شهدت منطقة الشرق الأوسط منذ النصف الثاني من القرن العشرين، بروز العديد من الفواعل العنيفة من غير الدول، والحديث هنا عن الجماعات المسلحة بمختلف تلوّناتها القومية والمذهبية والعرقية.
جاء بروز هذه الفواعل بسبب تراكم عملية الفشل الذي نتج عن السياسات الأمريكية في المنطقة، وهذا الواقع أجبر الإدارات الأمريكية المتعاقبة على التعامل مع هذه الفواعل ضمن مسارات وسياقات متعددة، بحيث لم تكن هناك سياسة موحّدة حيالها، وذلك نابع من التغيرات الكبيرة التي تحيط ببيئة عمل هذه الفواعل، والتحولات المستمرة في السياسات الأمريكية بالمنطقة.
ممّا لا شك فيه أن بروز هذه الفواعل لم يكن ناتجًا عن فشل السياسات الأمريكية في حلّ قضايا المنطقة فحسب، بل إن تفكُّك الدولة الوطنية في المنطقة، وتحديدًا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ساهم بطريقة أو أخرى في عسكرة المجتمعات في المنطقة.
تبنّت هذه الفواعل قضايا مصيرية كتلك التي تقع على عاتق الدولة، بل بدأت تطرح نفسها في سياق معادلات إقليمية أدّت بطريقة أو أخرى إلى إعادة تشكيل التوازنات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي خلق بدوره بيئة إقليمية معقّدة من حيث طبيعة التفاعلات التي تجري بين الدول، والتي بدأت تصطدم بطريقة أو أخرى مع مصالح هذه الفواعل وأهدافها.
إن التحدي الاستراتيجي الذي تواجهه الولايات المتحدة في المنطقة اليوم، يتمثّل بصورة رئيسية في عدم قدرتها على احتواء النتائج والتداعيات الاستراتيجية التي أفرزتها أدوار هذه الفواعل، بحيث وجدت نفسها مضطرة في كثير من الأحيان إلى التعايش مع وجود هذه الفواعل، بل التفاعل معها في كثير من الأحيان، وذلك يعود إلى رغبة الإدارات الأمريكية المتعاقبة في توظيف أدوار هذه الجماعات بالشكل الذي يخدم مصالحها، ويخدم استمراريتها في المنطقة.
التعريف بالفواعل العنيفة من غير الدول
لا يحظى مفهوم الفواعل العنيفة من غير الدول باتفاق عام في إطار العلاقات الدولية، وذلك بسبب تداخل هذا المفهوم مع طبيعة أدوار هذه الفواعل، وهو اختلاف وجد تأثيره في قناعات وتصورات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فنجدها تعاملت وفق هذا الاختلاف من خلال تعاطيها مع الفواعل العنيفة في الشرق الأوسط.
إذ لا يقتصر توصيف الجماعات العنيفة في الشرق الأوسط على الجماعات أو الميليشيات المسلحة، بل هناك حركات تحرُّر وقوات عسكرية فوق وطنية وتنظيمات إرهابية، وهو اختلاف لم يربك السياسات الأمريكية حيال هذه الفواعل فحسب، بل انعكس سلبًا على حالة الاستقرار السياسي والأمني في الشرق الأوسط.
تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الجماعات العنيفة من غير الدول لا يحظى باتفاق أكاديمي حوله، وهو عادة ما يكون على تداخل مباشر مع مفاهيم أخرى من قبيل الجماعات المسلحة أو الفواعل المسلحة من غير الدول، وأيضًا المجموعات غير الشرعية وحركات التحرر، على حسب تعبير بيتر والتز.
كما تعرّف مبادرة “نداء جنيف” الفواعل العنيفة من غير الدول بأنها “جماعة منظمة ذات بنية أساسية للقيادة، تعمل خارج سيطرة الدولة، وتستخدم القوة لتحقيق أهدافها، وتمثل هذه الجهات الجماعات المتمردة ومعظم الكيانات التي لم يتم الاعتراف بها”.
يمكن القول إن الفواعل العنيفة من غير الدول هي “منظمات تشارك في أعمال عنف غير مصرح بها، ولا تمثل بشكل مباشر دولة معترفًا بها، وهي منظمات تتمتع بدرجة معينة من الشهرة (عالميًّا أو إقليميًّا أو داخل دولة معينة)، لكنها تشارك أيضًا في عمليات تعتبر بشكل موضوعي غير مشروعة (عنيفة أو إجرامية أو غير مرغوب فيها)”.
واستنادًا إلى هذه السمات العامة، فإن المفهوم يشمل حركات التحرر، وحركات التمرد ذات الدوافع المختلفة، والمنظمات الإرهابية، وجماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، والحركات الوطنية، والميليشيات، وعصابات الاتجار بالمخدرات.
ورغم انتشارها المتزايد الذي لا لبس فيه، فإن دورها في تشكيل النظام السياسي لم يحظَ باهتمام كافٍ، وكثيرًا ما تنبع هذه الهفوة التحليلية من هيمنة “النهج المتمركز حول الدولة”، حيث تشكّل الدولة الفاعل الأساسي والحصري في النظام السياسي.
ويتجلى هذا التحيز في الأدبيات المتعلقة بالتحالفات، بدءًا من التعريف الكلاسيكي: “علاقة رسمية أو غير رسمية للتعاون الأمني بين دولتَين أو أكثر ذات سيادة، ويفترض مستوى معيّنًا من الالتزام وتبادل المنافع لكلا الطرفَين”، وحتى في الدراسات الحديثة حول التحالفات، نادرًا ما يتم ذكر الفواعل العنيفة من غير الدول، أو يُنظر إليها على أنها تلعب دورًا ثانويًّا.
ومع ذلك، في النظام الدولي، وفي الشرق الأوسط على وجه الخصوص، لا يمكن للمرء أن يفهم بشكل كامل الديناميكيات والأحداث الرئيسية دون مراعاة الفواعل العنيفة من غير الدول، وتفاعلها مع الجهات الفاعلة الحكومية، حيث إن النظرة الأكثر دقة للمنطقة، والتي تعترف بالوجود والتفاعل المتزامن بين هذه الأنواع من الجهات الفاعلة، تمكّن من إجراء تقييم أكثر دقة لطبيعة التفاعلات الأمريكية مع هذه الفواعل بصورة مستمرة.
خارطة الفواعل العنيفة من غير الدول في الشرق الأوسط
تنتشر الفواعل العنيفة من غير الدول في مجمل ساحات الصراع بالشرق الأوسط، فهناك مجموعة متنوعة من الفواعل التي تعمل في ظلال الحركات الجماهيرية القومية والإسلامية الأكبر حجمًا، فهي تعمل بشكل مستقل أحيانًا، كالقاعدة و”داعش”، وتعمل كشركاء شبه عسكريين استراتيجيين في أحيان أخرى، مثل جماعات “محور المقاومة” الذي تقوده إيران في الشرق الأوسط.
الثابت المهم في خارطة انتشار الفواعل العنيفة في الشرق الأوسط، أنها تشترك بوحدة العداء للولايات المتحدة، إلى جانب العداوات البينية، وذلك نابع من طبيعة التداخل في القضايا التي تجد نفسها منخرطة بها، كما هو الحال في الساحة السورية التي تمثل بدورها التمظهر الأكثر بروزًا لنشاط الفواعل العنيفة من غير الدول، وليس هذا فحسب، بل شهدت هذه الساحة تدخلًا واسع النطاق للعديد من الدول الإقليمية والدولية، البعض منها داعم لهذه الفواعل، والبعض الآخر في حالة مواجهة معها.
وفيما يأتي نظرة مركّزة لأبرز الفواعل العنيفة من غير الدول في الشرق الأوسط:
الفصائل المسلحة العراقية: شهدت الساحة العراقية بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، بروز العديد من الفصائل المسلحة الموالية لإيران، والتي يترواح عديدها اليوم حول 64 ميليشيا مسلحة، لم يقتصر دورها على الساحة العراقية، بل مارست أدوارًا عسكرية في الساحة السورية، عبر تقديم الدعم العسكري لقوات النظام السوري، وتحديدًا منذ عام 2012.
وأبرز هذه الجماعات هي كتائب “حزب الله” العراقية بقيادة أبو حسين المحمداوي، حركة النجباء بقيادة أكرم الكعبي، عصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي، كتائب سيد الشهداء بقيادة أبو آلاء الولائي، كتائب الإمام علي بقيادة شبل الزيدي، منظمة بدر بقيادة هادي العامري، وجماعات فرعية أخرى مرتبطة بها.
“حزب الله” اللبناني: أو كما يعرَف محليًّا بـ”المقاومة الإسلامية في لبنان”، هو كيان سياسي شيعي مسلح، تأسّس عام 1982 على يد رجال دين وسط الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 15 عامًا، وقد اكتسب وجوده بمناهضة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وبتصديه للقوات الإسرائيلية بعد اجتياح بيروت عام 1982.
وعزز الحزب مكانته السياسية والعسكرية بإجباره للجيش الإسرائيلي على الانسحاب من الجنوب اللبناني عام 2000، إلى جانب مشاركته في الحرب السورية منذ عام 2012، ويعدّ الحزب من أبرز الجماعات الحليفة لإيران في الشرق الأوسط، وزعيم الحزب حاليًّا حسن نصر الله.
حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين: هي منظمة إسلامية سنّية فلسطينية تتخذ من الإسلام منهج حياة وجهاد، تأسّست عام 1981 وذراعها العسكرية هي سرايا القدس، وتنشط في قطاع غزة، ومعاقلها الرئيسية في الضفة الغربية في مدينتَي الخليل وجنين، وتعدّ الحركة ثاني أكبر فصيل مسلح بالساحة الفلسطينية بعد حركة حماس، ويقود الحركة حاليًّا زياد النخالة.
حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في فلسطين: حركة إسلامية سنّية فلسطينية مقاومة للاحتلال الاسرائيلي، تأسّست عام 1987، وذراعها العسكرية هي كتائب عز الدين القسام التي تأسّست عام 1992، ترتبط فكريًّا بجماعة الإخوان المسلمين، لكنها أعلنت فكّ ارتباطها التنظيمي بالجماعة عام 2017، وتحولت إلى تنظيم فلسطيني مستقل، وهي أكبر الفصائل الفلسطينية المسلحة.
تحصر الحركة مقاومتها ضد الاحتلال الإسرائيلي فقط، وتعتمد من الكفاح المسلح منهجًا لتحرير فلسطين، وقد أصبحت الفصيل الفلسطيني الرئيسي بالمواجهة مع “إسرائيل”، بعد أن وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية “فتح” اتفاق أوسلو للسلام مع “إسرائيل” عام 1993، ويقود الحركة حاليًّا إسماعيل هنية.
حركة طالبان الأفغانية: حركة إسلامية سنّية ديوبندية مسلحة، تكونت من طلبة المدارس الدينية في باكستان بقيادة الملا محمد عمر خلال فترة التسعينيات، وتحكم حاليًّا أفغانستان تحت مسمّى إمارة أفغانستان الإسلامية، بعد انسحاب القوات الأمريكية الغازية وهزيمة واستسلام الجيش الأفغاني.
تأسّست عام 1994، وهي إحدى الفصائل البارزة في الحرب الأفغانية التي تلت الغزو الأمريكي، ومعظم منتسبيها هم من الطلبة من مناطق البشتون في شرق وجنوب أفغانستان الذين تلقّوا تعليمهم في مدارس إسلامية تقليدية، وقاتلوا خلال فترة الحرب السوفيتية الأفغانية، يقود الحركة حاليًّا هيبة الله أخوند زاده.
الحوثيون في اليمن: حركة إسلامية سياسية شيعية زيدية مسلحة متحالفة مع إيران ضمن الصراع الإيراني السعودي بالوكالة، ظهرت من محافظة صعدة شمال اليمن في التسعينيات، وتتخذ منها مركزًا رئيسيًّا لها، عُرفت إعلاميًّا وسياسيًّا باسم الحوثيين نسبة إلى مؤسّسها بدر الدين الحوثي، الزعيم الديني للحركة، تأسست الحركة عام 1992، عُرف عن انتماء قادة الحركة وأعضائها إلى المذهب الزيدي، وقائد الحركة حاليًّا هو عبد الملك الحوثي ابن مؤسس الحركة بدر الدين الحوثي.
تنظيم القاعدة: هو تنظيم جهادي متعدد الجنسيات، تأسّس خلال فترة الجهاد الأفغاني في الفترة بين أغسطس/ آب 1988 وديسمبر/ كانون الأول 1990، يدعو التنظيم إلى الجهاد الدولي، يرتكز حاليًّا وبكثافة في اليمن وأفغانستان وسوريا والصومال.
هاجمت القاعدة أهدافًا عسكرية ومدنية في مختلف الدول، خاصة التي تستهدف مصالح الولايات المتحدة، أبرزها هجمات الحادي عشر من سبتمبر، تبع هذه الهجمات قيام الحكومة الأمريكية بشنّ الحرب عليها، وإنهاء حكمها في أفغانستان، يقود القاعدة الآن محمد صلاح الدين زيدان أو المعروف باسمه الحركي “سيف العدل”، وهو مصري الجنسية.
تنظيم “داعش”: أو الدولة الإسلامية في العراق والشام، يتبع التنظيم فكر وعقيدة جماعات سلفية جهادية، كانت ذروة صعوده بعد أن سيطر على مدينة الموصل عام 2014، وأعلن خلافته التي امتدت على طول الحدود العراقية السورية، إلى جانب وجوده المحدود في دول أخرى/ مثل جنوب اليمن وليبيا وسيناء وأزواد والصومال وشمال شرق نيجيريا وباكستان وموزمبيق والنيجر.
شكّلت الولايات المتحدة بالتعاون مع العراق ودول أخرى تحالفًا دوليًّا لمكافحته، ونجحت في إنهاء سيطرته على مجمل المدن والبلدات التي كانت تحت سلطته في العراق وسوريا، وينتشر عناصر التنظيم حاليًّا في مناطق الجزيرة والبادية على شكل مجموعات صغيرة، دون أن يكون لها تأثير عسكري أو أمني يذكر، ويقود التنظيم حاليًّا أبو حفص الهاشمي القرشي.
جماعة فاطميون الأفغانية: ميليشيا أفغانية شيعية أسّسها علي رضا توسلي عام 2014، للقتال في سوريا إلى جانب قوات النظام السوري، يتم تمويلها وتدريبها من قبل الحرس الثوري الإيراني.
جماعة زينبيون الباكستانية: لواء مكوّن من الشيعة الباكستانيين، يجذب مجنّديه من الشيعة الباكستانيين الذين يعيشون في إيران، والشيعة الهزارة الذين يعيشون في باكستان، وشيعة باراتشينار وخيبر بختونخوا، تم تشيكله وتدريبه من قبل الحرس الثوري الإيراني ويعمل تحت إمرته، ويقاتل إلى جانب قوات النظام السوري، وبعد أن كُلّف في البداية بالدفاع عن مسجد السيدة زينب، دخل الخطوط الأمامية في كل ساحات الصراع السورية.
قوات سوريا الديمقراطية: ويشار إليها اختصارًا بـ”قسد”، وهي تحالف متعدد الأعراق والأديان للميليشيات التي يغلب عليها الطابع الكردي، وكذلك للميليشيات العربية والآشورية/السريانية، وكذلك لبعض الجماعات التركمانية والأرمنية والشركسية والشيشانية في الحرب السورية.
وتتألف قوات سوريا الديمقراطية في معظمها من وحدات حماية الشعب، وهي من الميليشيات الكردية في معظمها وتقودها عسكريًّا، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية أن مهمتها هي النضال من أجل إنشاء سوريا علمانية ديمقراطية وفدرالية، على غرار “ثورة روجافا” في شمال سوريا، وينص دستور الفدرالية الديمقراطية لشمال سوريا الذي تمّ تحديثه في ديسمبر/ كانون الأول 2016 على تسمية قوات سوريا الديمقراطية قوة دفاعها الرسمية.
فصائل المعارضة السورية: يندرج تحتها مجمل فصائل المعارضة السورية ضد نظام بشار الأسد، وأبرزها الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام، وتمثل هذه الفصائل هيكل المعارضة السورية المسلحة، المكوّنة أساسًا من مجموعة من الضباط السوريين الذين انشقوا عن جيش النظام السوري، تنتشر هذه الفصائل في العديد من المدن في سوريا، ويتركز وجودها الرئيسي حاليًّا في شمال غرب سوريا، ويتمثل الهدف الرئيسي لهذه الفصائل في إسقاط نظام بشار الأسد وتشكيل سوريا جديدة.
المقاربات الأمريكية حيال الفواعل العنيفة من غير الدول
أنتجت التفاعلات الأمريكية مع الفواعل العنيفة من غير الدول العديد من المقاربات الاستراتيجية، التي شكّلت التوجه الأمريكي العامّ في الشرق الأوسط، وذلك على النحو الآتي:
المقاربة الأولى “احتوائية”: وكان الوجه الأبرز لهذه المقاربة هي التوجهات الأمريكية حيال “حزب الله” اللبناني والفصائل المسلحة العراقية والحوثيين في اليمن، وذلك عبر السعي المستمر لاحتواء تهديداتهم العسكرية على المصالح الأمريكية أو مصالح الحلفاء، من خلال سلسلة من العقوبات الاقتصادية التي تستهدف مصادر قوة وتمويل هذه الفواعل.
المقاربة الثانية “عسكرية”: وهو ما مثّله التوجه الأمريكي حيال التعامل مع تأثيرات تنظيم القاعدة ومن ثم تنظيم “داعش”، إذ سخّرت الولايات المتحدة كل جهودها السياسية والعسكرية في تشكيل تحالفات دولية لإنهاء وجود هذين التنظيمَين، واجتثاث مصادر التهديد الذي يمثلانه في الشرق الأوسط، كما أن بعض الميليشيات التابعة لإيران المتواجدة في سوريا، وتحديدًا ميليشيات فاطميون وزينبيون، وبعض الفصائل العراقية، تندرج ضمن هذه المقاربة، عبر إطلاق يد “إسرائيل” في إنهاء تهديدات هذه الميليشيات في الجنوب السوري.
المقاربة الثالثة “توظيفية”: وذلك يتضح من التوظيف الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، إذ وفّر الدعم الأمريكي لـ”قسد” إنجاز العديد من المهام الأمريكية في شمال شرق سوريا، سواء عبر استنزاف القوات التركية، أو تأمين مصادر الطاقة في شرق سوريا، فضلًا عن تأدية مهام أمريكية في مواجهة تنظيم “داعش” وفصائل المعارضة السورية، إذ تحظى هذه القوات بدعم أمريكي كامل.
المقاربة الرابعة “إجهاضية”: وهو توجُّه أمريكي واضح حيال التعامل مع حركتَي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، سواء عبر تجفيف مصادر الدعم والتمويل، أو توفير مظلة دولية لـ”إسرائيل” لتتمكن من التعامل الأحادي مع تواجد هاتين الحركتَين في قطاع غزة، والهدف من ذلك كله توفير بيئة أمنية تتمكن من خلالها “إسرائيل” من إنهاء أي تهديدات أمنية تواجهها، ومن ثم إنهاء أي وجود للقضية الفلسطينية مستقبلًا.
المقاربة الخامسة “استنزافية”: وهو توجُّه أمريكي حيال فصائل المعارضة السورية، إذ نجحت الولايات المتحدة في تحييد العديد من الأطراف الإقليمية الداعمة للفصائل، وتحديدًا على المستوى السياسي والعسكري والإعلامي، بحيث نتج عن هذا التوجه خسارة الفصائل لمساحات شاسعة من الأراضي التي كانت تسيطر عليها في الداخل السوري لصالح نظام الأسد وحلفائه.
المقاربة السادسة “سياسية”: نموذج هذه المقاربة هو التعامل الأمريكي مع حركة طالبان الأفغانية، إذ أدّى الفشل الأمريكي في التعامل مع حركة طالبان منذ أن احتلت الولايات المتحدة أفغانستان عام 2001، إلى جانب فشل النظام الجديد في تثبيت نفسه، وقناعة الولايات المتحدة بضرورة فتح قنوات الحوار السياسي معها، وذلك عبر عدة جولات من المحادثات التي جرت في العاصمة القطرية الدوحة، والتي تمخّضت عن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وتسليم الحكم للحركة.
إجمالًا، شكّلت هذه المقاربات مجمل التوجُّه الأمريكي حيال الفواعل العنيفة من غير الدول في الشرق الأوسط، وهي مقاربات عكست بطريقة أو أخرى التخبُّط والارتباك الأمريكيَّين في التعامل معها، فرغم أن جميعها يعارض الوجود الأمريكي في المنطقة، إلّا أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة أنتجت مقاربات مختلفة في التعامل معها، وذلك انطلاقًا من قاعدة موازنة التهديد بين جماعة وأخرى، ومدى ارتباط ذلك بالمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
النهج الأمريكي المحتمل للتعامل مع واقع الفاعلين من غير الدول
إن التساؤل المهم الذي يطرَح هنا هو عن طبيعة النهج الأمريكي المحتمل للتعامل مع الفواعل من غير الدول في الشرق الأوسط، إذ إنه مع تحول الاهتمامات الأمريكية نحو الشرق، والحديث هنا عن استراتيجية الاحتواء الأمريكية حيال الصين، فضلًا عن الانغماس الأمريكي بالحرب الأوكرانية، تشير هذه الاهتمامات إلى إمكانية الرغبة الأمريكية بتصفير وضع الفواعل من غير الدول، وذلك من أجل الاهتمام بملفات دولية بعيدة عن الشرق الأوسط.
إن التعاطي الأمريكي السابق مع هذه الفواعل، يشير بما لا يقبل الشك إلى أن نهجها لن يخرج عن المسارات الآتية، وهي:
المسار الأول: تسليمها السلطة كما حصل مع حركة طالبان في أفغانستان.
المسار الثاني: إدماجها ضمن منظومة الدولة كما حصل مع الفصائل المسلحة العراقية و”حزب الله” اللبناني.
المسار الثلاث: تصفير وجودها أو محاولة ذلك، كما حدث مع تنظيمَي القاعدة و”داعش”، أو كما يحدث اليوم مع حركة حماس والجهاد الإسلامي.
المسار الرابع: الإبقاء عليها كقوات وكيلة تخدم أهدافها في مناطق الصراع، كما يحدث مع قوات سوريا الديمقراطية.
ممّا لا شك فيه أن أي توجُّه قد تلجأ إليه الولايات المتحدة سينعكس بطريقة أو أخرى على استراتيجيتها في المنطقة، وهو واقع تدرك الإدارة الأمريكية طبيعة المخاطر التي تقف خلفه، كون أي توجُّه لن يقتصر بتأثيراته على الولايات المتحدة، إنما مصالح الحلفاء أيضًا، والحديث هنا عن دول الخليج العربية و”إسرائيل”، التي تواجه تحديات كبيرة من وجود بعض هذه الفواعل.
إن الرغبة الأمريكية بتصفير وضع الفواعل من غير الدول لا يمكن أن تجد طريقًا سهلًا للتطبيق، وذلك كون العديد من هذه الفواعل تحظى بعلاقات وثيقة مع بعض الفواعل الإقليمية والدولية، والحديث هنا عن روسيا وإيران وتركيا.
فضلًا عن ذلك، قد تجد الصين في هذه الرغبة الأمريكية توجُّهًا لإيجاد بيئة ملائمة لتطبيق المشاريع الأمريكية في المنطقة، والتي هي بالضدّ من “مبادرة الحزام والطريق” التي تمرّ بالشرق الأوسط، وهذا لا يعني أن وجود الفواعل من غير الدول في المنطقة يمثّل مصلحة صينية، بقدر ما يمثل محاولة لتصفير الوجود الصيني في المنطقة مستقبلًا، خصوصًا مع العلاقات الجيدة التي تربط الصين مع كل من إيران وروسيا.
وفي هذا الإطار أيضًا، من الأهمية بمكان هنا أن نلاحظ الاختلافات بين التحالفات الاستراتيجية والتكتيكية، وتتميز التحالفات الاستراتيجية بمستويات عالية من التعاون، وعادة ما تقوم على القيم والأيديولوجيا المشتركة، كما هو الحال مع إيران و”حزب الله” اللبناني، ومن ثم هذه التحالفات عادة ما تكون أكثر استدامة، ويحدث التعاون التكتيكي عندما تسعى الأطراف إلى تحقيق عدد من المصالح المشتركة قصيرة المدى، ولا تعتمد بالضرورة على الانتماءات الدينية أو الطائفية أو حتى الأيديولوجية.
وفي عصر يتسم بعدم الاستقرار وارتفاع مستويات العنف والصعوبات الاقتصادية، يبدو أن التحالفات التكتيكية أصبحت أكثر انتشارًا في صراعات الشرق الأوسط الحالية، حيث تهدف الأطراف إلى الحصول على السلطة أو النفوذ أو الإيرادات الاقتصادية، وهذا ما ينبغي على الولايات المتحدة الانتباه إليه، قبل المضيّ بعملية تفكيك أو إنهاء الفواعل من غير الدول في الشرق الأوسط.
تدرك الولايات المتحدة أن الدول القومية لم تعد النموذج الوحيد لتنظيم العلاقات الدولية، سواء في الشرق الأوسط أو في بقية العالم. في الواقع، بعد عقد من الاضطرابات، أصبحت الدول في الشرق الأوسط أضعف وأكثر هشاشة، ومن هنا ظهر فراغ السلطة، وتم استغلال هذا الفراغ إما من قبل الفواعل من غير الدول كالجماعات الحليفة لإيران، أو من قبل الدول التي ترغب في توسيع نفوذها كإيران وتركيا، أو تخشى أن يفعل منافسوها ذلك كالصين وروسيا، وهو واقع معقّد ستجد الولايات المتحدة نفسها فيه مستقبلًا.