في حي الدرج وسط مدينة غزة، يقع “المسجد العمري الكبير” أحد أبرز المعالم الإسلامية والأثرية في فلسطين، والذي يعد شاهدا على تاريخ فلسطين عبر العصور بدءًا بالحضارة الرومانية وانتهاءً بالحضارة الإسلامية.
وتبلغ مساحة هذا الصرح الأثري 4100 متر مربع، ومساحة فنائه 1190 مترا مربعا، وتلامس جدرانه السميكة التي يفوح منها عبق التاريخ بيوت ومحلات مدينة غزة القديمة، وسمى بـ”العمري” نسبة إلى عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين وصاحب الفتوحات، وبـ”الكبير” لأنه أكبر جامع في غزة.
المشهد من خارجه عجيب ومن داخله مهيب، أعمدة ضخمة وعالية، وفناؤه ذو مساحة خيالية كل شيء فيه ينطق بتاريخ الماضي والحاضر، فضلاً عن أنه شاهد على حضارات العالم، وما أن تدخله تدرك أن حضارات العالم مرت من هنا.
المسجد العمري في رمضان
في شهر رمضان الكريم، يطلق هذا المسجد الكبير نكهة رمضانية خاصة وروحانيات دينية فريدة، قريبة من تلك التي تسود في المسجد الأقصى المبارك هذه الأيام، فيتوافد المئات من المصلين من أنحاء مختلفة في القطاع، لأداء صلاة التراويح.
ولا ينقطع المصلون والمتهجدون عن الوصول إلى المسجد العمري، فلا زال يعد منذ سنوات قبلة قاصدي الراحة في قراءة القرآن وأداء الصلوات للمحرومين من زيارة المسجد الأقصى، وما يميزه عن غيره، مساحته الواسعة وبناؤه التراثي القديم، مذكراً قاصديه بالمسجد الأقصى المبارك الذين يمنعون من الوصول إليه بسبب الاحتلال الإسرائيلي.
للمسجد العمري راحة وهدوء وسكينة تميزه عن غيره، حيث يشعرون برائحة رمضان فيه منذ سنوات طوال، فيما يقول الحاج أبو إياد: “صراحةً لا أجد نكهةً ولا طعما لرمضان إلا في المسجد العمري الكبير”
ويقول فلسطينيون، يؤدون صلاة التراويح داخل المسجد، في لقاءات منفصلة، إن الصلاة داخل المسجد العمري تختلف كثيرا عن المساجد الأخرى فالأجواء داخله تشعرك أنك تصلي داخل أروقة المسجد الأقصى.
الحاج أبو أحمد (86 عاماً) للسنة الثامنة على التوالي يواصل الاعتكاف في ساعة النهار مع الأيام الأولى من شهر رمضان المبارك في المسجد العمري، مبيناً أنّه يقرأ القرآن بالساعات ولا يشعر بالملل أو الفتور مع تدافع الناس لقراءة القرآن في ساحة المسجد الخارجية.
ويشاطره الحاج أبو إياد (72 عاماً) وهو الذي يزور المسجد قبيل أذان الظهر، ثم لينطلق في رحلة قراءة القرآن من بعد الصلاة وحتى قرب أذان المغرب، عادًّا أنّ هذا الأمر، “من شعائر رمضان اللازمة له، قاطعاً الوعد أن يستمر عليه حتى يلقى الله”.
وحول ما يميز المكان، يتفق المسنان أنّ للمسجد العمري راحة وهدوء وسكينة تميزه عن غيره، حيث يشعرون برائحة رمضان فيه منذ سنوات طوال، فيما يقول الحاج أبو إياد: “صراحةً لا أجد نكهةً ولا طعما لرمضان إلا في المسجد العمري الكبير”.
ولأنّ الكثيرين من أهالي قطاع غزة محرومون من زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه، فإنّ كثيرا منهم يستشعر ذلك بالصلاة في المسجد العمري، وتشير الحاجة أم حامد عبده (70 عاماً) أنها تفضل أداء صلاة التراويح في المسجد العمري الكبير، مبينةً أنّها تشعر وكأنها في المسجد الأقصى.
وبدمعةٍ حزينة سالت على وجنتيها، تتمنى الحاجة الفلسطينية أن “تزور مدينة القدس المحتلة، وأن تؤدي الصلاة في المسجد الأقصى، وأكّدت أنّ هذا أقصى ما تتمنى قبل أن تلقى الله”.
مع بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، منعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، الغزيين، من زيارة المسجد الأقصى، كما حرمت أهالي الضفة الغربية المجاورين لمدينة القدس، من الصلاة في المسجد، سوى لأعداد محدودة
ويقول محمود خلّة (65 عاما)، أحد المشاركين في صلاة التراويح، إن “الأجواء في المسجد العمري تختلف كثيرا عن مساجد أخرى فالصلاة داخله وقراءة القران الكريم تعطيك أجواء مغايرة وكأنك تشعر في أروقة المسجد الأقصى”.
وعند زيارته للمسجد العمري، يقول خلة: “أشعر بالفرحة والطمأنينة والآمان هنا”، ويكمل: “زرت المسجد الأقصى مرات عديدة، وفي كل مرة أصلي في هذا المسجد يراودني الشعور بأنني في أقبية المسجد الأقصى”.
ومع بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، منعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، الغزيين، من زيارة المسجد الأقصى، كما حرمت أهالي الضفة الغربية المجاورين لمدينة القدس، من الصلاة في المسجد، سوى لأعداد محدودة.
أمسيات إيمانية ومشاريع إفطار
تعتبر القراءة الجيدة والصوت الجميل من الأسباب الرئيسية في جذب المصلين، المسجد العمري يعتمد في شهر رمضان على توفير أئمة ذو كفاءة وإتقان في قراءة القرآن الكريم وبأصوات ندية وجميلة.
وتلقى كذلك الأمسيات الرمضانية حب واهتمام معظم المصلين، وتعتبر من الأنشطة والفعاليات التي تبث في قلوب الحاضرين البسمة والترفيه عن النفس لما تشمل تلك الأمسيات من مسابقات ثقافية أو دينية، بالإضافة إلى دروس إيمانية وأناشيد إسلامية بأصوات جميلة وابتهالات متنوعة.
وعلى ضوء القمر تنظم وزارة الأوقاف والشؤون الدينية وبالتعاون مع أسرة المسجد العمري عدداً من الأمسيات الإيمانية بشكل دوري أسبوعي، بعد صلاة التراويح في ساحة المسجد، يتخللها توزيع المشروبات الساخنة كالشاي و القهوة على الحاضرين، بالإضافة إلى مسابقات متنوعة وحلقات إيمانية، كما ويشهد المسجد العمري مشاريع إفطار صائم وموائد خيرية يقوم عليها أهل الخير وعدد من المؤسسات الخيرية.
تاريخ وحضارة يرفضان النسيان
وأُطلق عليه هذا الاسم تكريماً للخليفة عمر بن الخطاب صاحب الفتوحات، وبالكبير لأنه أكبر جامع في غزة، وكان موقع المسجد الحالي معبداً فلسطينياً قديماً، ثم حوَّله البيزنطيون إلى كنيسة في القرن الخامس الميلادي، وبعد الفتح الإسلامي في القرن السابع حوَّله المسلمون إلى مسجد، وقد وصفه الرحالة والجغرافي المسلم ابن بطوطة بـ”المسجد الجميل” في القرن العاشر الميلادي، وفي عام 1033م ضرب زلزال المنطقة فأدى إلى سقوط مئذنة الجامع العمري الكبير.
لموقع المسجد العمري خصوصية مهمة باعتباره مكوناً مهماً من مكونات وتخطيط المدينة الإسلامية، إذ يقع في قلب البلدة القديمة لمدينة غزة
ولموقع المسجد العمري خصوصية مهمة باعتباره مكوناً مهماً من مكونات وتخطيط المدينة الإسلامية، إذ يقع في قلب البلدة القديمة لمدينة غزة التي كانت تشتمل سابقاً خلال الفترة الإسلامية على المسجد الرئيسي وسوق القيسارية، والمارستان “المستشفى”، وحمام السمرة، وقصر الباشا، علماً أنها تقع في محيط واحد.
وتقترب جدران المسجد من الناحية الشرقية من مقبرة آل الغصين، فيما يلاصق سوق “القيسارية” الجدار الجنوبي للجامع العمري، ويعود بناء السوق إلى العصر المملوكي علماً بأنه يتكون من شارع مغطى بقبو مدبب وعلى جانبي هذا الشارع حوانيت صغيرة مغطاة بأقبية متقاطعة، فيما يطلق عليه سوق “القيسارية” أو سوق “الذهب” نسبة إلى تجارة الذهب فيه.
ومرت عملية بناء المسجد العمري الكبير الموجود حتى يومنا هذا على عدة مراحل، حيث بني في العصر الصليبي “المبنى البازيليكي” الذي يتكون من ثلاثة ايوانات أوسعها الذي يقع في الوسط، فيما يغطي هذه الإيوانات الثلاث سقف “جمالوني الطراز”.
ويتسع “المسجد العمري” حاليًا لأكثر من ثلاثة آلاف مصل، ويضم في طابقه الأول قاعة رئيسية للصلاة ومصلى للنساء، في حين يضم في طابقه العلوي مدرسة لتعليم القرآن الكريم، أما الطابق السفلى فيحتوى على قاعة استقبالات وقاعة أثرية يتعدى عمرها ألفى عام مجهزة لتكون متحفا إسلاميًا.
وتقول هيام البيطار، الباحثة في الآثار ومديرة الدراسات والأبحاث بوزارة السياحة: “إن الجامع العمري الكبير واحد من أقدم المساجد الأثرية في غزة والأقدم بعد القدس، وكان يستخدم كمعبد رئيسي حينما كانت غزة تدين بالديانة الوثنية في عهد الرومان، وجرى تحويل المعبد إلى كنيسة في العصر البيزنطي بعد الاعتراف بالدين المسيحي كدين رسمي للبلاد وتلاشى الوثنية”.
وأشارت إلى أنه بعد الفتح الإسلامي على يد الصحابي الجليل عمرو بن العاص في عهد الخليفة عمر بن الخطاب دخل معظم أهل مدينة غزة في الإسلام، فطلبوا من الخليفة تحويل الكنيسة إلى جامع، فوافق على ذلك، وأطلق عليه “الجامع العمري الكبير”.
وأضافت البيطار، أنه خلال فترة الاحتلال الصليبي عام 1149، تم تحويل “الجامع العمري” بعد تدميره إلى كنيسة ضخمة سميت باسم “كنيسة القديس يوحنا”، وكان لانتصار المسلمين على الصليبيين في موقعة حطين على يد القائد صلاح الدين الأيوبي عام 1187 الأثر الكبير في كسر شوكة الصليبيين والحد من نفوذهم وسيطرتهم على فلسطين إلى أن تم تطهير البلاد تماما منهم في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي في عهد المماليك.
“الجامع العمري الكبير مازالت أهميته في نفوس أبناء غزة إلى يومنا هذا باعتباره واحدا من الشواهد الأثرية القديمة على تاريخ غزة، بالإضافة إلى أنه مسجد جامع له الأثر الكبير في الحياة ليست الدينية فقط بل الاجتماعية والسياسية”
واستطردت البيطار: “تمكن المماليك آنذاك من إعادة مكانة “الجامع العمري” مرة أخرى، خاصة أن السلطان المملوكي الظاهر بيبرس أنشأ مكتبة الجامع التي كانت تضم آنذاك أكثر من عشرين ألف مجلد في مختلف العلوم”.
وأردفت “الجامع العمري الكبير مازالت أهميته في نفوس أبناء غزة إلى يومنا هذا باعتباره واحدا من الشواهد الأثرية القديمة على تاريخ غزة، بالإضافة إلى أنه مسجد جامع له الأثر الكبير في الحياة ليست الدينية فقط بل الاجتماعية والسياسية”.
وخلال الحرب العالمية الأولى بين 1914 و1918، أصيب المسجد العمري بأضرار فادحة حينما قصفته الطائرات البريطانية بدعوى وجود ذخائر تعود للقوات العثمانية مخزنة في المسجد، وهدمت أجزاء كبيرة منه، كما فقدت المكتبة التي أنشأها الظاهر بيبرس عندما زار غزة، وتم ترميم المسجد من قبل المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين ما بين عامي 1926 – 1927.