إضراب عام في الصباح ومظاهرات في الليل، هذا حال منطقة الريف المغربي منذ اعتقال قوات الأمن الوطني زعيم حراك الريف ناصر الزفزافي وعشرات الناشطين معه، بتهم تتعلق بالمساس بأمن الدولة الداخلي، على إثر مشاركتهم وقيادتهم للاحتجاجات التي تعرفها المنطقة منذ سبعة أشهر، مما أحرج الحكومة المغربية والمؤسسة الملكية وجعلها محلّ انتقاد داخليًا وخارجيًا، حتى إن البعض قال إن التعامل الأمني مع حراك الريف قد عجّل بانتهاء “الاستثناء المغربي”.
إضراب عام ومسيرات ليلية
لليوم الثالث على التوالي، تشهد مدينة الحسيمة وبعض المدن المجاورة لها على غرار مدينتي أمزون وبني عياش إضرابًا عامًا، شمل جميع مرافق الحياة باستثناء بضع صيدليات ومتجر مدينة الحسيمة الكبير، حتى يتمكّن سكان المدينة من التسوّق قبل الإفطار في شهر رمضان.
ويهدف الإضراب العام المتواصل لمدن الريف المغربي للضغط على سلطات المملكة من أجل الإفراج عن ناشطي الحراك في مقدمتهم ناصر الزفزافي الذي يقود الحراك منذ أكتوبر 2016، وكان الزفزافي، قد أوقف صباح الإثنين بتهمة “المساس بسلامة الدولة الداخلية”، ومنذ صدور مذكرة التوقيف بحقه الجمعة الماضية شهدت مدينة الحسيمة التي يقطنها 65 ألف نسمة والعديد من المدن في الشمال المغربي حالة من الغليان.
قاطع مواطنون في مدينة الحسيمة وبقية مدن الريف، المساجد في صلاة جمعة أمس، استجابة لدعوات سابقة بالمقاطعة
وتزامنًا مع الإضراب العام الذي تشنه مدن الريف منذ عصر الخميس، خرجت مسيرات ليلية عقب صلاة التراويح مباشرة للمطالبة بإطلاق سراح الزفزافي وباقي المعتقلين والتنديد بسياسة الاختطاف التي تعتمدها سلطات بلادهم حسب قولهم، وأطلق المتظاهرون هتافات “يا مخزن حذار كلنا ناصر الزفزافي”، “هي كلمة واحدة، هذه الدولة فاسدة”، “الشعب يريد إسقاط الفساد”، “كفى عسكرة” وهتافات أخرى، وكتب على إحدى اللافتات التي رفعها أحد المحتجين “اعتقلونا، نحن كلنا نشطاء“، كما تم رفع صور زعيم الحراك في مقدمة كل مسيرة شهدتها مدن المنطقة، حسب ما أوضحته العديد من الفيديوهات المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
مسيرة ليلية في الحسيمة
إضافة إلى ذلك، قاطع مواطنون في مدينة الحسيمة وبقية مدن الريف، المساجد في صلاة جمعة أمس استجابة لدعوات سابقة بالمقاطعة، بعد تخصيص أحد الجوامع المحلية في الحسيمة موضوع خطبة الأسبوع الماضي لما وصفه بـ”الفتنة”، وكانت خطبة الجمعة الماضية التي تحدث فيها الخطيب عن الفتنة، أثارت غضب شباب الحراك، مما دفع الزفزافي إلى مقاطعة خطيب الجمعة، قبل أن يتم اعتقاله بداية الأسبوع الحالي، وأبعدت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إمام مسجد محمد الخامس، الذي ألقى الخطبة الجمعة الماضية، واستقدمت خطيبًا آخر ألقى خطبة الجمعة عن الصيام ودوره في التربية.
اشتباكات في أمزورن
لئن لم تشهد المسيرات التي جابت شوارع الحسيمة وبني عياش ومدن أخرى أعمال عنف تذكر، فقد عرفت المظاهرة التي شهدتها مدينة أمزورن التي تبعد نحو 15 كلم عن شرق الحسيمة، إثر صلاة الجمعة أمس، بعض أعمال العنف، فقد عمدت قوات الشرطة المغربية إلى تفريق المتظاهرين باستخدام مدافع المياه بعد أن تم رشق بعضهم بالحجارة والقمامة حسب أعوان الشرطة الموجودين هناك.
وسجّل ناشطون في أمزورن استمرار إقامة الشرطة المغربية لحواجز في مدخل المدينة وداخلها لمنع الناس من التجمع أو المجيء من البلدات المجاورة للتظاهر، الأمر الذي زاد من حدّة التوتر في صفوف سكان المدينة المتضامنين مع الحسيمة.
ارتفاع عدد المعتقلين
مع ارتفاع حدّة المظاهرات، ارتفعت حصيلة الاعتقالات في صفوف المحتجين أيضًا، فبحسب آخر حصيلة رسمية، اعتقلت الشرطة منذ الجمعة 40 شخصًا، مستهدفة أساسًا قادة الحراك الذي يطالب بالتنمية وبتحسين ظروف العيش وامتصاص البطالة ومكافحة الفساد المستشري في البلاد، وأعلنت السلطات المغربية أنه تمت إحالة 25 آخرين إلى النيابة بتهم تتعلّق بالمساس بالسلامة الداخلية للدولة، وأفعال أخرى تشكل جرائم بمقتضى القانون.
وبدأت جلسات محاكمتهم الثلاثاء وتم تأجيلها إلى 6 من يونيو الحالي بطلب من محاميي المتهمين الذين أبدوا قلقهم إزاء سوء المعاملة في أثناء التوقيف، فيما تمّ الإفراج عن 7 من الموقوفين في انتظار المحاكمة، و7 آخرين دون توجيه أي اتهام لهم.
تخوف في المغرب على مصير المعتقلين
وأشارت تقارير إعلامية محلية ودولية، إلى عدم تمكّن المحامي سعيد بنحماني، نائب رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، من زيارة ناصر الزفزافي في مقر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية في الدار البيضاء، نظرًا لأن الضابط الممتاز الذي يحقق معه تقدم بطلب للوكيل العام في الحسيمة لإرجاء اتصال المحامين به إلى ما بعد مرور 30 ساعة على انتهاء المدة الأصلية للحراسة النظرية، التي انتهت أمس الجمعة الساعة الثالثة.
بدوره قال أنور البلوقي، المحامي في هيئة الدفاع عن المعتقلين في حراك الريف، خلال ندوة صحافية في مدينة طنجة مساء أول أمس الخميس: “الدفاع لا علم له بمصير ناصر الزفزافي، ولا ندري أي شيء عن وضعه الصحي”، وأكد البلوقي أن الدولة باشرت سياستها في الحسم الأمني لقضية اجتماعية في كل تفاصيلها، في إشارة إلى الطريقة التي تعاملت بها الدولة مع الحراك الشعبي بالريف، حيث أقدمت على اعتقال عدد كبير من النشطاء.
انتهاء “الاستثناء المغربي”
أمام استمرار المقاربة الأمنية الذي فرضته السلطات لمحاولة تطويق ما أصبح يعرف بـ”حراك الريف”، وغياب لغة الحوار وتجاهل الحكومة مطالب المحتجين رغم مرور أكثر من 7 أشهر على هذه الاحتجاجات، يؤكّد العديد من المراقبين، أن هذه مؤشرات عودة الاستبداد في المملكة، مما يؤكّد أن قوس الربيع المغربي قد أغلق، وأن الوقت قد حان لتصفية تركة ستّ سنوات من الاستثناء المغربي.
لم تكن هذه الاحتجاجات التي يعرفها الريف المغربي الأولى من نوعها، فقد عرفت المنطقة بعض الاحتجاجات الاجتماعية في عهد العاهل الراحل الملك الحسن الثاني
وأدى مقتل بائع السمك الشاب محسن فكري سحقًا داخل شاحنة نفايات، إلى أحد أكبر الاحتجاجات على مستوى المملكة المغربية منذ عام 2011 عندما نظمت حركة 20 من فبراير مظاهرات تطالب بالإصلاح الديمقراطي مستلهمة انتفاضات الربيع العربي التي اندلعت في مختلف أرجاء المنطقة، وأصدرت الغرفة الجنائية بمحكمة الاستئناف في الحسيمة، نهاية الشهر، أحكامًا وزعت بين البراءة والسجن النافذ في حق 11 متابعًا في ملف ما عرف بـ”بائع السمك”.
ولم تكن هذه الاحتجاجات التي يعرفها الريف المغربي الأولى من نوعها، فقد عرفت المنطقة بعض الاحتجاجات الاجتماعية في عهد العاهل الراحل الملك الحسن الثاني الذي قمع بشدة ثورة في الريف في عام 1958 وكان آنذاك وليًا للعهد، كما انتفضت المنطقة في احتجاجات اجتماعية في عام 1984 إلى جانب عدد من مناطق المغرب.
إدانة داخلية ودولية
حمّلت أحزاب مغربية وزارة الداخلية مسؤولية التصعيد الذي تشهده مدينة الحسيمة شمالي المغرب، مطالبة بالإفراج الفوري عن جميع معتقلي الحراك الاجتماعي دون قيد أو شرط، مع رفض المقاربة الأمنية للأزمة، وحمّل كل من حزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي في بيان مشترك الدولة مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع بالمنطقة بسبب ما أسمته تبخيس دور الأحزاب الوطنية وإفساد الحياة السياسية، ورفضت الأحزاب الثلاثة المقاربة الأمنية التي تنتهجها الدولة حيال المنطقة، داعية إلى تحقيق مطالب السكان الاقتصادية والاجتماعية التي عبر عنها الحراك الاجتماعي، مشيدة بما سمته الروح الوطنية التي تتحلى بها ساكنة الإقليم خلال الأشكال الاحتجاجية.
أدانت منظمة مراسلون بلا حدود، ما وصفته بـ”الانتهاكات” التي تطال الصحفيين الراغبين في تغطية المظاهرات التي تشهدها منطقة الريف
ومن أبرز المطالب الملحة للجهة، الإسراع بالكشف عن مآل التحقيق في ملف وفاة محسن فكري، والإفراج عن المعتقلين على خلفية الأحداث الأليمة التي أعقبت احتجاجات إمزورن وبني بوعياش وإعطاء الأولوية للمطالب ذات الطبيعة الاجتماعية المتعلقة بالصحة والتعليم والتشغيل عبر خلق مؤسسة جامعية ومستشفى للسرطان، وخلق فرص للشغل عبر تقديم تحفيزات وامتيازات ضريبية للمستثمرين، حسب المحتجين.
الإدانة لم تكن من داخل المغرب فقط، بل كانت من الخارج أيضًا، حيث عبّرت منظمة العفو الدولية عن قلقها بشأن حملة الاعتقالات المروعة التي تعرض لها عشرات المتظاهرين والناشطين والمدونين، معربة عن خشيتها من أن تكون هذه الحملة الواسعة من الاعتقالات محاولة متعمدة لمعاقبة المتظاهرين في الريف بسبب شهور من المعارضة السلمية.
وقالت المنظمة إن بعض المحتجزين حُرموا من الوصول الفوري إلى محاميهم لدى مركز الشرطة، كما لاحظ المحامون الذين تمكنوا من رؤية موكليهم في المحكمة في مدينة الحسيمة، أنهم يحملون آثار جروح واضحة ويزعمون أنهم تعرضوا للضرب والإهانة عند القبض عليهم، متحدثة عن أن عدد المعتقلين ما بين 26 و31 من مايو 2017 لا يقل عن 71 شخصًا.
وطالبت المنظمة من السلطات المغربية احترام الحق في حرية التعبير والتجمع، وعدم حرمان المتهمين بارتكاب جرائم معترف بها قانونًا من الحق في محاكمة عادلة، وضمان عدم إدانة الناشطين السلميين بتهم ملفقة عقابًا لهم على المشاركة في الاحتجاجات في الريف.
منظمات دولية تدين التعامل الأمني مع احتجاجات الريف
بدورها، أدانت منظمة مراسلون بلا حدود، ما وصفته بالانتهاكات التي تطال الصحفيين الراغبين في تغطية المظاهرات التي تشهدها منطقة الريف، متحدثة عن أنها وثَّقت حتى الآن ما لا يقل عن اعتقالين اثنين وثلاث حالات اختفاء، مشيرة إلى أن الصحفيين والمواطنين الصحفيين يجدون أنفسهم مستهدفين من قبل السلطات المحلية، وأشارت المنظمة إلى اختفاء كل من محمد الأسريحي وجواد الصبري وعبد العلي حدو، وهم صحفيون ونشطاء إعلاميون في مواقع محلية، خوفًا من اعتقالهم ومحاكمتهم، بينما ألقي القبض على حسين الإدريسي وفؤاد السعيدي، وأثارت المنظمة مخاوف بشأن إمكانية توجيه تهم جنائية لهما في سياق لا علاقة له بأنشطتهما الصحفية، زيادة على إشارة المنظمة إلى طرد مراسل صحيفة الوطن الجزائرية، جمال عليلات من المنطقة في أثناء تغطية كان يقوم بها.
وأقدمت السلطات المغربية، الإثنين، بطرد صحفيًا جزائريًا كان يغطي احتجاجات الريف، بدعوى إجراء تغطية صحفية دون الحصول على إذن مسبق من السلطات المعنية، ويتعلّق الأمر بالصحفي في جريدة الوطن الجزائرية الناطقة بالفرنسية، جمال عليلات، وقد كان الصحفي المذكور يغطي احتجاجات في الناظور، نظمها نشطاء تضامنًا مع المعتقلين في مدينة الحسيمة، واعتقل ليلة يوم الأحد 28 من مايو.
جزاء التمرّد على النظام المركزي
ما تشهده منطقة الريف من احتجاجات يؤكّد توتر العلاقة بينها وبين السلطة المركزية في المغرب، وكان الريفيون بقيادة عبد الكريم الخطابي قد سعوا سنة 1921 إلى تكوين جمهورية مستقلة، ثم شهدت المنطقة انتفاضات عدة ضد الحكم المركزي المغربي، أبرزها ثورة الريف خلال سنة 1959، التي تعرضت للقمع الشديد، وقد استغل الملك الحسن الثاني تلك الانتفاضة كذريعة لفرض قواعد عسكرية في هذه المنطقة المتمردة وتحييدها، ومنذ ذلك الوقت وهي تعاني التهميش السياسي والاقتصادي.
كما تعدّ مدينة الحسيمة مركز الاحتجاجات التي تعرف “بانتفاضة الخبز” عام 1984، وكانت المدينة الوحيدة التي وقع فيها قتلى في احتجاجات حصلت في سنة 2011، ويقول بعض المتابعين لتطور الأوضاع في جهة الريف: “هذه التحركات تعتبر امتدادًا لنوع من العداء السافر عبر فترات مختلفة من تاريخ المملكة المغربية يعود بعضها إلى نهاية القرن التاسع عشر، بين السلطات المخزنية ووجهاء القبائل ذات الأصول الأمازيغية في جهة الريف والتي أعلنت في أكثر من مرة العصيان والتمرّد على السياسة المخزنية”.