انتهت جولة التفاوض الأولى بين وفد نظام دمشق ووفد قوى المعارضة والثورة السورية بلا نتائج تذكر على المستوى السياسي، ونتائج متواضعة على المستوى الإنساني. في بيانه للرأي العام، لم يخف عراب مباحثات جنيف 2 وأكثر الدبلوماسيين الدوليين حماسة لها، الأخضر الإبراهيمي، ضآلة النتائج، مؤكداً على أن مجرد جلوس الطرفين إلى مائدة تفاوض واحدة كان إنجازاً لا يستهان به.
على الأرض، يواصل النظام قصفه البربري للمناطق التي يسيطر عليها الثوار، موقعاً خسائر فادحة بالمدنيين من مواطني شعبه، ويستمر نزيف اللاجئين السوريين إلى دول الجوار. على الساحة الدولية، ثمة شعور مبالغ فيه بالإنجاز، بعد أن نجحت الضغوط الروسية والامريكية في إطلاق المفاوضات بين الطرفين. الخطر الآن، يتعلق باحتمال أن يغرق الإئتلاف الوطني السوري، الجهة الرئيسية الممثلة للمعارضة والثورة السورية، في مناخ تفاوض لا نهاية له، وينسى واجباته الأولية والأساسية في قيادة الشعب وثورته، وتوفير المقدرات الضرورية لاستمرار الثورة وصمود الشعب. أما الخطر الأكبر، وقد انطلقت جولة المفاوضات الثانية، أن تصبح ‘العملية’، عملية التفاوض، بديلاً عن مواجهة العرب، والمسلمين، والعالم، لمسؤولياتهم، ووضع نهاية للمأساة السورية اليومية.
لم يكن التصميم الامريكي الروسي على عقد جنيف 2 غريباً أو استثنائياً. كلا الدولتين الكبريين وجدا منذ اتفاق جنيف 1 بين لافروف والسيدة كلينتون في صيف 2012 أن الثورة السورية وضعتهما في مأزق، وأن عليهما إيجاد مخرج ما من هذا المأزق.
وقفت روسيا من البداية إلى جانب نظام الأسد، آخر حلفاء موسكو الخلص في المشرق العربي، والذي وفر لها قاعدة بحرية على المتوسط، أحيت شعور الدولة العظمى وقدرتها على التواجد في البحار الدافئة.
ولكن وقوف روسيا إلى جانب الأسد، ساهم في تشويه صورة روسيا في العالم العربي، سيما في أعين الشعوب العربية، التي لم تبتلع إطروحة المؤامرة الغربية على سورية، ولا اقتنعت بروايات دمشق المبكرة حول التطرف الإسلامي.
في الشارع العربي، كما في الأوساط الروسية الليبرالية، بل وحتى في بعض دوائر صنع القرار الروسي، لم يكن ثمة خلاف حول أن الثورة السورية جزء لا يتجزأ من حركة تحرر عربية من الاستبداد والفساد والقمع.
ولكن الحرج الروسي لم يولد من حجم العنف وسياسات القمع البربري التي اعتمدها النظام، فإدارة بوتين لم تتورع عن اتباع السياسات والوسائل نفسها في الشيشان. جاء الحرج من عجز النظام السوري عن حسم المعركة سريعاً وإخماد حركة الشعب وثورته. وللتخلص من هذا الحرج، تبنت موسكو مقولة عدم الحرص على شخص الأسد، بل على الشعب السوري، وأنها تسعى لانتقال شرعي وقانوني للحكم، وليس الحفاظ على النظام. وهذا، بالطبع، ليس صحيحاً، ولا معبراً عن حقيقة السياسة الروسية، ولم يكن صحيحاً ولا معبراً في أي وقت مضى من سنوات الثورة السورية الثلاث. اتفاق جنيف الأول، ثم التوكيد عليه في موسكو العام الماضي، خلال لقاء كيري – لافروف، مثل مخرجاً مناسباً للحرج الروسي، بل ومخرجاً مثالياً وأخلاقياً. كيف لا وهو الداعي إلى تسوية سياسية بين أطراف الصراع، من خلال تفاوض مباشر بينها.
الولايات المتحدة كانت هي أيضاً في حرج. والحقيقة، وبالرغم من ردود فعل حلفاء واشنطن العرب الغاضبة من الموقف الامريكي في سوريا، فإن مقاربة إدارة أوباما لم تتغير بأي صورة ملموسة منذ اندلاع الثورة في آذار/ مارس 2011. بخلاف التدخل الامريكي الخجول والمتردد في ليبيا، أوضحت واشنطن أن ليس في نيتها التدخل بصورة فعالة في سوريا، حتى بعد أن خرج مئات الألوف من السوريين يطالبون بالتدخل الدولي. وبتصاعد معدلات القمع الذي مارسته قوات النظام ضد الشعب، وتحول الثورة تدريجياً إلى مقاومة مسلحة للنظام وأجهزته، ومن ثم تزايد الأدلة على تدخلات إيرانية ومن قوات حزب الله، لم تظهر في وشنطن أية مؤشرات على لعب دور مباشر في الأزمة. لم يعارض الامريكيون الدور الذي أخذت تركيا والسعودية وقطر في لعبه منذ ربيع 2012، ولكنها ضغطت بقوة من أجل أن لا يتسلم الثوار السوريون سلاحاً نوعياً أو بكميات كبيرة، بحجة وجود جماعات إرهابية وذات ارتباط بالقاعدة في معسكر الثوار. ولكن واشنطن، أيضاً، كانت تستشعر الحرج. أولاً، لأن الثورة السورية سرعان ما تطورت إلى نوع من الأزمة الإقليمية والدولية؛ وثانياً، لحجم المأساة الإنسانية التي ترتبت على سياسات القمع الوحشي والعقاب الجماعي التي تبنتها قوات النظام وأجهزته؛ وثالثاً، لأن الأحداث أخذت في تجاوز المحاذير التي أعلنها الرئيس الامريكي وإدارته، الواحد منها تلو الآخر. في جنيف 1، كما في إعلان موسكو بعد ذلك بعام، وجدت الولايات المتحدة وسيلة لتقول للعالم ولحلفائها أنها تقوم بشيء ما، وأنها تعمل بالفعل لانتقال الحكم في سورية من خلال التفاوض، لا الحرب، التي لم تتصور واشنطن يوماً أن تكون طرفاً فيها.
في الواقع، لا الإئتلاف الوطني السوري ولا القوى الإقليمية الرئيسية، ولا حتى النظام في دمشق، كان متحمساً لمباحثات جنيف. انتابت الإئتلاف الوطني الشكوك في مصداقية الراعيين الدوليين للمباحثات، وجدية إدارة أوباما، في العمل على انتقال فعلي وكامل للسلطة في سورية. في لحظات ما، سيما بعد توقيع اتفاق جنيف بين إيران ومجموعة 5 + 1 حول الملف النووي الإيراني، سادت في أوساط الإئتلاف الوطني قناعة بأن مباحثات جنيف ليست سوى محاولة لإيجاد تسوية، تبقي النظام في موقعه، وتخلص القوى الكبرى وما يعرف بالمجتمع الدولي من الشعور بالذنب وتأنيب الضمير. النظام، من جهته، لم يكن أقل خشية. فبالرغم من الدعم الروسي المستمر، وبلا انقطاع، منذ اندلاع الثورة، خشيت أوساط النظام من صفقة روسية – أمريكية، تضعه في مأزق حقيقي أثناء المباحثات، وتجبره على الاختيار بين الموافقة على التخلي عن الحكم والسلطة أو الظهور بمظهر من يعصف بالإجماع الدولي. وبالرغم من أن إيران، حليف النظام اللصيق، شاركت دمشق المخاوف ذاتها؛ كانت لإيران أسبابها الخاصة في عدم الحماس لجنيف، بعد أن اعترضت أغلب الدول العربية المعنية، وعدد من الدول الغربية، على وجودها على طاولة المفوضات. من جهة أخرى، أيدت تركيا والسعودية وقطر مشروع المباحثات، لرغبتها في عدم الظهور بمظهر من يعرقل الجهود الدولية للتوصل إلى تسوية بين أطراف الصراع، ولكن أياً منها لم يعلق آمالاً كبيرة على جنيف، ليس فقط لادراكها بأن موقف النظام وحلفائه في روسيا وإيران لم يتغير قيد أنملة، بل أيضاً لليأس المتزايد من جدية الموقف الامريكي.
بكلمة أخرى، ما جعل مباحثات جنيف ممكنة كان عجز الأطراف كافة عن إيجاد بديل، وليس الإيمان الحقيقي بأن المباحثات هي النهج الأفضل لإيجاد حل لأزمة الصراع المتفاقمة على سوريا، والمأساة الإنسانية التي ولدت من هذا الصراع.
باتساع نطاق المواجهة المسلحة ورفض قطاعات متزايدة من الشعب، لم يعد النظام قادراً على كسب الحرب، حتى مع الدعم الهائل الذي تلقاه من حلفائه في إيران وحزب الله. ولكن هذا الدعم للنظام، إضافة للقيود التي وضعت على تسلح الثوار، والانقسامات في صفوفهم، التي تطورت إلى اشتباكات دموية بفعل الدور الذي تقوم به دولة العراق والشام الإسلامية، دفع الثوار إلى التراجع، وأضعف قدرتهم على الحسم خلال 2013، التي افتتحت بتقدم كبير لهم على كافة الجبهات. كما وجدت القوى الدولية، سيما روسيا والولايات المتحدة، نفسها عاجزة، أو غير راغبة، عن تغيير موازين الصراع لصالح النظام أو الثورة.
بيد أن الصورة التي ولدتها جولة المباحثات الأولى لا تدعو للتفاؤل. منع موقف الإئتلاف الصلب، والدعم العربي لهذا الموقف، إيران من التواجد واكتساب دور الطرف في الحل. وحقق وفد الإئتلاف الاعتراف به كممثل للشعب، وأجبر النظام على الجلوس معه على قدم المساواة. كما تحقق إنجاز صغير في المباحثات حول الملف الإنساني. ولكن لا شيء آخر تم إنجازه في الجولة الأولى. وإن لم تبدأ الجولة الثانية المفاوضات حول هيئة الحكم الانتقالية، ستكون جنيف الثانية في طريقها لحائط مسدود.
الخوف الآن أن تتحول المباحثات، كما حدث في مباحثات السلام الفلسطيني الإسرائيلي من قبل، إلى مجرد عملية (process)، تنسى معها حقيقة ما يجري بالفعل على الأرض السورية، ويصبح الحرص، بالتالي، على استمرار العملية أهم بكثير من الحرص على وضع نهاية للأزمة وللوضع السياسي الشاذ في سوريا. ثمة ثورة شعبية كبرى شهدتها سوريا، ونظام لم يتورع منذ اليوم الأول للثورة عن ارتكاب أبشع الجرائم ضد شعبه، بما في ذلك استخدام السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة على رؤوس المدنيين وعلى أحياء المدن. خلال ثلاث سنوات، عمل النظام، وبصورة منهجية، على تدمير مقدرات سوريا، مدنها وبلداتها، وسبل الحياة الأولية لشعبها. قتل النظام عشرات الآلاف، واعتقل وعذب وقتل تحت التعذيب أعداداً قد لا يعرف أحد حقيقتها. مثل هذا النظام لا يجب أن يستمر في حكم سوريا.
هل يمكن أن تحقق مباحثات جنيف مثل هذا الهدف؟ الواضح، في ظل موازين القوى الحالية، أنها لن تستطيع. ثمة حاجة ضرورية لوضع نهاية لحال الانقسام والصراعات الداخلية في صفوف الثوار، وأن تصبح كل قوى الثورة المسلحة شريكة في الائتلاف الوطني، وأن تبذل جهود سياسية وعسكرية لتغيير الوضع على أرض المعركة.
بمعنى، أن يشعر النظام وحلفاؤه أن خارطة الصراع لا ترسم لصالحه، وأن لا مناص من التفاوض حول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حياة سوريا وشعبها. بذلك فقط يمكن أن يعلق بعض الأمل على مباحثات جنيف، البعض القليل، ليس إلا.