وقائع متشابهة تجعل مناسبة دورية كأنها واحدة خالية من الإبداع، هذا الانطباع العام لمن عاش رمضان في مكان واحد أو في بيئة واحدة، الشعور بالتكرار المنتج للملل وللفقر المعرفي، مناسبة دينية مثل صيام شهر رمضان ولفرط الإلحاح على شكلها المديني تتحول إلى سبب من مذهبات الإيمان فتحويل العبادة إلى عادة يجعل تحملها عسيرًا على غير المخلصين للطقس مهما تغيرت ظروف العبادة.
تونس مدينة تقتل رمضان في النفوس وتخلق بديلاً منه مهرجانًا للمتع السريعة، ونميل إلى الاعتقاد أن مسارات التمدن الحديثة أو التحديث الحضري تعمل على استبعاد الطقس الديني من الحياة العامة وتخفيف قتامة التعبد بلهو كثير تسمح السوق بتوفيره وتطويره حتى يصير رمضان مناسبة استهلاكية حسية ليس أكثر، رمضان طقس ما قبل السوق.
بعض الذكريات للتاريخ
نشأت في بيئة ريفية أقرب إلى البداوة وكان لرمضان فيها رغم ذلك طقوس غير تعبدية، فرمضان مهما كان الفصل من السنة يفتح بوابة للسهر الطويل ونشاط المقامرة بالقليل (لعب الورق في حوانيت صغيرة على ضوء فانوس نفطي)، لا يمكنني هنا تخيل ماذا كان شكل الملاهي قبل وصول لعبة الورق الحديثة من إيطاليا (الشكبة أو la scoppa)، فالسهر كان ينتج دومًا علبة حلويات نجدها في الصباح إذا ربح الوالد وقد يغطي على خسارته بشراء الحلوى، فالنصر حتى في اللعب علامة قوامةالرجل على عياله.
النشاط اللاهي والاستهلاكي يخفي الجانب الباقي من النشاط التعبدي في رمضان
في المدينة تغير شكل اللهو ولكن رمضان ظل مزيجًا من التعبد النهاري الكسول والنشاط الليلي المحموم في اللهو الشارعي، القمار لعبة رمضانية تسود بقية ألعاب الكبار والصغار، ثم تسود حمى الشراء في النصف الثاني وتفتح المتاجر أبوابها ليلاً، فالعيد هو عيد الصغير أي عيد الأطفال لكن تجارة الحلوى تصبح نشاطًا محمومًا، وتتغير وظائف متاجر كثيرة لتصبح محلات لبيع الحلويات الشعبية خارج تراتيب الصحة العامة.
النشاط اللاهي والاستهلاكي يخفي الجانب الباقي من النشاط التعبدي في رمضان، وقد عملت السلطة السياسية على الدفع بعيدًا عن الصبغة الدينية لرمضان فأغلقت المساجد في وجه التراويح والتهجد في العشر الأواخر حتى اختفى تقريبًا القراء الحفظة، فلما حدثت الثورة عاد الجانب التعبدي إلى الظهور لكنه لم يخف الميول اللاهية، بل تنوعت باسم الحرية الخاصة.
واجه المصلون نقص الحفاظ فعوضوه بالقراءة من المصحف، لكن نشاط الحفظ عاد في معسكرات تحفيظ ترعاها حركة النهضة وبعض التيارات السلفية العلمية، ولم تعد السلطة تغلق المساجد بعد صلاة العشاء بل صار التهجد في العشر الأواخر نشاطًا بينًا (تخوض أطراف غير رسمية في وزارة الشعائر الدينية هذه الأيام حربًا من أجل الحد منه أو منعه لو قدرت)، وهو ما يحلينا إلى النظر في علاقة رمضان بالسياسة في تونس.
رمضان شهر الكسل
يتذكر التونسيون مشهدًا خاصًا في تونس هو مشهد ظهور الزعيم بورقيبة يتناول كأس عصير في شهر رمضان ويدعو إلى القطع مع هذا النشاط الكسول الذي اسمه الصيام، فبناء الدول لا يكون في رأيه بقوم نيام كامل اليوم يدفعهم الجوع والتعب والسهر إلى التخلي عن العمل في حين أن بلدهم يحتاج نشاطًا محمومًا وإنتاجًا متصاعدًا في كل المجالات ليقوم بنفسه ويتحرر من الاستعمار ضمن ما كان يسميه الزعيم في حينه بالجهاد الأكبر.
ذلك الظهور القوي والمقتحم سبب صدمة في الوعي العام قطعت أواصر كثيرة بين الزعيم المحبوب وشعبه، لقد دخل في منطقة المقدس وعاث فيها، وصدرت فتاوي تكفير كثيرة بعضها محلي وبعضها من السعودية، ومنذ ذلك الحين نظر إلى الدولة (كانت الدولة والزعيم شيئًا واحدًا) كعدو للدين (مع إضافة شحنة من التكفير بتعطيل رخصة تعدد الزوجات في الأحوال الشخصية).
كان الصراع على رمضان صراعًا سياسيًا في جوهره
بنيت علاقة متوترة بين المتعبدين والدولة، زادتها الخصومة مع التيار الديني رهقًا، فقد استفاد التيار الديني من التحديث القسري المعادي للتدين واستعمل ذلك وسيلة تحشيد سياسي وتربوي، فصار عند الكثيرين ممثلاً للدين بينما تمثل الدولة الكفر أو الخروج عن الملة، وألقى الأمر بظلاله على مشاريع كثيرة للتحديث في غير علاقة بالتدين والدين.
كان الصراع على رمضان صراعًا سياسيًا في جوهره، الدولة حاملة مشروع التحديث اللاديني والتيار الديني حامل مشعل الأصالة (المحافظة على الموجود أو في أفضل الخطابات تطويره من داخله دون نفيه باعتباره معادٍ للتقدم)، وحتى اللحظة يعيش التونسيون هذا الانقسام، رغم إعلان جزء كبير من الإسلاميين نوع من الحياد التربوي باسم حرية المعتقد التي أقرت في الدستور.
فترة بن علي كانت حربًا حقيقية على التدين، وفسرت على أنها حرب على الدين، فكانت ردة الفعل سلفية بشكل كامل وافتقد الناس محاورًا غير تكفيري في المسائل التعبدية، كان تجفيف منابع التدين قد انتهى إلى تجفيف منابع الدين نفسه، بما جعل رمضان شهرًا انتقاميًا بامتياز يفرط الناس فيه في التعبد شماتة فيمن يمنعهم، واشتغل الدين وعاءً للرفض لكن في غير الوجه السياسي بل في وجه دفاع عن النفس في مواجهة حرب غير أخلاقية لم يكن للمتدين فيها حق البقاء في المسجد حتى لقضاء صلاة فاته ميقاتها.
في الأثناء يفرح التجار برمضان
خارج صراع النظام مع الإسلاميين عن رمضان خاصة والإسلام عامة يفرح التجار برمضان، كل السلع تروج في رمضان فهو شهر استهلاك بامتياز، يتغير شكل المدن التونسية وتسهر المقاهي إلى وقت السحور ويعود نشاط القمار البسيط في المقاهي فيصبح تدبر كرسي في مقهي يقتضي الخروج المبكر من حول مائدة الإفطار، فرمضان موسم الحصاد في مقاهي المدن والقرى.
التلفزة العربية عامة والتونسية جزء منها حولت رمضان التعبدي إلى رمضان الضحك الأبله
رمضان شهر التليفزيون والكاميرا الخفية بعد الفوازير، فمنذ ظهرت فوازير الثمانينيات تحول رمضان إلى شهر الفوازير، للتفلزة حكمها على الأسر، تراجعت فوازير نيلي لصالح رامز، لكل بلد رامزه، الكاميرا الخفية لعبة تليفزيونية تجعل المواطن يفتح فمه لتخمة الإشهار، بعيدًا عن كل مواضع الذوق السليم إذ يمكن أن نشاهد إعلان حفاضات الأطفال في أثناء تناول الشوربة، فالمهم اغتنام ساعة ذروة المشاهدة ولكل ثانية ثمنها في تلك الفترة القصيرة قبل الهروب إلى المقاهي العامرة.
التلفزة العربية عامة والتونسية جزء منها حولت رمضان التعبدي إلى رمضان الضحك الأبله، وكرست فكرة الصيام المرهق الذي يخفف بضحك مصطنع واستبدت بالعقول والأنفس، لا شيء في التليفزيون بعد إعلان الإفطار يدل على رمضان، لا شيء غير التجارة ووسائلها وغير اللهو البذيء غالبًا، فسرعة الإنتاج لتغطية فترة البث الكثيفة راكمت رداءة كثيرة أين منها الإنتاج المتأني الذي يبث متباعدًا خارج رمضان.
رمضان.. لا أعرف رمضان
إنه ليس شهر عبادة إلا لقليل مؤمن صادق وهو شهر توبة مؤقتة في العشر الأواخر وهو شهر عراك سياسي بين حداثة مفرنسة وأصالة منغلقة وهو فوق ذلك شهر بطنة وقلة فطنة، حادث مكرر وممل، هل هذا هو الممكن الوحيد من رمضان؟ يبدو أننا نحول كل شيء إلى معانٍ مبتسرة وأفعال قاصرة، هل علينا أن نعيد اكتشاف رمضان؟ يوجد خيال جميل عن رمضان بصفته جهاد روحي وتخلٍ عن التخمة العابرة والبلاهة والسياسة الكيدية والورع الكاذب.
هناك حاجة إلى إعادة اكتشاف معاني رمضان ضمن مشروع ثقافي يعيد اكتشاف الدين نفسه
معنى كامن في رمضان نتوقعه في النص والتاريخ ولا نجده في فعلنا الرمضاني الموسمي، هل هذا بحث عن مثال مطلق؟ (أصولية متخفية؟) وما الدين غير مثال مطلق للسمو؟
هناك حاجة إلى إعادة اكتشاف معاني رمضان ضمن مشروع ثقافي يعيد اكتشاف الدين نفسه، لقد استنزفت كل المعاني القديمة بحكم العادة وقوة السوق ومسارات التحضر الاستهلاكي التفاخري وبعضها يتم باسم الدين نفسه، من هنا نعيد اكتشاف المؤمن في رمضان ونكتشف رمضان في نفوس مؤمنة.