ترجمة وتحرير نون بوست
في البداية، إليكم الأخبار السيئة، تسمح التكنولوجيا، وبالتحديد تكنولوجيا المراقبة، لرجال الشرطة بإثارة سخط المتساكنين (ومما لا شك فيه أن لمثل هذا التصرف آثارا سلبية). كما تمنح الدول القمعية المزيد من الاستقرار لتوقع نفسها فيما بعد في ورطة حقيقية. والآن، إليكم الخبر السار، تسهل التكنولوجيا – وخاصة التكنولوجيا المتصلة بشبكة الإنترنت – عملية إنشاء الحركات المعارضة واستقطابها للأشخاص حتى في ظل المراقبة التي تفرضها أعتى الدول المستبدة.
في الحقيقة، يترتب عن عدم المساواة انعدام الاستقرار، فضلا عن تعمق مشاعر الاستياء التي تنتشر في صفوف الأغلبية الفقيرة تجاه الأقلية الغنية فحسب. يتمتع كل فرد بمزيج من الأفكار الخلاقة وأخرى سيئة ومريعة للغاية. وفي الأثناء، وبالنسبة لمعظمنا، يتلاشى الضرر الناجم عن أفكارنا المريعة تحت مظلة افتقارنا إلى السلطة السياسية بالإضافة إلى الضوابط التي يفرضها علينا الآخرون، بما في ذلك الدولة. ومن هذا المنطلق، يزداد الأشخاص الأغنياء غنى وتصبح ثرواتهم بمثابة نفوذ سياسي، وتتخذ أفكارهم – وخاصة أفكارهم المُروعة – أهمية كبيرة.
في المملكة العربية السعودية، تستثني الخرافات الوهمية التي يتبناها نخبة صغيرة، (النخبة الغنية)، حوالي 45 بالمائة من السكان من المشاركة الكاملة في الحياة المدنية. ويُعتبر هذا الأمر مثيرا للقلق، خاصة وأن إيجاد علاج لمرض السرطان أو التحول الاقتصادي ما بعد عصر النفط في هذه الدولة الخليجية، يتوقف على “ولي أمرها” الذي من المتوقع أن يقودها إلى مكان ما. في المقابل، لا يكفي التأمل في وضع منطقة الشرق الأوسط لاكتشاف الأفكار المريعة التي تبناها الأغنياء وجعلت حياة الجميع أسوأ حالا من ذي قبل.
في حين تنكر المملكة العربية السعودية حقوق المرأة، تأبى نظيرتها الأمريكية التزام بما يفرضه علماء المناخ. تبدو هذه الفكرة النابعة من الأسس الديمقراطية للدولة غاية في الغباء، ذلك أنها ستؤدي إلى وفاة الأغنياء والفقراء على حد سواء. في الواقع، لاتزال أغنى الدول والأكثر مراقبة لشعبها مرتبطة بشكل وثيق بالوباء، مرض السل، الذي أودى بحياة العديد من الأشخاص خارج حدودها، علما وأن فيروس زيكا الذي يحمله البعوض لا يبالي إن كنت غنيا أم فقيرا.
أما في المملكة المتحدة، فلدينا ما يعرف “باعتماد المأوى كسلاح”، حيث تتحول المنازل إلى استثمار قائم على المضاربة بدلا من كونها أحد الحقوق الأساسية للإنسان. وبالتالي، يُخل هذا الأمر بشكل كبير بالاقتصاد البريطاني، فيما يتسبب بتدمير قطاع الشغل، والتعليم، فضلا عن الحياة الأسرية. خلافا لذلك، تعج مدننا بسلسلة من الأبراج الفارغة التي تضم مجموعة لا متناهية من الخزْنات، التي قد تمثل بيئة مناسبة لغسيل الأموال التابعة للمجرمين خارج البلاد. وقد تصبح هذه الأماكن، عرضا، مكانا حيث يقيم شخص ما في أحد الأيام.
برج سانت جورج وارف في لندن: منارة يمتلكها العديد من الأجانب في مدينة أصبح فيها المأوى “سلاحا”
في الأثناء، تنطوي ثنائية عدم المساواة-عدم الاستقرار المتلازمة على بذور انهيار وتلاشي الدول، حيث يُسمح للنخب الصغيرة بفرض أفكارها الحمقاء التي تمجدها على اعتبارها قانونا يتسم بالتشدد والتصلب. وفي نهاية المطاف، سيترتب عن ذلك بروز دولة تُدار بشكل سيء إلى حد الوصول إلى حافة الضياع والانهيار، وذلك إما عن طريق قيام ثورة أو عبر إصلاحات ضخمة (أنظر، على سبيل المثال، البرازيل).
من جانبها، تحرص المجتمعات غير المتكافئة الذكية على الحيلولة دون انهيار بلدانها من خلال إقناع نخبها بتقديم بعض من عائداتها لباقي البلاد. ويؤدي ذلك، تبعا، إلى التمتع بازدهار مشترك على نطاق واسع، والإحساس بالتضامن الوطني الذي يسمو فوق الشعور بالاستياء الطبقي (أنظر، على سبيل المثال، السويد). وحين تصل إلى مرحلة تتجاوز فيها قيمة المبالغ المدفوعة لحراسة ثروتك تكلفة إعادة توزيع بعض منها، تصبح في غنى عن عدد كبير من الحراس.
ومن هذا المنطلق، يبرز دور التكنولوجيا، حيث تحول تكنولوجيا المراقبة حراسة النخب إلى وظيفة مقابل أجر زهيد أكثر من أي وقت مضى. والجدير بالذكر أن مكاتب الإتصالات الحكومية البريطانية ووكالة الأمن القومي الأمريكية قد نجحتا في وضع الكوكب بأكمله تحت المراقبة المستمرة. أما بالنسبة للدول الأقل تطورا من الناحية التكنولوجية، فهي قادرة على مجاراة الدول المتقدمة.
فعلى سبيل المثال، تعد إثيوبيا واحدة من أولى “سجون المراقبة” في العالم، علما وأنها دولة ترتكز فيها طبقة نخبوية تتسم بسياسة النهب والسرقة العلني. في الواقع، حافظت الدولة الإثيوبية على المقاصل وفرق إطلاق النار في صلب أجهزتها من خلال شراء تكنولوجيا التجسس المتطورة من قبل الموردين الأوروبيين. وفي الأثناء، قامت الحكومة الإثيوبية بتوظيف هذه التكنولوجيا لتحديد أيّ من المنشقّين، والمعارضين السياسيين، والصحفيين، يمثل تهديدا. مما يتيح لها إخضاعهم للاعتقال التعسفي، والتعذيب، وفي بعض الحالات، للإعدام.
ومع انتشار التكنولوجيا، تصبح آليات التجسس أرخص بكثير، وتصبح اللامساواة أكثر تعمقا في صلب الدول، ولكن ليس بشكل تام. ومع تنامي عدم المساواة خلال مدة زمنية معينة، ستؤدي الحماقة التي تتباهى بها النخبة الحاكمة في النهاية إلى الانهيار. أما التكنولوجيا فلا تساهم سوى في تأخير حدوث ذلك، وهو ما يُعتبر خبرا مفزعا. في الحقيقة، كلما طال أمد هذه السياسة الغبية المتبعة من قبل العديد من الدول، كلما ترتب عن ذلك دين أكبر لا بد أن نتحمله. وحينها سندفع ثمنا باهظا للغاية؛ أجيال ضالة، وبحار مرتفعة، وما إلى ذلك؛ وتلك هي الأخبار السيئة.
فرص غير متكافئة: امرأة تتحدى الحظر السعودي الضمني المتعلق بقيادة السيارات بالنسبة للنساء
الآن لننتقل إلى الأخبار السارة، من الواضح أن التكنولوجيا تجعل من تكوين المجموعات أمرا زهيدا وسهلا للغاية أكثر من أي وقت مضى. وتجدر الإشارة إلى أن تكوين المجموعات والتنسيق بينها يُعتبر أصعب معضلة يواجهها الإنسان، ولهذا السبب نمتلك العديد من الأديان، والشركات، والشبكات الإجرامية السرية، والأحزاب السياسية.
على الرغم من أن العمل ضمن مجموعة من شأنه أن يسمح لنا بالقيام بالعديد من الأمور التي يصعب على الفرد تنفيذها بمفرده، إلا أن ذلك يعني أيضا القبول بالمساومات، وإخضاع نفسك لسياسات وأوامر من قبل أطراف أعلى منك مرتبة، وهو أمر صعب ومكلف. وبالتالي، يصبح تكوين مجموعة وتعبئتها أمرا أصعب في ظل افتقارك للمال والوقت الكافي لذلك.
في هذه المرحلة، يبرز دور الشبكات، حيث تستبدل الجماعات الحديثة المتمردة التسلسل الهرمي بالبرمجيات، وأرباب العمل بالشبكات. ونتيجة لذلك، تصبح الجماعات قادرة على الالتقاء دون الحاجة للموافقة على جدول أعمال هشّ، الذي يُحتّم عليك الخضوع له في سبيل أن تصبح جزءا من الحركة.
عندما تنخفض تكلفة تشكيل مجموعة ما، لن يكون من المهم حينها أن الأسباب الكامنة وراء اجتماعكم تختلف من فرد إلى آخر، وبالتالي لن يكون محكوما عليها بالانهيار. وفي هذا الصدد، يصبح العمل المُنجز في إطار مجموعة، حتّى وإن كان محدودا، مُربحا مقارنة بالتكلفة الضئيلة المترتبة عن عملية قبول شخص ما في تلك المجموعة.
وإذا تأملنا أبعد من ذلك، تتمتع الجماعات الحديثة والمتمردة “بعلم التشفير” الذي يمثل أحد نقاط قوتها. ويُعد “المزج التشفيري” مفهوما جديدا في العالم، حيث يسمح للأفراد بتحويل الرسائل والملفات إلى أسرار محمية بدقة لدرجة يستحيل فيها تخمين مفاتيحها. وحتّى إن وقع تحويل جميع ذرات الهيدروجين في الكون إلى أجهزة كمبيوتر، وكان كل ما عليها فعله هو تخمين تلك المفاتيح إلى بلوغ نهاية العالم، فلن تتمكن من ذلك.
ومما لا شك فيه أن قوة التشفير تُساهم، في حال تم خلق خطوط الاتصالات المقاومة للمراقبة، في حماية الجميع من القوة القهرية للدول. فضلا عن ذلك، لا تقتصر تلك الحماية على المجموعات الناشطة التي تطمح إلى مجتمع أكثر عدلا فحسب، بل تشمل أيضا المؤمنين بمبدأ “سيادة البيض”، والمنظرين للمؤامرات المتعلقة بالإسلاموفوبيا.
في الأثناء، قد تكون الطبيعة الارتجالية لشبكات المتمردين بمثابة نقطة ضعف وقوة على حد سواء، حيث تتمتع هذه المجموعات بقدرة عالية على الإفلات من بين أيدي الشرطة بغية إحداث إصلاح والمضي قدما نحو الأمام. في المقابل، لا تمتلك هذه المجموعات بالضرورة القدرة على تشكيل أو إدارة مجموعة من الخدمات المدنية، في حال نجحوا في الوصول بطريقة أو بأخرى إلى السلطة.
من حافة الكارثة إلى قمة الانتصار؟
في الواقع، لن يكون المستقبل طبيعيا بأي شكل من الأشكال كما نتوهم نحن. فعلى سبيل المثال، يتمحور الأمر الوحيد المُؤكد بشأن السيارات ذاتية القيادة حول إمكانية نقلها للثروات إلى أيدي بارونات النقل الأوليغاركيين، إلا أن الأمور لن تتوقف عند ذلك الحد. في الحقيقة، ينطوي تغييرنا لطريقة سفرنا على انعكاسات فعلية على التنقل (حَرفيّا واجتماعيا)، والبيئة، والرقابة، والاحتجاج، والتخريب، والإرهاب، والأبوة.
وقبل وقت طويل من تغيير الإنترنت، جذريا، لطريقة حياتنا، تنبأ المُنظّرون بأننا سنلجأ لأجهزة الكمبيوتر لتحقيق أهداف طموحة دون الحاجة لتسلسل هرمي تقليدي. في المقابل، لم يتمكن العلماء من الإقرار بأن أول مثال ناجح لهذا سيكون عبارة عن نظام تشغيل (جنو/لينكس)، ومن ثم موسوعة (ويكيبيديا).
من جانب آخر، سيشهد المستقبل ارتفاع نسق الطموحات التي يمكن أن تحققها المجموعات غير المتماسكة، بشكل طفيف. وفي روايتي الجديدة، “والك أواي”، حاولت تجسيد مشاهد من مستقبلنا حيث تتحول كوارث الأغنياء إلى شيء شبيه بالانتصارات بالنسبة لأحد البوهيميين، في حين تعمل الجماعات المضادة للدكتاتورية على خلق برامج الإسكان وبرامج الفضاء تماما مثلما نقوم بإنشاء الموسوعات اليوم. وبالتالي، يقع استبدال الخضوع لسلطة النخب الحاكمة بمناقشات (شائكة أحيانا) وشبكات (حساسة في بعض الأحيان).
وعلى ضوء هذه المعطيات، تمثل رواية “والك أواي” مستقبلا يحدوه الأمل. في الحقيقة، لا يخلو هذا المستقبل من الأحداث السيئة، بيد أنه بمثابة إطار يعمل فيه الأشخاص بجد لإعادة الأمور إلى نصابها عند حدوث أمر سيء. أما تصميم الأنظمة، على افتراض أنها غير قابلة للفشل، سيجعلك تحصل على أنظمة تفتقر للإتقان والنجاعة، بل سيكون الأمر شبيها بسفينة التيتانيك.
من جانبهم، يعي المهندسون الأذكياء جيدا أن “الإنتروبيا” ليست مجرد فكرة جيدة، بل هي القانون الثاني للديناميكا الحرارية، لذلك يخططون وفقا لها. وفي هذا الإطار، يعمل المهندسون على تصميم الأنظمة التي تتوقف بشكل مباشر عندما تسوء الأمور، عوضا عن الانفجار والتحول إلى سحابة من الشظايا البيضاء الساخنة. وعلى الرغم من أن التكنولوجيا لم تُصمّم مسبقا لإنقاذنا من مسألة عدم التكافؤ، إلا أنه وفي ظل غياب شبكة حرة، ونزيهة، ومفتوحة للجميع، التي يمكن من خلالها تجميع وتنظيم قوات العدالة، فإن نتيجة المعركة واضحة حتّى قبل الخوض في غمارها.
عموما، لا يقوم الخيال العلمي بالتنبؤ بالمستقبل، ذلك أن المستقبل غير قابل للتنبؤ، إنما يُعتبر أمرا قابلا للنقاش. في الأثناء، يخلق الخيال العلمي جملة من إشارات فيما يتعلق بوقائع لا مفر منها، التي لسنا في حاجة إلى تقبلها، ناهيك عن إيجاد أعذار لها. أما المستقبل الذي أتحدث عنه في رواياتي فلا يمثل تنبؤات بقدر ما يُعتبر علامات استدلال بشأن الأفق البعيد.
ومن خلال جعله نصب أعيننا، عند مرورنا بتحديات صعبة التي لا يمكن توقعها، بإمكاننا عندها الوصول إليه، أو العثور على أمر جيد بالقدر ذاته على طول الطريق. خلافا لذلك، يطلق هذا المستقبل العنان لخيالنا وسخطنا، في حين يقدم إجابة لأولئك الذين يقولون إنه “لا وجود لبديل” إلا أنهم يقصدون فعلا “من فضلك لا تحاول العثور على بديل”.
المصدر: الغارديان