ترجمة وتحرير نون بوست
كتبت لي حنان، وهي مهندسة معمارية سورية-فلسطينية مقيمة في برلين «تبقى معي في البيت كل الأخبار والأفكار والذكريا وتنتقل معي أينما ذهبت، حيث باتت جزء من حياتي اليومية”. لكن منزلها – في مخيم اليرموك الفلسطيني في دمشق، سوريا – لم يبق على حاله، على الرغم من أنها لم تصدق ذلك حتى تلقت سلسلة من الصور ومقاطع الفيديو للدمار الذي لحق به من قبل صديق قديم. وتابعت: “كان عليّ أن أرى الصور مرة ومرتين وأكرر مشاهدتُها لأفهم أن هذا هو المكان الذي كنت أعيش فيه، وأن تحت الأنقاض يوجد المكان الذي ما زلت، حتى هذه اللحظة، أسميه بيتي”.
وفي منفاي رأيتُ كيف نزح ملايين السوريين من ديارهم، بما في ذلك بعض أصدقائي وأقاربي وزملائي ومعارفي؛ حيث غادرُت مدينتي حمص بتاريخ 17 تشرين الثاني/ نوفمبر ولم أتمكن من العودة إليها. في هذه المرحلة، هجر أكثر من 13 مليون شخص قسرا بسبب الحرب، وبينما تحول وسائل الإعلام في كثير من الأحيان هؤلاء اللاجئين إلى أرقام مجهولة الهوية ويستخدم السياسيون نضالاتهم كسلاح لتناسب أجنداتهم الخاصة، إلا أنني لا أجد شيئًا أقوى من هذه القصص الشخصية. وهي الطريقة التي يحاول بها كل منا فهم السؤال الملح الذي يتعلق بما معنى الوطن عندما لا يعود بإمكانك العودة إليه؟
وتابعت حنان: “لقد اختفى كل شيء في الصور التي رأيتها لاحقًا، والتهمت النيران الغرف المشرقة”، مضيفة أنه كان من الواضح أن منزلها قد تعرض للسرقة قبل إضرام النار فيه، حيث أوضحت “الأشياء الوحيدة التي تعرفت عليها هي بقايا الثلاجة ومقعد طاولة الطعام”.
حاولت فهم تأثير هذه الخسارة في كتابي “قتل الوطن: العمارة والحرب وتدمير الوطن في سوريا”، فلقد بحثت في تأثير الحرب على المجتمعات، وأجريت مقابلات مع أشخاص مثل حنان لتجميع تاريخ مختلف لحروبنا، تاريخ رواه الناجون الذين فقدوا منازلهم، واكتشفت جوانب من هم أو اعتادوا أن يكونوا. وأثار هذا البحث أسئلة حول الانتماء الوطني: من نحن عندما دمرت منازلنا ماديا ومعنويا؟ بالاعتماد على فكرة قتل المنزل – أي تدمير المنزل – نظرت إلى الناجين، ولكن أيضًا إلى الفنانين ومصممي الأزياء والروائيين الذين شخصوا هذه الأفكار في أعمالهم الخاصة لفهم هذا السؤال الملح: ما هو الوطن؟
في مذكراتها الأولى “لا أريد أن أتحدث عن الوطن”، تروي سعاد الدارة قصتها مع الهجرة والنزوح. ولدت الدارة لأبوين سوريين في الرياض بالمملكة العربية السعودية، ثم انتقلت إلى سوريا سنة 2003 لإكمال دراستها في هندسة البرمجيات. وبعد فرارها من سوريا سنة 2012، عاشت في مصر والولايات المتحدة قبل أن تستقر أخيرًا في أيرلندا. أثناء قراءة مذكراتها؛ لم يكن هناك سوى كلمة واحدة يمكن أن أفكر فيها عبر الصفحات، وهي الشيء نفسه الذي لم ترغب في التحدث عنه: الوطن.
تعد مذكرات الدارة مليئة بالذكريات المؤلمة للأماكن والوجوه في دمشق، وجعلني قراءتها أشعر وكأنني عدت إلى سوريا، أسير في مدن مليئة بالألوان والحركة والصوت والدراما. بين السطور، يمكنك قراءة قصص غير مكتوبة عن الحزن والشوق إلى الماضي الضائع.
وكتبت سعاد في مذكراتها: “عندما أُسأل عن أكثر ما أفتقده في وطني، يعج ذهني بآلاف الذكريات من شوارع دمشق النابضة بالحياة. أتخيل ما تركته خلفي: جدتي اللطيفة، وقطتي الناعمة ذات اللونين الأبيض والأسود، وكومة كتب، ولكن أكثر ما أفتقده هو نفسي”.
الوطن مفهوم جغرافي واجتماعي مهم: فهو ليس مجرد مأوى، بل هو عبارة عن مصفوفة من العلاقات الاجتماعية ذات نطاق واسع وذات معاني رمزية
تعتبر هذه المذكرات قوية لعدة أسباب، لكن الصمت هو الذي كان يحبس الأنفاس، والذي يظهر في انهيار الكلمات، إذ من المستحيل أن نروي ما ضاع، وما تم تدميره سواء في المدن التي نتركها خلفنا أو في أنفسنا. ويفكك هذا الصمت في طبقات مختلفة من الألم. ذات مرة؛ في جلسة علاج جماعي، قالت الدارة: “مرحبًا، اسمي سعاد. أنا حامل في الشهر الثامن. أنا سورية، ولا أعتقد أنه ينبغي للسوريين أن ينجبوا أطفالاً”. كانت كل جملة من هذه الجمل مليئة بالحزن والأسى. لا يريد العديد من السوريين اليوم الإنجاب بعد الحرب والخسارة التي عاشوها، وتترك كلمات مؤلمة كهذه لدى القراء أسئلة كثيرة دون إجابة، رغم أنها غير مكتوبة على ورقة.
وتتكشف المذكرات عبر المناطق الجغرافية، ومع تغير هذه المناطق الجغرافية، وتتغير الدارة نفسها أيضًا. وهي تصف بشكل مؤثر افتقادها لذاتها السابقة التي تركتها وراءها في سوريا، حتى أنها تتخيل أن نسخة منها لا تزال تعيش هناك، وجاء في مذكراتها: “تساءلت عما إذا كان هناك نسخة مني تعيش في سوريا، ولا تزال تحب المطر؛ ترتدي الحجاب، وتتحدث العربية، وتتطوع مع المسعفين، وتقضي وقتها في تعلم العزف على البيانو بينما تخرخر قطتها في حجرها”. ربما يكون لدى كل سوري غادر البلاد نسخة بديلة تكمل الحياة التي كانوا يعيشونها قبل اندلاع الحرب، وطالما أن تلك النسخ منا لا تزال على قيد الحياة، فلن نجد السلام أبدًا.
عندما قرأتُ كلمات الدارة، وجدتُ نفسي أتساءل كيف يجد الناس السلام بعد تجربة أشكال مختلفة من الصدمات، هل يمكن إيجاد السلام بعد تجربة ما يشبه الإبادة الجماعية؟ كل من فر من منطقة حرب يعرف أن الوصول إلى شواطئ الأراضي الجديدة ليس نهاية نضال اللاجئين، فكيف يمكن للمرء أن يعيد بناء حياته في المنفى عندما يدمر بلده البعيد؟ تتأرجح الدارة في فصولها بخبرة بين الرغبة في تذكر سوريا والقيام بشيء للاستجابة لأزماتها من جهة، والرغبة في إنشاء وطن جديد بعيدًا عن بؤس الحرب من جهة أخرى. في مرحلة ما، لقد تمكنت من تحديد خيار.
وكتبت: “لقد ألغيتُ متابعة الصفحات التي كانت تحمل أخبارًا عن الكوارث في كل منطقة من مناطق بلدي، واستبدلتها بالمزيد من الصفحات الأيرلندية التي تقدم الحياة بدلاً من الموت”، واصفة الطريقة المألوفة التي يعيش بها الكثير منا الحرب من بعيد عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وتصف كيف ذهبت في نزهة مع زوجها حسام، وشعرت أخيرًا بالسلام، وانغمست في المناظر الطبيعية الأيرلندية.
ولكن عندما ماتت جدتها، اضطرت إلى اتخاذ قرار بشأن ما إذا كانت ستعود أم لا، وتكتب: “بموتها قتل السبب الأخير الذي يدفعني للعودة، ولا أعتقد أن سوريا التي عرفتها وأحببتها موجودة بعد الآن. لقد أصبحت ذكرى، ومكانًا في عالم موازٍ لا أستطيع الوصول إليه إلا بآلة الزمن”.
وفي كتابهما “الوطن”، تشير أليسون بلانت وروبن داولينج إلى أن الوطن مفهوم جغرافي واجتماعي مهم: فهو ليس مجرد مأوى، بل هو عبارة عن مصفوفة من العلاقات الاجتماعية ذات نطاق واسع وذات معاني رمزية وأيديولوجية، ويتجسد الوطن في الجسد أو البيت أو المدينة أو الأمة.
بالنسبة للكثيرين، يبدو مفهوم الوطن مألوفًا؛ حيث قالت لي الكاتبة رنا حداد، مضيفة تحليل بلانت وداولينج إلى تحليلها الخاص: “نشأتُ في مدينة متوسطية متماسكة مثل اللاذقية في السبعينيات والثمانينيات، وكان الوطن بالنسبة لي يتجسد في المدينة بأكملها، وليس فقط المنزل الذي نعيش فيه”، وتابعت: “عندما كنت طفلة ثم مراهقة، كان الوطن يتلخص في كيان الدولة بأكملها أيضًا. ثم لقد كان امرأة أو بالأحرى أمًا”.
وأضافت، وهي تتحدث عما تشعر به عندما لا تتمكن من العودة إلى المكان الذي يعتبره المرء موطنًا له “إن خسارة سوريا – ولا سيما اللاذقية – كان بمثابة فقدان الأم. لا يمكن أن يكون لديك سوى أم واحدة، وعندما تعاني من سوء حظ فقدانها، قد تصبح يتيمًا، مقتلعًا من جذورك مثل نبات يعيش في نظام بيئي خاطئ؛ مثل شجرة زيتون تحاول البقاء على قيد الحياة في ظروف مناخ القطب الشمالي، أو شجرة مشمش تأمل أن تؤتي ثمارها في طقس متجمد”.
يبين لنا التاريخ أن انتظار النازحين لليوم الذي يعودون فيه إلى بلادهم، يمكن أن يعني سنوات أو عقودًا أو ربما حياة بلا عودة
وتستكشف حداد هذا الشوق – والحزن الذي يحيط به – في روايتها الأولى “أشياء الحب غير المتوقعة في دنيا نور”، والتي تدور أحداثها في سوريا من السبعينيات إلى التسعينيات؛ لا تعتبر اللاذقية مدينة بقدر ما هي شخصية نابضة بالحياة ومليئة بالجمال والسحر والنعم.
وعندما تزورها بطلة الرواية، دنيا، بعد أن كانت بعيدة في لندن، تغمر الصفحات موجة من الذكريات وهي تتذكر ما فاتها في مدينتها، من الشوارع والناس إلى اللغة والحياة اليومية والهندسة المعمارية وحالات الوجود والرؤية المختلفة. وكتبت: “لقد نسيت دنيا أيضًا الهواء. هواء اللاذقية. وعندما تنفست، انهمرت الدموع على خديها. اللاذقية بكل عيوبها ونقصها لم تكن مدينة عادية بالنسبة لها، كانت أشبه بالأم أو الأب أو الجدة الحبيبة، لقد كانت شجرتها وغصنها”.
وعلى الرغم من عودة الشخصية الخيالية دنيا إلى اللاذقية؛ إلا أن رنا لم تفعل ذلك منذ أكثر من عقد من الزمن، وعندما التقيتها في أثينا هذه السنة، أخبرتني أنها لم تعد إلى سوريا منذ سنة 2010.
بالنسبة للكثيرين؛ فإن العودة إلى المدن – وحتى إلى أنقاض هذه المدن، وحتى إلى القرى المحروقة والشوارع المهجورة – لا تزال مستحيلة، وربما يكون هذا أحد أعظم الآلام التي يتحملها النازحون قسرًا: عدم القدرة على العودة إلى ديارهم، وعدم القدرة على زيارة ذواتهم السابقة وحياتهم السابقة، والأشخاص الذين تركوا وراءهم، والشوارع والأحياء المألوفة. وكثير من الناس يصفون الدمار المادي؛ لكن البعض يذهب إلى أبعد من ذلك ويقول إن المدينة التي كانوا يعرفونها لم تعد موجودة، ليس فقط بسبب الأضرار، ولكن أيضًا لأن الأشخاص الذين كانوا يعرفونهم، الوجوه المألوفة، قد نزحوا. بغض النظر عن مدى صعوبة محاولة الناس بناء منزل جديد في المنفى، تظل هناك ذكرى المكان الذي تركوه وراءهم، ويحتفظ البعض بمفتاح منازلهم، بينما يحتفظ البعض الآخر بحراسة التربة المأخوذة من مدنهم.
وهذا الحق في العودة إلى الوطن أو عدم وجوده، وصفته ببلاغة ليز دوسيه، كبيرة المراسلين الدوليين لهيئة الإذاعة البريطانية، عندما سُئلت عن شعورها بالانتماء عندما رأت أصدقاءها يغادرون بلدانهم قسرًا؛ حيث قالت في برنامج “ديسرت أيلاند ديسكز” على راديو بي بي سي 4: “لقد توصلتُ إلى الاعتقاد بأن كلمة “الوطن” هي واحدة من أكثر الكلمات إثارة للذكريات وأقوى وأجمل الكلمات في اللغة الإنجليزية، وشعرت بها عندما عدت من أشهر في أفغانستان وعدت إلى المنزل بطريقة ما. لقد عرف الكثير من أصدقائي الأفغان الذين يعرفون أنهم ربما لن يعودوا إلى أوطانهم أبدًا. وذهبتُ إلى وطني، مدينتي الصغيرة الواقعة على خليج دي تشالور … الركن الشرقي من كندا، وقد أذهلني جمال المناظر الطبيعية ولكني كنت أشعر بالامتنان أيضًا: أستطيع العودة إلى الوطن. لا يهم إن كانت هناك انتخابات فيدرالية في كندا أم لا. ولا يهم من كان في السلطة: كان لي الحق في العودة إلى الوطن”.
ومع عدم قدرتهم على العودة إلى أوطانهم، يعيش العديد من النازحين حياة المنفى في انتظار عودتهم. ويبين لنا التاريخ أن هذا الانتظار يمكن أن يعني سنوات أو عقودًا أو ربما حياة بلا عودة، وغالبًا ما يجعل هذا الحزن يمتد عبر الأجيال. في بعض الأحيان؛ يتم تهجير الأشخاص الذين نزحوا بالفعل مرة أخرى – مثل النازحين العراقيين والفلسطينيين والأرمن الذين بنوا منزلًا جديدًا في سوريا، ليتم اقتلاعهم من جديد.
وقالت لي حنان، واصفةً قصة مألوفة حول كيف انتهى بها الأمر إلى ولادتها كلاجئة في مخيم اليرموك في سوريا: “أنا لاجئة فلسطينية من الجيل الثالث. لقد عانى أجدادي من فقدان الوطن وعاشوا مأساة النزوح واللجوء. ولقد عملوا مع والدي لسنوات لبناء منزل بعيدًا عن الوطن، وكانت فلسطين والعودة دائمًا في أذهانهم وقلوبهم.… نحن الآن ننعي فلسطين واليرموك وسوريا.… لقد ذهب كل شيء. والمكان الذي أعتبره موطنًا لم يعد هو نفسه، وحتى لو تم إعادته إلى وضعه الأصلي، فمن يستطيع استعادة الأرواح المفقودة وأولئك الذين فروا من البلاد للنجاة بحياتهم؟”
ومن بين قصص الصدمة والخسارة هذه، يبقى السؤال المتكرر حول كيفية التعامل مع الماضي الصعب والمؤلم، وكم يجب أن نتذكر وكم نتمنى أن ننسى؟
ويختار البعض ألا يتم تعريفهم من خلال تجربتهم مع العنف والدمار، ويرفضون أن يطلق عليهم اسم الناجين – إما بسبب الفخر أو الرغبة في المضي قدمًا.
وكتب مصمم الأزياء الياباني، إيسي مياكي، في رواية نادرة عن تجربته في النجاة من أول قنبلة ذرية ألقيت على هيروشيما: “لم أختر أبدًا مشاركة ذكرياتي أو أفكاري في ذلك اليوم. لقد حاولت، ولو دون جدوى، أن أضعها خلفي، مفضلًا التفكير في الأشياء التي يمكن خلقها، لا تدميرها، والتي تجلب الجمال والبهجة. لقد انجذبت نحو مجال تصميم الملابس، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنه شكل إبداعي حديث ومتفائل”.
بعد العيش في المملكة المتحدة لمدة 12 سنة دون أن أتمكن من العودة إلى سوريا، أشعر أن الوطن موجود في كل مكان وليس في أي مكان، إنه التحرر
وآخرون ممن يحاولون بناء حياة جديدة في المنفى يظلون مشغولين بذكرى الحرب، حتى لو كانوا يعيشون الآن في راحة نسبية، كما يظهر في مقطع فيديو للفنانة السورية أصالة مصطفى حاتم نصري بعنوان “عيش.. سكر.. وطن”؛ حيث تتظاهر أصالة بعدم سماع زوجها عندما يسألها إذا كانت قد شاهدت ما يحدث في سوريا، فترد بتغيير الموضوع وتطلب منه إحضار الخبز والسكر للمنزل.
ويكرر السؤال، ولكنها تغير الموضوع مرة أخرى. لكن عندما أصر، توجهت إلى غرفة معيشتها التي تحولت إلى موقع للصدمة؛ حيث عُرضت صور الخراب والنزوح على الجدران. ومن الواضح أنها حتى لو اختارت عدم الحديث عن الحرب؛ إلا أنها لا تزال تشغل بالها، وهي تغني:
“حبيبي أنا عاملة مش سمعاك عشان خايفة ليوم أتهد
ما أنا من كتر أوجاعي بخاف أوصف مشاعري لحد”
وهناك فنان آخر تعامل بقوة مع موضوعات الوطن والمنفى وهو حسين شلايان، الذي ولد في قبرص سنة 1970. وفي عرض الأزياء الذي قدمه سنة 2000 بعنوان “بعد الكلمات”؛ حيث سارت عارضات الأزياء على خشبة كانت تحتوي على أربعة كراسي وطاولة. وبدأت كل عارضة بفك غطاء الكرسي ثم ارتدائه، وقامت إحدى العارضات بإزالة منتصف الطاولة ثم ارتدت الطاولة كتنورة. تم تحويل الكراسي نفسها إلى حقائب سفر. وهكذا خلا المسرح، ووقفت العارضات والحقائب إلى جوارهن وكأنهن يستعددن للمغادرة، مذكّرة بحرب البوسنة سنة 1999، التي ذكّرته، بحسب شلايان، بتقسيم قبرص سنة 1974. بالنسبة لي، خلق العرض شعورًا بالتمسك بالمنزل بإحكام واصطحابه معك عند مغادرتك.
هناك أوقات تأتي فيها الذاكرة مثل السكين وتفتح جرحًا عميقًا لوقت ضائع أو لمدينة ضائعة، مثل المدينة التي غادرتها في سنة 2011
لقد تساءلتُ دائمًا عما إذا كان بإمكان أي شخص أن يأخذه معه إلى المنزل عندما يكون نازحًا، وكانت مشاهدة العارضات وهي تحول مشهد غرفة المعيشة العادي إلى حقائب سفر بمثابة لحظة قوية وعميقة لما يمكن أن يؤخذ وما يجب أن يترك وراءه.
وبعد العيش في المملكة المتحدة لمدة 12 سنة دون أن أتمكن من العودة إلى سوريا، أشعر أن الوطن موجود في كل مكان وليس في أي مكان، إنه التحرر. ومع ذلك؛ فإن بعض المدن تبدو أقرب إلى الوطن من غيرها. في وقت سابق من هذه السنة، كنت في أثينا؛ حيث التقيت رنا في محطة مترو الأنفاق، قبل أيام من الموعد المفترض الذي كان من المفترض أن نلتقي فيه. ولم أصدق أنها هي من بين ملايين الأشخاص في أثينا، ونظرًا لأننا التقينا مرة واحدة فقط من قبل في كامبريدج، لم أكن متأكدًا حتى من أنها هي. وصرخت: “رنا، رنا!” من المؤكد أنها استدارت ورأتني، وضحكنا وعانقنا بعضنا البعض، وسألتني عندما التقينا لاحقًا: “كيف تجد أثينا؟”. أجبتها، محاولًا أن أفهم السبب وراء شعور مدينة أجنبية موضوعيًا بأنها مألوفة جدًا: “أشعر وكأنني في بيتي، هناك شيء ما في الهواء والدفء والطعام والبحر وتنوعات التاريخ المختلفة ولطف الناس وكرم ضيافتهم”.
بعد بضعة أيام، كتبت لي: “كان هناك شعور غريب بالحنين إلى الوطن يطاردني معظم حياتي عندما كنت بالغًا بعيدًا عن سوريا، لكنني وجدت العلاج أخيرًا عندما اكتشفت جزيرة كريت أولاً ثم مدينة أثينا. وكوني على بعد ثلثي الطريق بين إنجلترا وشرق البحر الأبيض المتوسط، أشعر هناك أنني قد هبطت أخيرًا على كوكب حيث أصبح كل شيء منطقيًا أخيرًا وحيث يشعر قلبي الساذج في شرق البحر الأبيض المتوسط أنه يمكن أن ينتمي إليه.
هناك أوقات تبدو فيها الحياة وكأنها تمنحنا كل ما نريده: الفن الذي نحبه، والأشخاص الطيبون من حولنا، والشعور بالانتماء الذي كنا نبحث عنه، وأشعر بذلك في أكسفورد، حيث أقيم حاليًا. ولكن هناك أوقات تأتي فيها الذاكرة مثل السكين وتفتح جرحًا عميقًا لوقت ضائع أو لمدينة ضائعة، مثل المدينة التي غادرتها في سنة 2011، ولقد اخترتُ أن أعيش على أكمل وجه قدر استطاعتي، وفي الوقت نفسه، مثل العديد من المنفيين، أحتفظ بالحمص في ذهني وقلبي على أمل أن أتمكن من العودة إلى دياري يومًا ما.
المصدر: نيولاينز