قامت العملية السياسية بالعراق لفترة ما بعد 2003، على أسس رسمها الاحتلال الأمريكي، ثم جاء بعده الاحتلال الإيراني ليهلل لها ويدفع بأتباعه للانخراط، ذلك لأنها علمت مبكرًا أن العملية السياسية الملغمة الجارية في بغداد، يمكنها أن تحقق لها أغراضها وأطماعها في العراق، بالقدر الذي لم تستطيع تحقيقه خلال ثماني سنوات من الحرب الطاحنة معه في ثمانينيات القرن الماضي.
ومع ذلك وبعد انقضاء أربع عشرة سنة على التغير الحاصل بالعراق، نجد الجميع الآن يقرّون بفشلها، وينتهون إلى حقيقة أن من المستحيل المضي بهذه العملية السياسية وفق ما رسمه الاحتلال وهللت له إيران، فنجد الجميع الآن يتهيأ لمرحلة ما بعد داعش، الكتل الشيعية تصدر المبادرة تلو المبادرة لإصلاح العملية السياسية، والأطراف السنية المشاركة بالحكومة يحاولون لملمة شتاتهم بمؤتمر تلو المؤتمر لتوحيد صفهم أمام المارد الإيراني وأذنابه بالعراق، أما الأحزاب الكردية، وبعد أن لعبوا كثيرًا على التناقضات الشيعية السنية، فإنهم يعتقدون أن الفرصة حانت لإعلان استقلالهم.
تفاقم الصراعات بين الفرقاء السياسيين بعد مرحلة داعش
ومن النتائج الحتمية التي توقعناها لهذه العملية السياسية، اندلاع الصراعات السياسية وربما حتى العسكرية بين الفرقاء السياسيين في العراق، وأن ساعة الصفر لبدئها هو الإعلان الرسمي لهزيمة داعش بالموصل، فالخلافات الشيعية الكردية على تقاسم تركة داعش في الموصل وديالى وصلاح الدين، بدأت تطفوا على السطح، والخلافات الشيعية – الشيعية على زعامة هذا المكون تتضح معالمها أكثر وأكثر، ثم الخلافات الكردية – الكردية الذين انقسموا لطرف موالٍ لإيران وأجندتها في العراق، وطرف موالٍ لتركيا، وكل طرف يحلم بزعامة كردستان المستقلة مستقبلاً.
الأطراف السنيَّة فهي الأخرى منقسمة على نفسها، فمنها من انخرط بالمشروع الإيراني ووصل إلى قناعة بأن هذا الخيار نابع من الإيمان بالواقعية السياسية
أما الأطراف السنيَّة فهي الأخرى منقسمة على نفسها، فمنها من انخرط بالمشروع الإيراني ووصل إلى قناعة بأن هذا الخيار نابع من الإيمان بالواقعية السياسية التي تقول إن إيران من تتحكم بمصير العراق ولا بديل للسنَّة من الإقرار بهذه الحقيقة إذا ما أرادوا أن يعيشوا بسلام في العراق، ومنهم من يعوّل على الدول الخليجية لإقامة التوازن بالعراق أو على الأقل الحصول على إقليم منفصل للسنَّة في الموصل والأنبار، تاركين خلفهم السنَّة في ديالى وصلاح الدين وباقي المناطق لقمة سائغة لذئاب إيران، فهم منهمكون بعقد المؤتمرات الواحد تلو الآخر، وجديد مؤتمراتهم يلغي مقررات قديمها.
صدق وهو الكذوب
نهاية داعش في الموصل نقطة فاصلة في تاريخ العراق، لأنها تعني إعلان لنهاية صراع وبداية صراع جديد، حيث كل الأطراف المختلفة تعد العدة له للحصول على حصتها من الكعكة العراقية، ويتأملون بتغير الخارطة الجغرافية والسياسية للبلد، الأمر الذي يستدعي صراعًا كبيرًا بين الأطراف السياسية المختلفة، بل وبين الطرف السياسي الواحد مع نفسه.
يقول المالكي: “من المتوقع أن تعطل أمريكا الانتخابات القادمة، الأمر الذي سيخلف حالة فراغ دستوري، يتم بعدها تشكيل حكومة مؤقتة بقيادة العبادي أو بغيره، ومن خلالها يتم إقصاء الأطراف السياسية التي لا ترتضي بالنفوذ الأمريكي”
كما من المرجح أن يشتد الصراع الإيراني الأمريكي، وما الاستشرافات التي جاء بها نوري المالكي إلا دليل على ما يمكن أن تفعله أمريكا في العراق، وما قد يكون رد الفعل الإيراني ضدها، وقد صدق وهو الكذوب، فيقول المالكي: “من المتوقع أن تعطل أمريكا الانتخابات القادمة، الأمر الذي سيخلف حالة فراغ دستوري، يتم بعدها تشكيل حكومة مؤقتة بقيادة العبادي أو بغيره، ومن خلالها يتم إقصاء الأطراف السياسية التي لا ترتضي بالنفوذ الأمريكي، وترتيب العملية السياسية الجديدة بشخصيات محسوبة على التيار العلماني أو التي تحظى بالرضى الأمريكي.
وكلام المالكي ينطوي على مصداقية عالية، على غير ما عهدناه، ربما بسبب رؤيته لنهاية الحقبة التي حكم بها العراق هو ورفاقه، لذلك نرى الآن الكثير من السياسيين الحاليين وفي محاولة منهم لتأهيل أنفسهم للمرحلة المقبلة، ينزعون ثوب التديّن الذي يلبسونه، ويلبسون ثوب العلمانية الذي يتوافق مع متطلبات المرحلة المقبلة.
الصراع الدائر بين الكتل الشيعية إلى ماذا سيفضي؟
المراقب للكتل السياسية الشيعية يرى أنها شيئًا فشيئًا تتمايز إلى فريقين، أولهما موالٍ للولي الفقيه في طهران، والثاني يحاول أن يغازل الأمريكي القادم للعراق بكل قوته، وعلى ما يبدو أن المرحلة التي كانت جميع الأطراف الشيعية تتوحد على رأي “علي خامنئي” قد ولَّى زمانها، وأن هناك من التيارات الشيعية من يجاهر بمخالفة إيران ويرى وجوب حل مليشيا “الحشد الشعبي” ويصفها بأقسى الأوصاف، مثل التيار الصدري، وبعض الكتل الشيعية من يقترح دمج جزء من الحشد في الجيش والشرطة، وحل الباقيين، وهذا الطرح ولحد وقت قريب كان يعتبر من المحرمات، وكانت كل عبارات القدسيّة والتبجيل تُطلق على عناصر هذه المليشيا، لكن المواقف بدأت تتغير بسرعة تتناسب مع سرعة حسم ملف داعش بالمنطقة.
كثير من الشيعة متجهة الآن إلى رجل الدين الشيعي “علي السيستاني” وإذا ما سيُقدم على حلّ الحشد الشعبي بفتوى منه مشابهة لفتوى إنشائه قبل ثلاث سنوات
لكن أنظار كثير من الشيعة متجهة الآن إلى رجل الدين الشيعي “علي السيستاني” وإذا ما سيُقدم على حلّ الحشد الشعبي بفتوى منه مشابهة لفتوى إنشائه قبل ثلاث سنوات، والتسريبات تقول إن السيستاني سيُقدم على حلّ الحشد حالما ينتهون من موضوع الموصل، وإذا أقدم السيستاني على مثل هذه الفتوى، فإنه ربما سينقذ الشيعة من وصمة العار التي لحقت بهذا المذهب، بسبب ما اقترفته أيادي عناصر هذه المليشيا بحق العراقيين، إلا أن بنفس الوقت ستفتح الفتوى المرتقبة، الطريق لصراع جديد، وهذه المرة بين مقلدي السيستاني ومقلدي خامنئي في مليشيات الحشد الشعبي، حيث سيرفض مقلدي الخامنئي هذه الفتوى ويقولون إنها لا تعنيهم، ذلك لأنهم من مقلدي الخامنئي وليس السيستاني.
كما من المرجح أن تكون الحكومة العراقية بقيادة العبادي والمدعومة أمريكيًا، بصف جناح السيستاني ضد أعوان إيران من المليشيات والأحزاب، فهل ستندلع حرب مليشياوية بوسط وجنوب العراق؟ ربما حادثة الاقتتال التي حدثت في شارع فلسطين بوسط بغداد، بين مليشيا “عصائب أهل الحق” والشرطة الاتحادية، تعطي لنا الإجابة عن هذا السؤال.
الكتل السنية.. أين هي من هذه الأحداث؟
من المؤكد أن الخلافات بين الكتل السياسية السنيَّة – السنيَّة، لن ترتقي لحالة اقتتال فيما بينهم مثلما هو متوقع للفرقاء الشيعة، ليس لأنهم أكثر حكمة، بل بسبب عدم امتلاكهم كيانات مليشياوية عسكرية يقتتلون بها، فالصراع بينهم سيبقى سياسيًا ليس أكثر، وهذا من رحمة ربي بهذا المكون المنكوب.
السياسيين العرب السنَّة أمام فرصة تاريخية من الممكن أن يستغلوها لخدمة مكونهم، والخروج بهم من المصائب التي حلَّت بهم، فاللعب على التناقضات القائمة بين الطموحات الإيرانية والأمريكية في العراق سوف تمكّنهم من نيل مطالبهم بالدرجة التي تحقق بقائهم وعدم اندثارهم وتحويلهم إلى أقلية صغيرة في وطنهم
ومن المرجح أن تلك الخلافات لن يصلوا بها لحلول وسط، ذلك لأن كل طرف قد ارتضى لنفسه المضي بطريقٍ مناقضًا للآخر، إضافة لغياب الراعي الذي يستطيع أن يلمَّ شتاتهم، لكن المؤتمرات التي تُعقد في كثير من العواصم العالمية وتحت الرعاية الأمريكية، ربما ستكون الأساس الذي يجمع شتاتهم، كما فعل الأمريكان سابقًا مع الفرقاء المتخاصمين الأكراد في فترة التسعينيات من القرن الماضي.
إن السياسيين العرب السنَّة أمام فرصة تاريخية من الممكن أن يستغلوها لخدمة مكونهم، والخروج بهم من المصائب التي حلَّت بهم، فاللعب على التناقضات القائمة بين الطموحات الإيرانية والأمريكية في العراق سوف تمكّنهم من نيل مطالبهم بالدرجة التي تحقق بقائهم وعدم اندثارهم وتحويلهم إلى أقلية صغيرة في وطنهم، لكن ما يحول دون ذلك وضياع تلك الفرصة التاريخية، هي الخلافات والنظرة الضيقة للأمور وتغليب المصالح الشخصية للقادة السياسيين العرب السنَّة.
فخ الدولة الكردية المستقلة
أما ما يخص الشغل الشاغل للأطراف السياسية الكردية في شمال العراق، فهو التنافس الحاصل بينهم على من يكسب الفخر التاريخي في إعلان الدولة الكردية المستقلة، وتحول هذا الشعار الكردي من حلم كردي قديم يتوق لتحقيقه الأكراد، إلى مادة دعائية يتنافس السياسيون الأكراد في رفع شعاره، ورغم أن هؤلاء السياسيين أعلم من غيرهم باستحالة تحقيقه، يصعُب عليهم التراجع عنه وإلغاء مواقفهم التي أعلنوها بصدده، ذلك لأن أساس الأيدلوجيا التي بُنيت عليها أحزابهم، هي الأيدلوجية القومية وحلم تحقيق الدولة القومية الكردية، حتى لو كان ذلك الأمر على حساب مصالح المواطن الكردي.
الإصرار الكردي بإجراء الاستفتاء سيتم تنفيذه، لكي تظهر تلك الأحزاب للشعب الكردي، بأنها قد أبرَّت بوعدها لهم
إن الإصرار الكردي بإجراء الاستفتاء سيتم تنفيذه، لكي تظهر تلك الأحزاب للشعب الكردي، بأنها قد أبرَّت بوعدها لهم، ولكن ماذا بعد إجراء الاستفتاء؟ من المرجح أن لا شيء بعده، ولن تكون هناك إجراءات تجاه الاستقلال، وأقصى ما يمكن للساسة الأكراد فعله، الضغط على الحكومة العراقية للحصول على المزيد من المكاسب المادية والسياسية وليس أكثر من هذا، لأنهم يعلمون جيدًا أن لا إرادة دولية متوفرة حاليًا لتدعم انفصال الأكراد عن العراق.