أسهمت الحرب الإسرائيلية على غزة في إحداث تغيُّرات كبيرة في نظرة المجتمعات الغربية تجاه القضية الفلسطينية، مع تصاعد الانتقادات والاحتجاجات ضد الوحشية والقمع الإسرائيلي في فلسطين.
ومع بوادر استيقاظ الضمير الإنساني لدى الشعوب الغربية، بدأت الرواية والسردية الصهيونية حول القضية بالتلاشي، وظهرت رؤى جديدة تعكس الواقع الفلسطيني بشكل أكثر دقة، وهذا الوعي المتزايد أدّى إلى زيادة الاحتجاجات والفعاليات الداعمة للفلسطينيين في العديد من الدول الغربية، بالإضافة إلى تفاعل قوي على مواقع التواصل الاجتماعي.
وهنا نجد أنه من المهم فهم دلالات هذا التحول في نظرة المجتمعات الغربية على مستقبل القضية الفلسطينية، ومدى تأثير ذلك على السياسات والقرارات الدولية المستقبلية.
موقف شريحة الشباب
وحول تفسير ظاهرة التضامن مع فلسطين الناشئة في الغرب، يقول أستاذ الدراسات الفلسطينية والمتخصص في الدراسات الاستراتيجية محسن محمد صالح، إن الفئات الشبابية في الغرب أخذت منحى أكثر دعمًا لقضية فلسطين، كونها أقل ارتباطًا بالفكر الاستعماري الغربي التقليدي الذي نشأ عليه الجيل القديم، وهي أقل اهتمامًا بالمصالح الغربية المتعلقة بالتعامل مع الكيان الإسرائيلي كقلعة متقدمة للاستعمار الغربي، على عكس كبار السن.
ويضيف صالح في حديثه لـ”نون بوست”، أن شريحة الشباب أصبحت أقل تأثرًا بعقدة الهولوكوست وعقدة “معاداة السامية”، اللتين استخدمهما الصهاينة خلال العقود الماضية.
ويلفت إلى أن الجيل الجديد أصبح يحكم على ما يشاهده من فظائع وجرائم إسرائيلية بشكل منفتح، ومن دون تفسيرات معلّبة، ولا ضمن قيود وحوادث عقلية ونفسية مسبقة كانت تضع الكيان الإسرائيلي في منطقة حقّه في الدفاع عن نفسه، باعتباره بيئة ديمقراطية تدافع عن نفسها وسط متوحّشين وإرهابيين.
وحول دور وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي في تشكيل وجهات النظر الشابّة تجاه الصراع الدائر، يؤكد صالح على أن الشباب هم الفئة الأكثر تفاعلًا وتعاملًا مع وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت، ولديهم القدرة الأكبر على الانفتاح، وبالتالي أخذ اتجاهات غير نمطية أو غير معتادة مقارنة بالفئات الأكبر سنًّا.
ويعتقد صالح أن المسار العام في الغرب يجنح الى التغيُّر الاجتماعي باتجاه دعم أكبر لفلسطين، وإن كان هذا يشهد تحديات كبيرة.
الإطار الشعبي الغربي
وينوّه أستاذ الدراسات الفلسطينية إلى أن الإطار الشعبي الغربي لا يزال حتى الآن يتجه نحو دعم أكبر للجانب الفلسطيني، لكن من المبكّر الحديث عن قدرته للوصول إلى صناعة القرار، حيث إن مراكز صنع القرار لا تزال تصبّ في خدمة دعم الكيان الإسرائيلي ومشاريعه، لكن الإطار الشعبي بدأ يتقدم ويأخذ مواقعه تدريجيًّا داخل الأحزاب والمؤسسات الغربية.
ويوضّح صالح أن التشكيلات الحزبية بحاجة إلى عدة سنوات، حتى تصبح الفئات الشبابية قادرة على أن تكون فاعلة في صناعة القرار، لكن ما يحدث الآن يؤسّس لتغيير مستقبلي متدرّج، وهذا ما ينظر إليه الطرف الإسرائيلي الصهيوني بكثير من القلق والرعب.
ويشترط صالح استمرار وجود المقاومة الفلسطينية المسلحة، والتي يتعامل معها الاحتلال بطريقة وحشية وبربرية تكشف وجهه البشع، لذا يراهن الصهاينة على إيقاف مشروع المقاومة، لأنها تؤدي إلى تآكُل شعبية الكيان الإسرائيلي وتجعله عرضة للضغوط الغربية.
ويحذّر من أن توقُّف المقاومة يعطي الاحتلال فرصة للالتفاف مرة أخرى وسرقة الوعي من جديد، كما حدث بشكل أو بآخر بعد معركة “سيف القدس” قبل سنتَين ونصف، حيث كان هناك دعم كبير للمقاومة، لكن عندما انتهت المعركة عمل الإسرائيليون على محاولة ترميم صورتهم أمام الغرب.
ويستبعد صالح حدوث تغيُّر قريب في السياسة والعلاقات الدولية الخارجية لدى الغرب، لأن شبكات المصالح الغربية حتى هذه اللحظة لا تزال لها قوة داعمة للكيان الإسرائيلي، ولديها ارتباطات اقتصادية وسياسية واستراتيجية مع هذا الكيان.
وكشفت صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني، عن وجود تغيُّر ملحوظ في الرأي العام الغربي، خاصة الولايات المتحدة، حيال “إسرائيل” والفلسطينيين بعد اندلاع حرب غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وأشارت الصحيفة إلى أن 28% من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا يؤيدون الفلسطينيين، مقابل نحو 20% أيدوا “إسرائيل” من هذه الفئة العمرية، وذكرت أن من تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا كانوا أكثر عرضة للتعاطف مع الفلسطينيين 3 مرات أكثر من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا.
دور المجتمع المدني
وعلى خلاف المواقف الحكومية المؤيدة لـ”إسرائيل”، وقفت الكثير من منظمات المجتمع المدني في الدول الغربية ضد الممارسات الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين.
ويشير الخبير في شؤون الأمم المتحدة عبد الحميد صيام، إلى أن المجتمع المدني بدأ يفيق من تأثير الدعاية الإسرائيلية والروايات المزيفة وحملات التضليل، ويقف على الحقيقة، ويصف ما يحدث بأنه مجازر غير مسبوقة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ثم طوّر الخطاب ليتبنّى الكثيرون مصطلح “الإبادة الجماعية”.
ويبيّن صيام في حديثه لـ”نون بوست” أن منظمات المجتمع المدني في الولايات المتحدة وأوروبا نزلت إلى الشوارع بمئات الآلاف، تطالب بوقف إطلاق النار فورًا، والسماح للمساعدات الإنسانية بالدخول بكمّيات تنقذ مئات آلاف المحاصرين تحت القصف، والذين يواجهون خطر المجاعة والجفاف والأوبئة.
وينوّه إلى أن “إسرائيل” اعتقدت أن هذه الاحتجاجات لم تكن سوى موجات تنفيس عن غضب عابر سرعان ما تخمد، لكنها ازدادت ضراوة وحدّة وانتشارًا في كل أرجاء الكون، من سول إلى سانتياغو، ومن سيدني إلى تورنتو ومونتريال، ومن باريس ولندن وبرلين إلى نيويورك وواشنطن وشيكاغو، ومن إسطنبول وأنقرة إلى جاكرتا وكوالالمبور، ومن تونس والجزائر والرباط إلى الإسكندرية وعمّان والكويت وصنعاء وبغداد، وغيرها من مئات المدن في شتى أنحاء المعمورة.
ويرى صيام أن هذه الظاهرة المتعاظمة تتشابه كثيرًا مع ثورة الطلاب في الولايات المتحدة وفرنسا عام 1968، حيث تتحالف اليوم المنظمات الليبرالية وأنصار السلام والعدالة مع اليسار ومجموعات “حياة السود مهمة”، بالإضافة إلى المنظمات اليهودية والعربية والإسلامية، لتخلق حراكًا في الشوارع العالمية شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، لم يجرِ مثله في التاريخ المعاصر.
ويضيف أن الحناجر الغاضبة في الشوارع انضمّ إليها نجوم الغناء والسينما والرياضة والإعلام، ليشكّل الجميع تظاهرة عالمية لنصرة الحق الفلسطيني على الظلم الإسرائيلي، وأصبحت فلسطين وقضيتها الأكثر تداولًا في العالم أجمع.
ويلفت صيام إلى أن الحكومات الغربية اصطفّت في البداية بشكل مطلق وراء السردية الإسرائيلية، ما عدا القلة القلية مثل إسبانيا والسويد، لكن مع انتشار أخبار المجازر ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة خاصة ضد الأطفال، بدأت تظهر الشقوق في الموقف الموحّد للولايات المتحدة وأوروبا وكندا وأستراليا واليابان.
ضمانات استمرار التأييد
يشير صيام إلى أن البث الحي للقنوات الفضائية من الميدان، خاصة قناة “الجزيرة” بشقَّيها العربي والإنجليزي، مع وسائل التواصل الاجتماعي، كان المصدر الأساسي لأخبار المجازر والتدمير والقتل الجماعي، وصور جثث الأطفال المكدّسة في ممرات المستشفيات، ما ساعد في نشر الوعي حول القضية الفلسطينية في المجتمعات الغربية.
وعن الخطوات التي يمكن اتخاذها لضمان استمرار الدعم والاهتمام بالقضية الفلسطينية في المجتمعات الغربية بعد انتهاء الحرب، يؤكد صيام على وجوب استغلال هذه الظاهرة غير المسبوقة والبناء عليها وتنظيمها، كي يصبح هذا الدعم مستدامًا ومتجهًا نحو التوسع أفقيًّا وعموديًّا.
ويقترح صيام اتخاذ جملة خطوات، منها تأطير جيل الشباب في مجموعات متخصصة، واحدة لكل نوع من أنواع وسائل التواصل الاجتماعي، ليكون العمل الإعلامي منظّمًا وأكثر فاعلية، كما دعا إلى تكوين بنك معلومات يضمّ كافة الشخصيات الجذابة المؤثرة التي ساهمت في التصدي للرواية الإسرائيلية وتصنيفها، ليتمَّ تأطير هؤلاء في منصات رقمية جذابة وتفاعلية.
وفي المقابل، يشدد صيام على ضرورة حصر المواقع المؤيدة للدعاية الإسرائيلية، والعمل على تخصيص كفاءات للردّ عليها وتفنيد أقوالها وتقاريرها بالحقائق الدامغة والردود القوية من الخبراء والمختصين.
ويحثّ على تكوين لوبيات ضاغطة، وإنشاء مجموعات ومنصات جديدة، ومنح جوائز خاصة عن كل تقرير أو فيلم قصير أو مقال مؤثر، أو تغريدة حصدت ملايين المشاهدات، أو كتاب عظيم، أو قصيدة أو أغنية انتشر تداولها، فضلًا عن تكوين قائمة كبيرة من المتبرعين والممولين الذين لديهم استعداد لتمويل كل تلك المبادرات.
ويشدد مراقبون على ضرورة إدامة زخم هذا التأييد الشعبي المتزايد في المجتمعات الغربية، والذي لم يتشكّل إلا بعد مئات المجازر التي راح ضحيتها نحو 15 ألف شهيد على مدار الأسابيع الماضية.