التي ترفض الذاكرة نسيان لحظاتها الجميلة.
مشاعر تأججت بالحنين والشوق للأهل والوطن في رمضان، وترقرقت في العيون دمعات الأنين لافتقاد روحانيات الشهر باجتماع الأهل في الصلاة والقيام والتسبيح وافتقادهم على مائدة الإفطار والسحور بسبب الاغتراب، فأجواء طمأنينة وروحانية وانشراح للصدور بذكر الله في طرفي النهار ووسطه تجتاح قلوب المسلمين في شهر رمضان، مما يميزه بطابع خاص ونكهة مميزة ينتشر أريجها مع نسمات الصيف فترطبها ببلسم الإيمان.
مع استمرار إغلاق معبر رفح البري لفترات طويلة، وفتحه استثنائيًا بين الحين والآخر لفترات محدودة جدًا، تزداد معاناة الكثير من الأسر الفلسطينية
غير أن هذه الأجواء يفتقدها بعض المسلمين في بلاد الغربة الأجنبية والأوروبية فيتوقون شوقًا للعودة للأهل والوطن للحظي بتلك الأجواء الإيمانية في شهر الخير، وأحيانًا يجتهدون في توفيرها للتخفيف من قساوة الألم على قلوبهم المشتاقة ليوم رمضاني في حضن الأهل والوطن بغزة.
ومع استمرار إغلاق معبر رفح البري لفترات طويلة، وفتحه استثنائيًا بين الحين والآخر لفترات محدودة جدًا، تزداد معاناة الكثير من الأسر الفلسطينية، والتي بات يهددها شبح التشتت والانفصال في كل وقت.
أحلام تقف أمام البوابة السوداء
ورغم محاولات المغتربين الحثيثة للتمتع بأجواء رمضانية مشابهة لتلك التي يحيوها في أوطانهم حيث الإكثار من العبادات والطاعات والتواصل فيما بينهم إلا أنها لا تعوضهم عن أجوائهم في بيوتهم حيث اجتماع الأبناء والبنات بزوجاتهم وأزواجهم وأبنائهم على مائدة إفطار الأب تزين ملامحهم علامات البهجة.
ففي العاصمة الفرنسية باريس، يحاول الطالب في قسم الهندسة إبراهيم الشاعر “25 عامًا”، جاهدًا قبل أذان المغرب بساعة أن يعمل الأكلة التي يحبها منذ صغره وهي “المقلوبة”، فتارة يذهب إلى الإنترنت لمعرفة المكونات، وتارة أخرى يتصل بوالدته في غزة للمساعدة في وضع اللمسات الأخيرة عليها.
ويقول الشاعر لـ”نون بوست”: “رمضان بعيدًا عن جو العائلة لا طعم ولا رائحة ولا لون له، ولكنني أحاول التأقلم على الوضع القائم الآن، وأعمل كل الأكلات التي كنت أحب أن تصنعها والدتي خلال الشهر الفضيل”.
يستذكر الشاعر الأجواء الرمضانية التي تخيم على عائلته منذ اللحظات الأولى لهبوب نسمات الشهر الفضيل، وجمال جلسات السمر التي كانت تجمعه بأصدقائه حتى طلوع الفجر، وكذلك مشهد لهو الأطفال بألعاب رمضان بين الأزقة
ويضيف: “يفترض أن تفتح السلطات المصرية على الأقل معبر رفح طول شهر رمضان المبارك، والسماح للفلسطيني بالدخول ومغادرة غزة، فكم من عائلة تشتت وكما من عائلة تنتظر الأب والابن والأم وتقف البوابة السوداء حاجزًا أمام لم شمل العائلات الفلسطينية”.
ويستذكر الشاعر الأجواء الرمضانية التي تخيم على عائلته منذ اللحظات الأولى لهبوب نسمات الشهر الفضيل، وجمال جلسات السمر التي كانت تجمعه بأصدقائه حتى طلوع الفجر، وكذلك مشهد لهو الأطفال بألعاب رمضان بين الأزقة، مبينًا أن مقدار الترابط الأسري بين أفراد عائلته كان يزداد بشكل كبير طول أيام الصيام.
ويقول الشاعر ولا تزال ذكريات رمضان غزة ترافقه في غربته: “محرومون من أجواء رمضان الجميلة برفقة العائلة في غزة، ونعيش في الغربة بكل قسوتها، لكن في النهاية سنعود ونكسر هذه البوابة السوداء التي تقف أمام لم شمل عائلتنا”.
يذكر أن “إسرائيل” تفرض حصارًا على قطاع غزة، منذ فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، ثم شددته في منتصف عام 2007، وكان القطاع يتمتع في السابق بسبعة معابر تخضع ستة منها لسيطرة “إسرائيل”، في حين يخضع المعبر السابع (رفح البري) للسيطرة المصرية.
إغلاق معبر رفح بصورة دائمة وتفتحه فقط للحالات الإنسانية، الأمر الذي فاقم الأوضاع في قطاع غزة وتجاوز عدد العالقين الراغبين بالسفر أكثر من 50 ألف مواطن
لكن “إسرائيل” أقدمت بعد سيطرة حركة حماس على القطاع في صيف عام 2007، على إغلاق 4 معابر والإبقاء على معبرين فقط هما معبر كرم أبو سالم، كمنفذ تجاري، ومعبر بيت حانون (إيريز) كمنفذ للأفراد، فيما تواصل السلطات المصرية إغلاق معبر رفح بصورة دائمة وتفتحه فقط للحالات الإنسانية، الأمر الذي فاقم الأوضاع في قطاع غزة وتجاوز عدد العالقين الراغبين بالسفر أكثر من 50 ألف مواطن.