تحدث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن إنشاء دولة فلسطينية “منزوعة السلاح” كخيار عملي لتطبيق فكرة “حل الدولتين”، مع وجود “قوات من (الناتو) أو الأمم المتحدة أو قوات عربية أو أمريكية لتحقيق الأمن لكلا الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية”، وذلك خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيسي وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز، وبلجيكا ألكسندر دي كرو، الجمعة 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
وهذه هي المرة الثانية التي يتحدث فيها السيسي عن فكرة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، حيث ألمح إليها خلال مؤتمر صحفي له مع المستشار الألماني أولاف شولتس في 18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي بعد نحو 11 يومًا فقط من عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد الكيان المحتل.
التصريحان الذين لم يفصل بينهما إلا 36 يومًا أثارا حالة من الجدل والغضب على منصات التواصل الاجتماعي وداخل الأروقة السياسية لما ينطوي عليهما من تداعيات على القضية الفلسطينية ومستقبلها، ورغم أن طرح هذا الأمر ليس بالجديد، فإن تكراره في هذا الوقت حيث تواجه المقاومة حربًا شعواء مع الاحتلال، أثار تساؤلات عدة.. فما الدافع؟ ولماذا الآن؟
"بضمانات لتحقيق الأمن للدولتين".. السيسي يقول إن المأمول هو إيجاد دولة فلسطينية جنبًا إلى جنب مع إسرائيل مع الاستعداد لكون هذه الدولة منزوعة السلاح pic.twitter.com/eOK4PCnWd3
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) November 24, 2023
مقترح إسرائيلي سابق
فكرة إنشاء دولة فلسطينية منزوعة السيادة والدسم والسلاح هي مقترح إسرائيلي في المقام الأول، ففي خطابه الذي ألقاه في أكتوبر/تشرين الأول 2001 قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، آرييل شارون إن الدولة الفلسطينية التي قد يوافق على قيامها يجب أن تلبي ما أسماه احتياجات “إسرائيل” الأمنية وتكون منزوعة السلاح ويراقب الجيش الإسرائيلي حدودها.
وترسخت تلك الفكرة في عقليات من خلفوه في رئاسة حكومة الاحتلال وبين صقور الكنيست وغربانه، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2009 أعلن رئيس الوزراء العبري بنيامين نتنياهو أنه على استعداد لقبول دولة فلسطينية منزوعة السلاح، شريطة أن تعترف بالكيان المحتل كدولة قومية للشعب اليهودي وألا يُسمح لها بامتلاك أي قوة عسكرية وعتاد تسليحي.
لكن مع مرور الوقت وصمود المقاومة الفلسطينية وقدرتها على إيقاع الخسائر الفادحة في صفوف الكيان المحتل وتشويه صورته المشرقة أمنيًا وعسكريًا، على مدار عشرات السنين، بات يقينًا لدى الدولة المحتلة أن مسألة إنشاء دولة فلسطينية منزوعة السلاح أمر غاية في الصعوبة في ظل ترسيخ المقاومة لأركانها عامًا بعد الآخر، وعليه واستباقًا لرد فعل المقاومة الرافض بطبيعة الحال لهذا المقترح، خرجت وزارة الخارجية الإسرائيلية لتعلن السبت 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ردًا على مقترح الرئيس المصري، بأن سياسة حكومتها “لا توافق على قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح”.
وبرر المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية، ليور حياة، هذا الموقف بأن مقترح نتنياهو عام 2009 أصبح قديمًا، مضيفًا “لقد تغيرت الكثير من الأمور منذ ذلك الحين”، وتابع في تصريحات لـ”الحرة” “الآن أذكركم أن قطاع غزة كان يفترض أن يكون (منزوع السلاح) لكن الحقيقة أن حماس هربت الأسلحة للقطاع”، مضيفًا “لذلك فالوضع ليس نفسه”.
ردا على دعوة الرئيس المصري.. "الخارجية الإسرائيلية": "#تل_أبيب" لا توافق على قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح#غزة#العربية pic.twitter.com/bxEeb9zkJa
— العربية (@AlArabiya) November 26, 2023
موافقة أبو مازن وسلطته
قبل 5 سنوات تقريبًا وتحديدًا في أغسطس/آب 2018 وخلال زيارة وفد أكاديمي إسرائيلي لمكتب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبو مازن في رام الله، طُرحت مسألة شروط ومواصفات الدولة الفلسطينية ضمن الحديث عن خيار حل الدولتين وسبل إنهاء الصراع.
حينها أبلغ أبو مازن الوفد الإسرائيلي موافقته الضمنية على إنشاء دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، لكنها منزوعة السلاح، بلا جيش، ولا قوة عسكرية نظامية، كل ما تحتاجه فقط عناصر شرطية بتسليح خفيف لفرض الأمن الداخلي، مبررًا هذا الموقف بأن بناء المدارس والمستشفيات وتخصيص الأموال للمؤسسات الاجتماعية أفضل من الطائرات الحربية والدبابات، حسبما نقلت تقارير إعلامية عبرية لم تنفها السلطة الفلسطينية.
وكانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة في حكومة نتنياهو الثالثة، تسيبي ليفني، قد أكدت قبل ذلك أن عباس دعم فكرة دولة فلسطينية منزوعة السلاح في مفاوضات السلام التي عقدتها معه بين عامي 2013 و2014، بوساطة أمريكية، وأنه وافق على وجود قوات دولية من حلف الناتو على حدود الدولة الفلسطينية، لكن نتنياهو رفض هذا الأمر، مشترطًا أن تكون القوات الموجودة إسرائيلية وليست دولية، وهو ما أفشل المفاوضات آنذاك، بحسب ليفني.
ورفضت حماس في ذلك الوقت هذا الطرح شكلًا ومضمونًا، حيث وصف الناطق الرسمي باسم الحركة وقتها، سامي أبو زهري، تصريحات أبو مازن بأنها شخصية لا تعبر ولا تمثل الشعب الفلسطيني، فيما دعمت حركة فتح هذا الموقف، لافتة إلى أن الهدف هو إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو/حزيران، “وليس الخوض في سباق تسلح مع أحد”.
رسائل طمأنة لـ”إسرائيل”.. تبرير للتصريحات
حاول البعض تبرير تلك التصريحات بأنها تدفع نحو تجاوز الحروب المتكررة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتهدف إلى فرض حالة من الاستقرار الشامل والكامل، ووضع نهاية فاصلة لهذا الصراع الذي يدفع ثمنه الفلسطينيون غاليًا جدًا، كما جاء على لسان رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية بمركز “الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية”، محمد عز العرب، الذي لفت إلى أن حديث الرئيس المصري “يحمل معنى سياسيًا رمزيًا”.
وأضاف عز العرب أن السيسي حاول من هذا الطرح البناء على ما تحقق بعد إقرار الهدنة المؤقتة بين المقاومة وحكومة الاحتلال، بحيث “يمكن الانتقال من حالة الحرب إلى مرحلة التهدئة، ولا نقول السلام، لأن الأوضاع لا تزال محتقنة بشدة” بحسب تصريحاته لصحيفة “الشرق الأوسط”.
وعن التأكيد على فكرة إنشاء دولة فلسطينية منزوعة السلاح، يرى الخبير الأكاديمي المصري أن السيسي إنما أراد بذلك طمأنة “إسرائيل” وداعميها وعلى رأسهم الولايات المتحدة حتى لا يعرقلوا مقترح إقامة الدولة الفلسطينية، لافتًا إلى أن الهاجس الأمني هو العقبة الأبرز أمام فكرة حل الدولتين، وعليه جاء هذا الطرح لطمأنة دولة الاحتلال.
تساؤلات عن التوقيت والهدف
إعادة الحديث عن الدولة منزوعة السلاح بينما تقدم المقاومة الفلسطينية أداءً مبهرًا في حربها ضد الكيان المحتل، وتكبده الكثير من الخسائر الفادحة والمؤلمة التي أرضخته وشوهت صورته وسمعته الإقليمية والدولية، أمر يحتاج إلى تفسير منطقي ومبررات مقبولة.
مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير عبد الله الأشعل، يرى أن إحياء تلك المسألة مرة أخرى في هذا التوقيت الاستثنائي إنما يهدف في المقام الأول إلى “القضاء على المقاومة الفلسطينية، وخاصة حركة المقاومة الفلسطينية (حماس)، وتسليم غزة لسلطة محمود عباس” بحسب تصريحات صحفية له.
لو افترضنا قبول الشعب الفلسطيني دولة "منزوعة السلاح" فهل الدول العربية الشقيقة التي تقترح هذه التنازلات نيابةً عنه، لاستمرار التطبيع مع اسرائيل، ستقدم ضمانات للفلسطينيين باتفاقات مكتوبة بالدفاع عن دولتهم لو انتهكتها القوات الإسرائيلية؟!
مصر، صاحبة الاقتراح، انفقت في بضع سنوات…
— حافظ المرازي (@HafezMirazi) November 25, 2023
ويتسق هذا التفسير مع حديث سابق للرئيس المصري خلال لقائه بالمستشار الألماني في القاهرة بعد أيام قليلة من بدء الحرب على غزة، طالب فيه دولة الاحتلال بتهجير سكان قطاع غزة إلى صحراء النقب المحتلة – بدلًا من سيناء – من أجل تصفية المقاومة لا سيما حركتي حماس والجهاد، ثم إعادة السكان مرة أخرى بعد الإجهاز عليهما، وهو التصريح الذي أثار غضب الكثير وأحدث جدلًا كبيرًا لدى الشارع العربي بصفة عامة.
ويبدو أن مسألة “تصفية المقاومة” تحولت إلى إستراتيجية – وربما هدف – لدى بعض الأنظمة العربية، التي بدلًا من مناقشة الوضع في غزة وإنقاذ سكانها من حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال، كثفت نداواتها وجلساتها النقاشية لبحث غزة ما بعد الحرب، وشكل وهوية السلطة في القطاع، والتأكيد على ضرورة ألا تكون حماس وبقية فصائل المقاومة في المشهد السياسي مستقبلًا، وهو التصور الذي لاقى استحسانًا – كالعادة – من أبو مازن وسلطته.
إحياء لصفقة القرن مجددًا
الاقتراب من مسألة “دولة فلسطينية منزوعة السلاح” يجرنا سريعًا إلى ما عُرف بـ “صفقة القرن”، وهي الخطة البديلة التي تبناها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2020 لخطة السلام الأمريكية في الشرق الأوسط، التي كانت تهدف – بحسب ما تم إعلانه – إلى إنهاء ملف الصراع العربي الإسرائيلي عبر تسوية شاملة.
في تلك الصفقة حُددت شكل الدولة الفلسطينية المزمع إنشاؤها، فهي دولة بلا سيادة أو استقلالية، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، أشبه بمستوطنة إسرائيلية لكن بإدارة وسلطة فلسطينية، وإن كانت في حقيقتها خاضعة للحكومة الإسرائيلية في تل أبيب.
في ذلك الوقت خرج رئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتيه ليعلن عن المقترح المقدم من السلطة الفلسطينية بشأن الدولة الفلسطينية الجديدة للرباعية الدولية المشرفة على الخطة (الاتحاد الأوروبي – الأمم المتحدة – روسيا- أمريكا)، مقترح مكون من أربع صفحات ونصف، يشير إلى دولة ذات سيادة ومستقلة لكنها منزوعة السلاح.
ومن هنا يرى البعض أن عودة طرح تلك المسألة على طاولة النقاش مجددًا، إنما هو إحياء وتجديد لصفقة القرن المزعومة، التي أجمع غالبية المنصفين والموضوعيين من مراقبي ملف الصراع العربي الإسرائيلي أنها شهادة وفاة رسمية للقضية الفلسطينية، ووأد كامل لمستقبلها وتدجينها بشكل ممنهج وتاريخي.
ويميل أنصار هذا الرأي إلى أن إخراج تلك المسألة من ثلاجة التجميد إلى الأضواء مرة أخرى إنما كان سببه حالة الارتباك التي أحدثتها عملية طوفان الأقصى على المشهد العربي والإقليمي وذلك من خلال مسارين، الأول خشية تداعيات تلك العملية على الإقليم برمته والأوضاع الداخلية لبعض الأنظمة، والثاني ما يمكن أن يترتب على خروج المقاومة الإسلامية من تلك المعركة منتصرة، وأن تتحول إلى لاعب محوري على الساحة، بما يجهض الكثير من الأجندات في المنطقة التي تعتمد في المقام الأول على إبقاء “إسرائيل” الدولة الأقوى واللاعب الأهم إقليميًا.
حل للقضية الفلسطينية أم إنهاء للأبد؟
بعيدًا عما صرح به الرئيس المصري ومدى قدرته على فرض تلك المعادلة على المقاومة وتجريدها من سلاحها، فضلًا عن مناقضة هذا الطرح لإرادة الشعب الفلسطيني، ورفضه بكل تفاصيله ومجرياته، إلا أن السؤال الأبرز الآن: هل يصب هذا المقترح في مسار حلحلة القضية الفلسطينية فعلًا أم ينهيها للأبد؟
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة أولًا إلى معنى ودلالة دولة منزوعة السلاح، فهي تلك الدولة التي لا تمتلك جيشًا ولا سلاحًا وليس لها أي صلاحيات في بناء علاقات أو تحالفات أمنية أو عسكرية، إقليمية أو دولية، إلا بموافقة الكيان المحتل الذي يشرف على كل صغيرة وكبيرة داخل تلك الدولة.
الأمر كذلك مع حدودها البحرية والجوية والبرية، فكلها ستصبح تحت إمرة سلطة الاحتلال، هذا بخلاف أن الحكومة والسلطة الفلسطينية التي ستدير القطاع سيتم تعيينها أو الموافقة عليها أولًا من الكابينت والموساد في تل أبيب، وفي حال أي خروج عن النص سيتم حلها أو وضع العراقيل أمامها بما يفشلها داخليًا، إضافة إلى ذلك سيصبح المواطن الفلسطيني مواطن درجة رابعة في الحقوق والواجبات… فهل بذلك يتم حل القضية الفلسطينية؟
أوضاع كتلك لا تحل القضية قدر ما تنهيها للأبد، فحينها لن يكون هناك شرعية للمقاومة التي إن غردت خارج السرب قد ينجم عن ذلك احتراب أهلي بين الفلسطينيين، وهو ما يعني حرق القضية والوطن معًا، وهو ما يريده الاحتلال وأعوانه.
وعليه فإن الحل الوحيد لإنهاء الصراع هو إقامة دولة فلسطينية كاملة الأهلية والسيادة على كامل الأراضي الفلسطينية، تتمتع بجيش قوي، رادع لكل من ينتهك سيادتها، واستقلالية تؤهلها لإدارة شؤونها بشكل سيادي دون تدخل أو رقابة من أحد.
أما خلاف ذلك عبر تمييع القضية وإجهاضها بمثل تلك التصريحات التي تخرج بين الحين والآخر، فهو حديث يشعل الموقف لا يبرده، يزيد توتير الأجواء لا يهدئها، يعزز حضور المقاومة لا يجهضها، يرسخ إيمان الفلسطينيين بحقهم الأبدي والتاريخي لا يضعفه.