شاع مفهوم النكبة الفلسطينية للوقت الذي اُحتلت فيه فلسطين عام 1948، حين أعلن الاحتلال الإسرائيلي إقامة “دولة إسرائيل” بعد ممارسته جرائم تطهير عرقي، وتهجير قسري للفلسطينيين من أراضيهم، على يد العصابات الصهيونية وعلى رأسها الهاغاناه، التي أصبحت لاحقًا ركنًا أساسيًّا في جيش الاحتلال.
لكن النكبة الفلسطينية لم تتوقف عند حدود ذلك العام، بل استمرت بشكل يومي على الأراضي الفلسطينية، من خلال ممارسة الاحتلال القتل والتهجير القسري والاستيطان والسيطرة على الأراضي بشكل عسكري مباشر، أو من خلال ذراعه الرئيسية في الاستيطان “المستوطنين”، حتى حلّ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لتتخذ إجراءات الاحتلال ضد الفلسطينيين مفهوم النكبة الجديدة، مع صعود مساعيه لتهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء المصرية، ومع تهديد المستوطنين في الضفة بشكل مباشر أن الفلسطينيين على موعد مع نكبة جديدة.
ففي قرية دير استيا، شمال غرب مدينة سلفيت، في الضفة المحتلة، وضع مستوطنون منشورات على مركبات المزارعين الفلسطينيين يتوعّدونهم بنكبة جديدة، وقد جاء فيها: “إذا أردتم نكبة مثيلة بعام 1948 فواللّه ستنزل على رؤوسكم الطامّة الكبرى قريبًا، لديكم آخر فرصة للهروب إلى الأردن بشكل منظّم، فبعدها سنجهز على كلّ عدو وسنطردكم بقوة من أرضنا المقدسة التي كتبها الله لنا”، بالتوازي مع ذلك موّل المستوطنون عشرات المنشورات على منصات التواصل الاجتماعي، تدعوا الفلسطينيين إلى مغادرة الضفة فورًا تحت عنوان “هاجروا الآن”.
وحقيقة الأمر أن ممارسة المستوطنين لا تقفُ عند التهديد والوعيد فحسب، بل راحت إلى الممارسة الفعلية حتى قتل المستوطنون بأنفسهم 10 فلسطينيين من أصل 277 شهيدًا قتلهم الاحتلال، وهجّر الاحتلال منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 1277 فلسطينيًّا من الضفة المحتلة، وهدم 158 منشأة أغلبها سكانية، وكانت التجمعات البدوية في أطراف المحافظات الفريسة الأولى لهجوم المستوطنين وقوات الاحتلال في الضفة.
الاعتداءات المفضية إلى التهجير
تظهر بيانات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان في الضفة الغربية، أن الاحتلال والمستوطنين شنّوا حملات كبيرة لمصادرة وسرقة وتخريب ممتلكات الفلسطينيين، تراوحت هذه الممتلكات ما بين جرّارات زراعية، وجرّافات، وكاميرات منزلية، ومركبات، وأغنام ودواجن، وخيم، وكشّافات تعمل بالطاقة الشمسية، وخلايا نحل وأسياج معدنية، حيث بلغ عدد عمليات الاعتداء على الممتلكات خلال أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ما مجموعه 265 عملية اعتداء على الممتلكات.
وأفضت عمليات الاعتداء إلى مصادرة وتخريب وسرقة ما يقرب 218 ممتلكًا فلسطينيًّا، منها مصادرة تسجيلات كاميرات، ومركبات، وجرّافات، وجرّارات زراعية، وشاحنات، ومصادرة بضائع الباعة عند باب العامود في القدس، ومصادرة أنابيب مياه، وسرقة رؤوس أغنام، وسرقة ألواح طاقة شمسية، وسرقة ثمار الزيتون.
وتوثق منظمة “يش دين”، وهي منظمة إسرائيلية تعارض السيطرة على الضفة الغربية، وقوع أكثر من 185 هجومًا للمستوطنين ضد الفلسطينيين في أكثر من 84 بلدة وقرية حول المنطقة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
أما مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” فيقول إنه ومنذ عام 2022، اضطر أكثر من 2000 فلسطيني بالضفة إلى ترك بيوتهم نتيجة اعتداءات المستوطنين الضارية، وأكثر من 43% منهم قد نزحوا عن أراضيهم بالضفة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بسبب عنف المستوطنين والقيود المفروضة على الوصول إلى الأراضي، وفق آخر إحصائية صدرت عن المنظمة.
وتتزامن مع اعتداءات المستوطنين حملة التسليح الواسعة لهم، والتي أطلقها وزير الأمن المتطرف لدى الاحتلال إيتمار بن غفير، حيث سلح المستوطنين بأكثر من 10 آلاف بندقية، ومُنحوا حق إطلاق النار والدفاع عن النفس دون انتظار قدوم أي جهاز أمني، أي شرطة وجيش الاحتلال اللذين لن يتوانيا عن إطلاق النار على أي فلسطيني.
وتوثّق هيئة مقاومة الجدار والاستيطان أن المستوطنين وجنود الاحتلال اختطفوا طاقم هيئة الجدار والاستيطان وفلسطينيًّا آخر في وادي السيق في محافظة رام الله والبيرة، بتاريخ 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، واستمرت عملية الاعتداء على الموظفين لمدة يوم كامل تقريبًا، حيث قاموا بضربهم ضربًا مبرحًا، وجرّدوهم من ملابسهم، وصوّروهم عراة وبملابسهم الداخلية، وقاموا بالتبول على اثنين منهم وإطفاء سجائر مشتعلة عليهما، بل حاولوا إدخال جسم ما في جسد أحدهم.
أما حادثة أخرى من اعتداءات المستوطنين هي ما جرى في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حيث طرد المستوطنون المزارعين من أراضيهم في قرية إماتين وجيت وفرعتا قضاء نابلس، وهددوهم بالسلاح طالبين منهم ألا يرجعوا إلى أراضيهم إلا بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وحادثة أخرى وثقتها المؤسسات الحقوقية، ضمن تعرُّض القرى والمجتمعات الرعوية في التلال والأراضي الريفية الفلسطينية لاعتداءات متزايدة، حيث ضرب رجال مسلحون ملثمون يرتدون زيّ جيش الاحتلال راعي أغنام من سكان قرية سوسيا في جنوب الخليل، وهددوه بالقتل إذا لم يغادر أرضه، كما تشير منظمة “بتسيلم” إلى أن الاحتلال فرض حظر تجول على 11 حيًّا فلسطينيًّا منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
تهجير التجمعات البدوية
خلال أكتوبر/ تشرين الأول 2023، رصدت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان تهجير 9 تجمعات فلسطينية بدوية تتكون من 100 عائلة تشمل 810 أفراد من أماكن سكنهم إلى أماكن أخرى، تحت وطأة إجراءات جيش الاحتلال والمستوطنين، وكانت كل عمليات التهجير بعد السابع من الشهر نفسه.
ففي وادي السيق، شرقي رام الله، والذي يسكنه 30 عائلة، بما يعادل 180 فلسطينيًّا بينهم 40 طفلًا، على مساحة كيلومتر مربع تقريبًا، ويعتمدون على تربية الأغنام، بدأت عائلات التجمع بإخلاء المكان في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بعد سلسلة تهديدات من المستوطنين، تركزت بعد العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة، وسبقها هجوم المستوطنين 3 مرات على التجمع خلال شهرَي أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول، وإقامة المستوطنين بؤرة استيطانية رعوية جديدة قرب تجمع وادي السيق مطلع عام 2023.
وفي شرق رام الله أيضًا تقع خربة عين الرشاش، التي تسكنها 15 عائلة فلسطينية بتعداد 95 شخصًا، بينهم 21 قاصرًا، أغلق المستوطنون الطريق المؤدية إلى هذا التجمع البدوي بعد اندلاع الحرب بيومَين، ومنعوا صهريج مياه من الوصول إلى المكان، وفي أعقاب ذلك اضطر السكان إلى نقل 1500 رأس من الأغنام إلى قرية دوما، وبتاريخ 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 انتقلت النساء والأطفال جميعًا إلى قرية دوما، بعدها بـ 3 أيام التحق رجال التجمع بالنساء إلى المنطقة الواقعة بالقرب من قرية دوما، مخلين التجمع.
وإلى الشمال من رام الله، حيث تقع خربة جبعيت، وكان يسكنها 8 عائلات مكونة من 25 شخصًا بينهم 10 أطفال، في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 غادر التجمع جميع سكانه بسبب تهديدات المستوطنين، وترك سكانه في المكان معظم أمتعتهم لأنهم كانوا يخشون العودة لأخذها بسبب تهديدات المستوطنين، ولأن المستوطنين أغلقوا الطرق المؤدية إلى التجمع.
وتعرضت خربة زنوتة جنوب الخليل، الواقعة على 12 ألف دونم، إلى تهديد المستوطنين المباشر بالقتل في حال عدم المغادرة، ما أدّى إلى تهجير 36 أسرة فلسطينية يبلغ عدد أفرادها 400 شخص، نصفهم أطفال، بشكل قسري، وفي نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2023 فكّك أهالي الخربة نحو 50 مبنى خيمة وبركس، وأخلوا المنطقة بمواشيهم التي يبلغ عددها 4 آلاف و700 رأس غنم.
هذه الخربة التي يحيط بها من الجهة الغربية شارع التفافي بين المدن خاص بالمستوطنين، ومن جهتها الشرقية المنطقة الصناعية الاستيطانية، ومن الجنوب جدار الفصل العنصري، ومن الشمال مستوطنات ميتار وتيما وشمعة، صدر بحقها قرار محكمة إسرائيلي احترازي يمنع هدم مباني التجمع عام 2016، وتعرّضت في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى اقتحام جيش الاحتلال المدرسة فيها، حيث حطّم بوابتها واعتدى على فلسطينية وابنتها، تلا ذلك اعتداء المستوطنين على المواطنين، ما أدّى إلى إصابة 4 منهم.
وبحسب “الغارديان“، فإن المستوطنين رعاة الغنم كانوا قد سيطروا فعليًّا على نحو 110 كيلومترات من الضفة المحتلة خلال العام الماضي، وضمّوها إلى بؤر استيطانية رعوية، في الوقت التي كانت مجمل مناطق المستوطنات الإسرائيلية المبنية منذ الاحتلال عام 1967 لا تغطّي إلا 80 كيلومترًا.