ترجمة وتحرير نون بوست
قبل حوالي ثلاث سنوات، وتحديدا في حزيران/يونيو 2014، صدم أبو بكر البغدادي وعصابته العالم، حيث تمكنوا من السيطرة على ثاني أكبر مدينة في العراق في غضون أيام معدودة. وقد انتشرت صور الجيش العراقي وقد أنهكهم اليأس والتعب وهم يخلعون زيهم الرسمي ويتركون أسلحتهم للهرب وإنقاذ أنفسهم من دون النظر إلى الخلف، في جميع وسائل الإعلام.
في واقع الأمر، كان بعض الجنود العراقيين محظوظين، حيث تمكنوا من الانسحاب من المنطقة دون أن يلحق بهم أي ضرر يذكر، في حين ألقي القبض على الآخرين وتم إعدامهم على الفور. وفي واحدة من أبشع الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية التي شهدها العالم خلال هذا القرن، قام مقاتلو تنظيم الدولة بحشد مئات من طلاب القوات الجوية الذين كانوا يحاولون الفرار من المنطقة، وتحديدا من معسكر سبايكر، وهو قاعدة عسكرية في ضواحي تكريت. وعقب وقوعهم رهائن بين يدي التنظيم، طلب المتطرفون من الطلاب السنة أن يعودوا إلى ديارهم ويعلنوا توبتهم أما المجندون الشيعة فقد تم الزج بهم على متن شاحنات وأطلق عليهم النار ومن ثم دفن في مقبرة جماعية.
خلافا لذلك، قطع الجيش العراقي شوطا طويلا منذ سلسلة الهزائم الرهيبة التي شهدها، حيث نجحت القوات العراقية والميليشيات الموالية للحكومة في الانتقام للقتلى الذين لقوا حتفهم بطرق فظيعة للغاية. ويعزى ذلك بالأساس إلى المساندة التي أمنتها إدارة أوباما التي سمحت لهم بشن سلسلة من الهجمات والتفجيرات ضد تنظيم الدولة. علاوة على ذلك، انخفضت نسبة الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم ويديرها، ففي سنة 2014 كان التنظيم يحكم قبضته على ثلث البلاد، ولكن، وفي الوقت الراهن، تقلصت هذه المساحة بحوالي 7 بالمائة.
أما مدينة الموصل، التي تمكن تنظيم الدولة من خلالها من البروز على الخريطة الدولية، وبث الذعر في قلوب الجميع، فقد قامت قوات مكافحة الإرهاب العراقية بتطويقها، خاصة وأنها تمثل آخر معاقل التنظيم الحضرية. والجدير بالذكر أن رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق الجنرال، مارتن ديمبسي قد حذر الرئيس باراك أوباما من إمكانية خروج الأوضاع في الموصل عن السيطرة والنتائج الكارثية لهذا الأمر.
في الوقت الراهن، دخلت القوات العراقية المرحلة الأخيرة في إطار عمليتها العسكرية التي تسعى من خلالها لبلوغ المدينة القديمة في الموصل، وهي إحدى الأحياء الثلاثة الأخيرة التي تقع تحت سيطرة تنظيم الدولة. عموما، لا يمكن القول إن “هجوم الموصل” كان مشوارا دمويا طويلا، وإلا سيكون ذلك بمثابة إهانة للقوات العراقية والمستشارين الأمريكيين المكلفين باستعادة المدينة.
على الرغم من أن الحكومة العراقية لم تعلن عن عدد القتلى للعيان، إلا أن التقديرات تشير إلى مقتل وإصابة الآلاف خلال هذه العملية. من جانب آخر، أوردت بعض المصادر أن حوالي ستة آلاف من مقاتلي تنظيم الدولة مسؤولون عن الدفاع عن المدينة (أو على الأقل تعقيد عملية إعادة السيطرة وجعلها صعبة قدر المستطاع). ولكن مؤخرا تم خفض عدد المقاتلين إلى ألف شخص فقط.
عموما، لا أحد يعرف على وجه الدقة عدد المدنيين الذين تم القبض عليهم أثناء القتال (أو الذين تم استهدافهم)، ولكن هجوم الموصل كان شاق وصعب بالنسبة للمواطنين العراقيين في المدينة مثلما هو الأمر بالنسبة للمقاتلين. فقد قُتل العديد من متساكني الموصل نتيجة لقنابل التحالف (وذلك وفقا لما كشفته التحقيقات التي أجراها البنتاغون، خلال الأسبوع الماضي، فيما يتعلق بالغارة الجوية التي شنتها الولايات المتحدة في آذار/ مارس والتي أدت إلى مقتل 101 مدنيا) وقناصة تنظيم الدولة والمتفجرات والقنابل الانتحارية فضلا عن أن الكثيرين قد تم قطع رؤوسهم.
وفقا لإحصاءات الحكومة العراقية، فقد نزح ما لا يقل عن 742 ألف مدني من المدينة وضواحيها خلال الأشهر الثمانية الماضية. وفي ظل ممارسة التنظيم لشتى أنواع التعذيب القاسية التي يسلطها على المدنيين العزل، يتدفق يوميا عشرة آلاف مدني عبر مركز الفرز الذي أنشئ خارج حدود مدينة الموصل.
في خضم هذه الحرب، تواترت العديد من المعطيات والحيثيات غير المتوقعة. فقد نجح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي والقادة الأمريكيون، الذين يمولون الجزء الأكبر من القوات الجوية في إطار هجوم الموصل، في بعض الأحيان، في الحد من قوة ومرونة مقاتلي تنظيم الدولة. ومن هذا المنطلق، تنبأ العبادي بأن قواته ستستولي على الموصل في نهاية سنة 2016، إلا أن هذا التقدير مبالغ فيه. فقد كان العبادي يسعى من خلال ذلك إلى جلب انتباه عامة الشعب.
من وجهة نظر عسكرية، يعتبر نجاح تنظيم الدولة في التمسك بأجزاء من الموصل على مدار ثمانية أشهر أمرا مثيرا للاهتمام، بغض النظر عن أساليبهم المعتمدة التي تتسم بالبربرية والعشوائية، لدرجة أنها تجعل تنظيم القاعدة يبدو أمام مقاتلي تنظيم الدولة مجرد مجموعة كشافة. في المقابل، يتمثل الأمر الوحيد الذي يمكن التنبؤ به في أنه سيتم استعادة السيطرة على الموصل سواء استغرق ذلك أسابيع أو أشهرا. وعند بلوغ تلك المرحلة، سيتم القضاء على عناصر تنظيم الدولة، مما سيؤدي إلى تضاءل قدرته على إدارة أي منطقة أخرى في العراق. على العموم، يعد الأمر مسألة وقت قبل أن تتمكن الحكومة العراقية من الاستيلاء على المدينة.
من ناحية أخرى، يبقى السؤال المطروح: كيف ستتصرف الحكومة العراقية بمجرد طرد تنظيم الدولة من المراكز السكانية العراقية؟ وفي هذا الصدد، لا بد أن نشير إلى أن أحد الأسباب التي سهلت عملية اجتياح تنظيم الدولة للعراق بهذه السرعة تتمثل في أن قوات الأمن العراقية تعاملت مع السكان السنة بازدراء تام كما أنها كانت تشتبه في أن سكان الموصل وتكريت والأنبار قد احتفلوا بانسحابها من غرب وشمال العراق في فجر اليوم الموالي.
في حال أبى الزعماء السياسيون العراقيون المضي بالبلاد قدما والقطع مع سياسة الفصل الطائفي ولم يفتحوا المجال للحوار والتعاون واعتمدوا سياسة اللامركزية، عوضا عن السعي لفرض سيطرتهم، فقد نشهد في المستقبل بروز منظمة أكثر تطرفا من تنظيم الدولة ستتمكن من الاستيلاء على المدن والبلدات نفسها وستعمد إلى ارتكاب الفظائع ذاتها. وفي إطار هذا السيناريو، لن تحظى الطبقة السياسية في العراق بامتياز لطالما تمتعوا به سابقا، ألا وهو سعي الجيش الأمريكي لمنع سقوط حكومتهم.
المصدر: ناشيونال إنترست