من بداية معرفة الإنسان واستقلاله الفكري صغيرًا يبدأ بتساؤلات فكرية على قدر سنه وما يتلقاه من والديه وحياة المجتمع من حوله، وهذا ما يميز هذا المخلوق الإنساني عن بقية المخلوقات الأخرى، فكانت الرسالات السماوية تخاطب هذا الفكر وتطرح عليه التساؤلات الفكرية لتقوده إلى حقيقة وجوده وعجزه أحيانًا، وأنه مخلوق قد أرسل إليه الخالق الرسل لإخراجه من الانحراف الفكري ومن التمادي في تعظيم نفسه أو جعلها إله، فكان من الضروري العناية بهذا الجانب الفكري والحفاظ على استقامته كما أراده الله وجاءت به الرسل.
عندما تسأل المسلمين اليوم عن سبب الصراع الدائر بينهم والانحرافات والإقصاءات، وفتح باب حمام الدم على مصراعيه الذي لا يستثني أحدًا حتى المسلم الذي لا شك في إسلامه وتوحيده لله، ستجد الإجابة بالإجماع من كل الأطراف أن السبب هو الصراع الفكري
فنحن اليوم أحد ضحايا التفريط في هذا الجانب الفطري ليس في حياة المسلم فقط بل في حياة الإنسان بشكل عام، فعندما تسأل المسلمين اليوم عن سبب الصراع الدائر بينهم والانحرافات والإقصاءات، وفتح باب حمام الدم على مصراعيه الذي لا يستثني أحدًا حتى المسلم الذي لا شك في إسلامه وتوحيده لله، ستجد الإجابة بالإجماع من كل الأطراف أن السبب هو الصراع الفكري، ثم تتساءل عن سر هذه الغفلة عن الجانب الفكري من حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكيف لم يأخذ هذا الجانب القدر الكافي من الساحة الإسلامية على مر السنين.
لتكتشف أن السبب هو نفس السبب الذي سبق الإسلام وكل الأديان ثم عاد بعد ذلك إلى ما بعد الخلفاء الراشدين، ولعل إثبات بداية ذلك الخلل وإثبات ودليل مشروعية مراعاة الفكر وصناعته والدعوة إليه كلها في حديث واحد “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي”، وهذا دليل قاطع أن السنة هنا إدارية فكرية تتجدد مع الزمن والحدث، تُبنى على منهجيته – عليه الصلاة والسلام – في الإدارة والدعوة وحمل الرسالة وكل شؤون ومتغيرات الحياة، فإن حملته على الجانب التعبدي مثلًا كالزيادة والنقص في الصلاة فكأنك بهذا تقول إن الرسول لم يبلغ الرسالة كاملة أو إنهم كانوا يتلقون الوحي بعده.
والدلالة الأخرى هي تحديده لهؤلاء الأربعة الذي يقودك للتفكير فيما حدث بعدهم، وكيف أن الأمر أصبح متغيرًا تغييرًا جذريًا يهمش باب التجديد الفكري والإداري والخوض فيه، فأغلقنا تدريجيًا باب الفكر واقتصرنا السيرة النبوية على الجانب التعبدي وعلاقة الفرد بربه والفرد مع الفرد الآخر، حتى وصلنا إلى مرحلة يتهم فيها المفكر الإسلامي في بعض البلدان بأنه خارجي، وأن باب الفكر الذي خاطبنا الله به في القرآن وحاج به الرسل البشر يقود للكفر والإلحاد.
فتجد اليوم من غالبته فطرته الفكرية من المسلمين يتجه إما إلى أقصى اليمين فيكفر ويقتل، أو يتجه إلى أقصى اليسار ليقل دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله أو يخرج بالكلية عن دائرة الإسلام.
كان ضروريًا أن نعود إلى الجانب الفكري من حياة الرسول عليه الصلاة والسلام والذي هدى الله إليه الكاتب مهنا الحبيل في كتابه “فكر السيرة”، فما إن تنظر للعنوان قبل اقتناء الكتاب إلا ويرشدك إلى جانب قد لا تعرفه وهي السيرة النبوية الفكرية التي لا تقل أهمية عن باقي سيرته
لذا كان ضروريًا أن نعود إلى الجانب الفكري من حياة الرسول عليه الصلاة والسلام والذي هدى الله إليه الكاتب مهنا الحبيل في كتابه “فكر السيرة”، فما إن تنظر للعنوان قبل اقتناء الكتاب إلا ويرشدك إلى جانب قد لا تعرفه وهي السيرة النبوية الفكرية التي لا تقل أهمية عن باقي سيرته، بل ربما لا تتحقق باقي السيرة بشكل كامل دون معرفتها، مما جعل الكتاب مميز ومطلب لكل من لديه توهان فكري نتج عن هذا الإرث الضخم بعد الخلفاء الراشدين.
فتجد أن الكاتب في هذا الكتاب لم يبدأ منذ نهاية الرسول عليه الصلاة والسلام كما يبدأ كتاب السيرة الأخرى، فقد بدأ من الصراع الفكري لدى هذا الإنسان نفسه قبل نبوته والصراع الفكري في مجتمعه وأرضه والإرث الفكري الذي خلفته الأديان المحرفة في عهده، لتكتمل الصورة لدى القارئ في فهم فكر الرسول عليه الصلاة والسلام الذي قاده للعمل والفعل، فلا يمكن فهم الفعل دون معرفة الفكر الذي قاد الفاعل للفعل نفسه.
فيكمل تدريجيًا بشكل دقيق في حياة هذا الرجل بعد نزول الوحي عليه، مع الإشارة إلى أهمية أمر مختلف لم يكن في الأديان الأخرى وكان خاص بمحمد عليه الصلاة والسلام أنه خاتم الرسل فلا رسل بعده، فلا بد أن يكون هذا في الحسبان مع أي تصرف أو تشريع يقوم به الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان هناك تركيز من الكاتب على هذا الأمر في كل قضية تم طرحها وعلى المساحات التي تركها الرسول عليه الصلاة والسلام لتكن محلًا للتجديد يتوافق مع متغيرات الزمان والمكان.
كما وضع نصب عين القارئ الهدف الأساسي والمهمة الرسمية للرسول عليه الصلاة والسلام وهي إبلاغ الرسالة لإخراج الناس من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق ومن الظلم إلى العدل والمساواة ومن الحرب إلى السلم فتحديد الهدف “البلاغ” يساعد على تحقيقه واختيار أسهل الطرق إليه.
استطاع الكاتب أيضًا إبراز الجانب المدني والحياتي والعقد الاجتماعي والحضاري والسياسي من صلب الرسالة التي تدعو للتوحيد
فشرع الكاتب في إيضاح تلك الطرق والوسائل والوقوف عند كل منها على حده، وكيف كان فكره وخطواته وخطابه عليه الصلاة والسلام منفردًا ثم مع أفراد قلة ثم مع جماعة ثم مع حلف لبناء دولة ثم في دولة ضعيفة ثم دولة قوية، فلم يكن فكره في كل جزء من الأجزاء هو نفس الفكر في الجزء الثاني، فلم يفكر بفكر الأفراد وهو فرد واحد ولا بفكر المجموعة وهم أفراد ولا بفكر الدولة وهم مجموعة ولا بفكر الدولة القوية ودولته ما زالت ضعيفة، فكان لكل خطوة فكر ووسيلة تعتمد على المحيط الذي يعيشه والإمكانات المتاحة له في حينها والتي تتحقق بها المهمة الرسمية “البلاغ”.
واستطاع الكاتب أيضًا إبراز الجانب المدني والحياتي والعقد الاجتماعي والحضاري والسياسي من صلب الرسالة التي تدعو للتوحيد وصرف العبادة لله وحده، وأن الأمرين مرتبطين ببعض في سيرته عليه الصلاة والسلام، وكيف أن الإسلام مشروع للحياة يقف جنبًا لجنب مع العبادة الخالصة لله، وهنا يتجدد فكر القارئ عن الإسلام عما كان يدرس سابقًا في حكر مفهوم الإسلام على الجانب التعبدي أوالتطرف دون التفكير.
كما أبرز أحد أهم الصراعات في التاريخ إلى اليوم وهي المرأة ومكانتها في الإسلام، وجانبها الحقوقي الذي كثر الحديث عنه والجدل فيه وكيف كانت عنصرًا فعالًا في ذلك الوقت تقوم بكل مهامها التي تتوافق مع فطرتها وقدراتها.
حتى انتهى الكاتب بعد ذكر وتبيان كل ذلك تفصيليًا والذي لم يتسع المقام لذكره كله أو غيره مما فاتني أن أذكره، إلى تمام إبلاغ الرسالة من الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه المدة القصيرة ليكون الحدث العظيم بوفاته عليه الصلاة والسلام ووصاياه الأخيرة واستلام باقي البشر مسؤولية المهمة “البلاغ” بعده.
الإسلام رسالة خالدة وعقد اجتماعي ثقافي وحضاري وحقوقي وتعبدي في نفس الوقت
ولا أستطيع أن أكتب أفضل مما كتب المؤلف أو أعلق على بعض محتويات الكتاب، ولكن أستطيع أن أقول إن فيه حلقة وصل تجمع لليمين المتطرف التوهان الفكري الذي جعله منغلقًا ومغلقًا لكل المساحات المتروكة المرنة، التي تجعل الرسالة الإسلامية رسالة خالدة صالحة لكل زمان ومكان، والذي جعل منه حجة لأقصى اليسار على الإسلام الذي قال إنه لا يتوافق مع متغيرات العصر والحضارة وإنه خطاب لقوم في وقتهم قد فنوا.
وسيجد أيضًا هذا اليسار حلقة وصل لتوهانه الفكري ليكتشف أن الإسلام رسالة خالدة وعقد اجتماعي ثقافي وحضاري وحقوقي وتعبدي في نفس الوقت، ففي الصلاة وحدها فقط عبادة وثقافة اجتماعية وعلم يقود للحضارة فتحديد وقتها واتجاهها مثلًا يجعل المسلم يسعى لاكتشاف علم الفلك وما تخفي السماء من علوم، وغيرها كثير كالزكاة والنظام المالي إلى آخره.
وسيجد أيضًا من يصف نفسه بالمعتدل في هذا الكتاب حلقة وصل لتوهانه الفكري الذي أنتج النقيضين السابقين، فلو أنه فقه السنة النبوية الفكرية لما وصل إلى ما وصل إليه الآن فلو حلف دهرًا وبرر دهرًا آخر للنقيضين السابقين ليرونه معتدلاً فلن يفلح في ذلك.