ما ان تهدأ منطقة حتى تنفجر أخرى، نفس السيناريو يتكرّر منذ ثورة يناير 2011، احتجاجات اجتماعية متواصلة تخفي غضب شعبي على سياسات حكومية لم تفلح في تقديم الأفضل للشعب التونسي رغم تعدد الوعود والمحاولات، ما ينذر بإمكانية ارباك “الاستثناء التونسي” والانتقال الديمقراطي الذي نجحت البلاد في تجاوز مراحل عدّة منه.
أرقام “مفزعة”
رغم تشكيل 8 حكومات منذ الثورة، إلا أن جميعها فشل في إيجاد منوال تنموي يقطع مع البرنامج الذي كان معتمدا في عهد حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ما زاد من تفاقم أزمة الاقتصاد التونسي التي انعكست سلبا على الوضع الاجتماعي لسكان تونس. فشل حكام تونس الجدد في إيجاد برنامج تنموي جديد يقطع مع السابق، أكّده تراجع الاقتصاد التونسي وعدم تخطي النمو الاقتصادي لعتبة الـ 1% طيلة السنوات الستة الأخيرة، وارتفاع نسبة العاطلين عن العمل لا سيما من فئة الشباب حاملي الشهادات الجامعية العليا التي فاقت نسبتها 15.3% خلال الربع الأول من السنة الحالية، مقابل 13 % نهاية سنة 2010، وتراجع الاستثمارات الأجنبية فيها بشكل حاد في السنوات الماضية نتيجة خروج عدد من المستثمرين وتزايد الإضرابات والصراع السياسي والقلق الأمني، لتصل إلى نحو تسعمئة مليون دولار سنة 2015 بعد أن كانت تقدر بنحو 1.58 مليار دولار سنة 2010.
معطلون عن العمل يعتصمون أمام وزارة التشغيل
يفسره أيضا، تواصل ارتفاع نسبة الفقر التي بلغت 15 % وتزداد هذه النسبة ارتفاعات في الجهات الداخلية للبلد وتصل إلى أكثر من 30 %، بالإضافة إلى عجزهم في التحكم في تدهور سعر صرف الدينار في الأسواق العالمية، حيث يبلغ سعر اليورو حاليًا 2.78 دينار تونسي ومرجح أن يصل إلى 3 دينارات لليورو الواحد فيما يبلغ سعر الدولار الأمريكي 2.41، ويعتقد خبراء أن ترك الدينار حرًا سيجعله تحت رحمة واقع التوازنات الاقتصادية الحالية إلى أن يصل إلى نقطة التوازن في السعر الحقيقي.
كما يفسرّه ارتفع مستوى التضخم، حيث قالت وكالة الإحصاءات الحكومية التونسية إن معدل التضخم السنوي في تونس ارتفع إلى 5% في أبريل الماضي، بعد أن كان 4.4 %طوال سنة 2010، وارتفاع نسبة الدين الخارجي بشكل مفزع قارب الـ62% من إجمالي الناتج المحلي منذ 2011 إلى 2016، أي بارتفاع بنحو 2% مقارنة بالمستوى الذي كانت عليه في العام 2014، حيث أكدت الحكومة التونسية أن حجم الديون الخارجية بلغ 21.33 مليار دولار وهو حجم ديون قياسي مقلق نتيجة تضخم الأجور وتراجع الانتاج في العديد من القطاعات الحيوية، وكان حجم الدين الخارجي لتونس في 2010 عند مستوى 13.4 مليار دولار لكنه سرعان ما ارتفع إلى 21.3 مليار دولار في 2014 مع نسق تصاعدي في 2015 و2016.
مدن الداخل أكثر المتضررين
هذا الفشل يظهر أكثر وضوحا في الجهات الداخلية لتونس التي انطلقت منها الثورة، حيث أن الجهات الداخلية تعتبر أكثر تهميشا في هذا البلد العربي الذي يحارب من أجل نجاح تجربة انتقاله الديمقراطي، كما أن هذه المناطق تعتبر الأكثر معاناةً جراء التهميش الذي طالها عهد الرئيس المخلوع بن علي وتواصلت بعد الثورة بسبب سياسة المركزية التي لعبت دورًا مهمًا في تمركز أغلب الخدمات الصحية والثقافية والمؤسسات الجامعية في العاصمة وفي المدن الساحلية.
يطالب سكان محافظة تطاوين بالتنمية وتوفير نسبة من فرص العمل في قطاعات الغاز والنفط لجميع الشباب من أبناء المناطق الريفية
تتصدر وتتصدّر محافظات القصرين والقيروان وسيدي بوزيد الواقعة في الوسط الغربي لتونس المراتب الأولى في مؤشر نسبة الفقر والفقر المدقع على المستوى الوطني حيث تحتل هذه المحافظات على التوالي المراتب 2 و3 و6، وتسجل القيروان ارتفاعا في نسب الأمية والانقطاع المبكر عن الدراسة وعدد العائلات الفقيرة، وتحتل هذه المحافظة المرتبة الأولى في تونس في نسبة الفقر والبطالة والانتحار، حسب أحدث إحصائيات المعهد التونسي للإحصاء.
نفس الشيء بالنسبة إلى محافظة تطاوين (جنوب) التي يحتج سكانها للشهر الثاني على التوالي للمطالبة بالتنمية وتوفير نسبة من فرص العمل في قطاعات الغاز والنفط لجميع الشباب من أبناء المناطق الريفية، وتأسيس صندوق استثمار بتمويل من قبل شركات الغاز والنفط، حيث ارتفعت نسبة البطالة هناك إلى 26% من نسبة قوة العمل، ما عزز من رفع نسبة الفقر إلى 30% من إجمالي عدد السكان.
فشل اقتصادي يُخشى انعكاسه على النجاح السياسي
هذا التراجع الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي، من الممكن حسب عديد المتابعين أن يؤدّي إلى عرقلة النجاح النسبي الذي حققته التجربة التونسية والإشادة الدولية التي لاقتها، فهذا النجاح الذي تمثّل في تحقيق بعض الاستحقاقات السياسية والمدنية والحريات الخاصة والعامة، منذ يناير 2011، حتى أصبحت نموذجًا عربيًا يحتذى به، مهدد حسب مراقبون مالم تتدارك الحكومة الحالية وتنقذ الوضع لصالح المناطق المهمشة، فحالة الاحتقان الشعبي الذي تشهده عديد المناطق المهمشة، يوحي بأن التحديات الاجتماعية التي تعيشها تونس من شأنها أن تدفع بالتحول الديمقراطي إلى شفير الهاوية.
تواصل التهميش في مهد الثورة التونسية
فهذه المناطق التي تحتوي على فئة شعبية تعاني الفقر المدقع والتهميش لم تكفّ الاحتجاج إلى الآن، ولن تكف ما لم تنصفها الدولة، خاصة وأنها فقد الثقة في معظم السياسيين حسب ما صرّحوا به في أكثر من مناسبة نتيجة عدم احتضانهم لمطالبهم الشرعية وتتبنيهم تبن صادق يترجم إلى خطوات تمهد الطريق نحو إصلاحات حقيقية. ويجمع الخبراء الملمون بالشأن التونسي، أن الأولوية للإصلاح الاقتصادي يجب أن تكون موضع اتفاق وإجماع مجمل الحساسيات ومكونات المجتمع المدني بالبلاد، وذلك في سياق تكريس مفهوم النمو المندمج، ومقاومة آفة البطالة، ومعالجة معضلة الفقر المستفحل في المحافظات المهمشة والفقيرة في تونس العميقة.