فيما يقترب استحقاق الانتخابات المحلية في العراق في 18 ديسمبر/ كانون الأول القادم، فوجئ العراقيون بقرار المحكمة الاتحادية العليا في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، الذي أنهى عضوية رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي وأخرجه من المضمار السياسي نهائيًّا، مع عدم إمكانية ترشحه لأي انتخابات قادمة.
ويعدّ محمد الحلبوسي أول شخصية سياسية سنّية تتولى منصب رئاسة البرلمان لدورتَين متتاليتَين، كما يحظى بثقل سياسي في البرلمان رفقة حليفه “تحالف العزم” الذي يتزعّمه السياسي السنّي خميس الخنجر، إذ حصل التحالف الذي يجمعهما، “تحالف السيادة”، على ثاني أعلى الأصوات في الانتخابات التشريعية الماضية عام 2021 بعد التيار الصدري.
ومع إقالة الحلبوسي، تطرَح العديد من التساؤلات عن تكرار مسلسل استبعاد السياسيين المؤثرين السنّة من المشهد السياسي، وهو ما اتّبعته الكتل السياسية المناوئة منذ عام 2003 بحجج عديدة، ما بين الأحكام القضائية والاتهامات التي تضمّ جرائم إرهابية.
تكرار المشهد
لا يعدّ استهداف الحلبوسي بقرار قضائي الأول من نوعه بالعراق، إذ سبقته العديد من الشخصيات السياسية السنّية التي كانت مؤثرة في المشهد العراقي، ولعلّ من أبرزهم نائب الرئيس العراقي الأسبق طارق الهاشمي، ووزير المالية الأسبق رافع العيساوي، والنائب أحمد العلواني، ومحافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي، والنائب السابق الراحل عدنان الدليمي وغيرهم.
وفي تفاصيل الحكم على الحلبوسي، يقول الباحث السياسي رياض العلي في حديثه لـ”نون بوست”، إن توقيت اتخاذ المحكمة الاتحادية لقرارها بإقالة الحلبوسي يعدّ مفاجئًا، لا سيما مع قرب موعد إجراء الانتخابات المحلية المقررة الشهر المقبل، منوّهًا إلى أن القضية المتعلقة بشكوى النائب المقال ليث الدليمي قُدمت للمحكمة منذ أشهر عديدة، وتضمّنت تهمًا بالتزوير وغيره، وكان يمكن للمحكمة الاتحادية اتخاذ قرارها قبل أشهر أو بعد إجراء الانتخابات المحلية، وفق تعبيره.
على الصعيد القانوني، يقول الخبير أمير الدعمي في منشور على منصة إكس (تويتر سابقًا)، إن المحكمة الاتحادية أضافت إلى صلاحياتها الدستورية المنصوص عليها في المادة 93، صلاحية جديدة تتقاطع ومبدأ الفصل بين السلطات في المادة 47 من الدستور، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية تطبيق أحكام المادة 45 من النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية.
المحكمة الاتحادية اضافة لصلاحياتها الدستورية المنصوص عليها في المادة ٩٣ صلاحية جديدة تتقاطع ومبدأ الفصل بين السلطات في المادة ٤٧ من الدستور
مع الاخذ بنظر الاعتبار بأمكانية تطبيق احكام المادة ٤٥ من النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية
وهذا القرار معدوم اصلاً لعدم صلاحية المحكمة…
— Ameer aldaami (@AldaamiAmeer) November 19, 2023
ويتابع الدعمي: “إن هذا القرار “معدوم” أصلاً لعدم صلاحية المحكمة الاتحادية باختصاص إنهاء الصفة النيابية، كما استقر القضاء العراقي العتيد في قراراته السابقة التي تدرَّس في جامعات العالم”.
وكانت العديد من الشخصيات السياسية السنّية قد اُستبعدت من المشهد السياسي بطرق مشابهة، فنائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي اُستبعد من المشهد السياسي السنّي بعيد جلاء القوات الأميركية من العراق، وصدر بحقّه أمر إلقاء قبض في ديسمبر/ كانون الأول 2011 إثر اتهامه بالإرهاب، وهو ما أدّى به إلى الخروج من البلاد.
كما تعرض وزير المالية الأسبق رافع العيساوي لاستبعاد مشابه بعد اتهامه بجرائم الإرهاب والفساد، وهو ما حدا به إلى تقديم استقالته من منصبه وزيرًا للمالية في حكومة نوري المالكي الثانية 2010-2014 والسفر خارج البلاد.
وفي هذا السياق، يرى الباحث السياسي فراس حسن أن ما حدث مع العيساوي يعدّ أقل تأثيرًا ممّا حصل مع الهاشمي، إذ إن القضاء العراقي برّأ العيساوي عام 2020 من التهم الموجهة إليه وعاد إلى البلاد.
ويتابع حسن في حديثه لـ”نون بوست” أن العيساوي ورغم عودته إلى البلاد، إلا أن ابتعاده لأكثر من 6 سنوات عن العراق أفقده التأثير في العمل السياسي، وأنه لو بقيَ بالتأثير السياسي ذاته لما كانت عودته بهذه السهولة، بحسب قوله.
ولا يقف الأمر عند الهاشمي والعيساوي وما حصل مع الحلبوسي مؤخرًا، إذ إن النائب الأسبق عن محافظة الأنبار أحمد العلواني كان قد تعرّض للاعتقال عام 2013 بتهمة دعم الإرهاب، وحُكم عليه بالإعدام عام 2014 ولا يزال خلف القضبان.
كما تعرض النائب الراحل عدنان الدليمي لمحاولات استبعاد من المشهد السياسي في مرات عديدة، عبر استهداف عائلته ومنزله ببغداد، واعتقال نجلَيه وأفراد حمايته بتهم دعم الإرهاب أيضًا، وهو ما حدا به إلى الابتعاد عن العمل السياسي حتى وفاته عام 2017.
اجتثاث طائفي
وقد يتساءل القارئ عن سبب تكرار مسلسل استبعاد السياسيين السنّة بحجج عديدة، ويجيب عن ذلك الباحث السياسي رياض العلي بأن السبب الرئيسي لهذا الاستبعاد السياسي للسياسيين السنّة المؤثرين، يكمن في عدم رغبة جميع الكتل السياسية الأخرى، لا سيما الشيعية منها، في تبلور زعامة سنّية يمكن أن تشكّل رقمًا صعبًا في المشهد السياسي في البلاد.
ويعلق العلي على قضية نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي بالقول: “كان الهاشمي يحظى باحترام وتقدير في الوسط السياسي ومن مختلف الأطراف، كما أن تأثيره السياسي وعلاقاته كانت حاضرة في التعامل مع دول العالم، وبالتالي ارتأى رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي ضرورة استبعاده من المشهد بتوصية إيرانية”.
وقد لا يقف الأمر عند ذلك، إذ يؤكد العلي في حديثه لـ”نون بوست” أن هناك منهجية تعمل عليها الكتل السياسية الشيعية، لا سيما جناح الإطار التنسيقي والأحزاب الموالية لإيران، إذ تقوم هذه المنهجية على عدم السماح لأي سياسي سنّي مؤثر بالاستمرار في موقعه السياسي والاجتماعي لفترة طويلة، وذلك بغية عدم إتاحة الفرصة أمامه ليكون زعيمًا للمكون السنّي، أو أن يكون الواجهة السياسية للمناطق الشمالية والغربية، وهو ما حدث بحذافيره مع طارق الهاشمي ورافع العيساوي ومحمد الحلبوسي مؤخرًا.
في غضون ذلك، يقول المختص بالشأن السياسي العراقي غسان الدليمي، إن ما جرى مع العديد من الشخصيات السياسية السنّية لم يأتِ من فراغ، إذ ومنذ عام 2003 تعمل الأحزاب الموالية لإيران على الحدّ من نفوذ أي شخصية سياسية سنّية، في محاولة منها لعدم توحُّد السنّة خلف قيادة موحّدة تؤهّلها للتأثير فيما يجري من تفاهمات خلف الأبواب المغلقة، أو ما يمكن تسميته بالدولة العميقة، وفق قوله.
ويفصّل الدليمي في هذه القضية موضحًا أنه وبعد إجراء الانتخابات التشريعية عام 2021، كانت هناك محاولات من الأحزاب المناوئة لاستبعاد الحلبوسي من رئاسة مجلس النواب، وذلك عبر تفريق الكتل السياسية السنّية بين أكثر من كتلة، وهو ما حدث فعليًّا في سحب العديد من الكتل السياسية السنّية بالاتجاه المقرب من الإطار التنسيقي.
إلا أنه وبعد تمكُّن حزبَي تقدم والمشروع العربي من التوحُّد تحت يافطة “تحالف السيادة”، استطاع التحالف إيصال الحلبوسي إلى رئاسة مجلس النواب للمرة الثانية، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى استبعاد الحلبوسي من المشهد عن طريق قرارات المحكمة الاتحادية.
وعن هذه الحيثية، يعلق الدليمي بالقول: “في خضمّ الحديث عن هذه القضية لا يمكن تبرئة الحلبوسي من التهم الموجهة إليه وقضية تزوير استقالة نائب برلماني، إلا أن توقيت القرار وتبعاته وصلاحيات المحكمة الاتحادية من عدمه، والمسار التاريخي للأحداث السابقة، يعطي انطباعًا للجمهور السنّي على أنه لا مجال لوصول أي شخصية سنّية إلى مكانة زعامة المكون السنّي في العراق”.
من جانبه، يرى الخبير والباحث مؤمن الحسني أن ما جرى مع الحلبوسي سيكرَّر مع أي شخصية سنّية تتصدر المشهد لسنوات عديدة، مشيرًا إلى أن المتابع للوضع السياسي في العراق بات على قناعة أن أي شخصية سياسية سنّية مؤثرة لا يمكن لها أن تستمر لأكثر من 6 سنوات في الحد الأقصى قبل أن يتم اجتثاثها بطريقة أو أخرى، منوّهًا إلى أن ما جرى مع الحلبوسي يمكن أن يكرَّر مع التيارات السياسية الأخرى غير المتحالفة مع الإطار التنسيقي.
وفي ختام حديثه لـ”نون بوست”، يؤكد الحسني أن أي شخصية سياسية سنّية لا يمكن لها أن تستمر في صدارة المشهد، دون وجود رضى إيراني مع تنازلات كبيرة، وبغير ذلك فمصيره الطرد خارج اللعبة.
طرق عديدة انتهجتها الدولة العميقة في العراق في اجتثاث العديد من الشخصيات السياسية السنّية في السنوات التي أعقبت الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، فما بين اتهامات بالإرهاب وإقصاء أمني واعتقالات وصولًا إلى قرارات قضائية، يبقى المشترك في كل ذلك هو عدم سماح إيران وأحزابها في العراق بوصول أي سياسي سنّي إلى عتبة بوابات الدولة العميقة، التي تتحكم بها طهران منذ عقدَين من الزمن.