تمر هذه الأيام الذكرى الخمسين لهزيمة 5 يونيو المنكرة والمخجلة عام 1967(حرب الساعات الست)،التي منيت بها ثلاثة جيوش عربية(مصر وسوريا والأردن)، التي نتج عنها إحتلال القدس والضفة وغزة والجولان وسيناء، في وقت تعصف بالأمة والمنطقة الآن أخطار التقسيم والتفكك على أساس طائفي ومذهبي، الأمر الذي يهدد بقاءها كدول قُطرية موحدة ، ذلك أننا لازلنا نعيش تداعيات تلك النكسة ولم نتعافى من آثارها النفسية قبل السياسية بعد.
الجمسي أحد أكبر القادة العسكريين المرموقين في حرب أكتوبر ووزير الحربية فيما بعد ، رأياً وجيهاً قام فيه بتشخيص الداء وقدّم الدواء عن الأوضاع قبل النكسة حين قال ” إن الرجل العسكري لا يصلح للعمل السياسي قط ، وإن سبب هزيمتنا عام 1967 هو اشتغال وانشغال رجال الجيش بالألاعيب في ميدان السياسة؛ فلم يجدوا ما يقدمونه في ميدان المعركة “
لم تكن نكسة يونيه(بتعبير”هيكل” عراب دولة 23 يوليه) مجرد هزيمة عسكرية لجيوش أو لأنظمة حكم ، بقدر ما هي نتيجة طبيعية لحقبة من الاستبداد السياسي مارستها المؤسسة العسكرية المصرية عندما خاضت غمار السياسة باعتلاءها الحكم وتركت ميدانها الرئيسي العسكري الموكل إليها ، فلا نجحت في إدارة البلاد سياسياً اللهم إلا بالقمع والقهر، ولا انتصرت في ميدان المعركة عسكرياً ، فالجيش قبل حركة 23 يوليه 1952 كان جزءاً من منظومة الحكم لا يتجاوز حدوده المتعارف عليها دستورياً وقانونياً ، فلم نسمع أن ضابطاً في الجيش بما فيهم وزير الحربية نفسه تدخل في شأن سياسي أو حزبي، لاسيما أن إدارة الحكم والحياة السياسية يومئذ كانت تتقاسمها الأحزاب مع الملك ، في وجود صحافة معارضة متنوعة تحظى بقدر لا بأس به من الحرية والاستقلالية رغم ملاحظاتنا على الحقبة الملكية برمتها.
رفع جمال عبد الناصر شعارات الحرية والعدالة والقومية العربية، ومعاداة الصهيونية والامبريالية العالمية ، وبدا أمام الشعوب العربية والإسلامية البطل المظفر، وحامي حمى الديار وزعيم الأمة الذي سيحررها من الاستعمار ومن دولة بني صهيون اللقيطة الوليدة ، فخدعهم بخطاباته الحماسية الجوفاء، وظنوا أنه سيقذف بإسرائيل وما وراءها في البحر كما أعلن ، وستدخل جيشونا تل أبيب وتغني أم كلثوم أغنية الشهر من هناك، بينما قادته العسكريين مشغولون بالانقضاض على الشركات والمؤسسات وتأميم السياسة والاقتصاد، فضلاً عن ملاحقة الفنانات والراقصات، حتى إن ليلة النكسة كان اللواء صدقى محمود، قائد القوات الجوية يلهو بين يدي راقصة شهيرة ، والمضحك المبكي أن أمر بأجازة 24 ساعة ل30% من طياريه يوم الحرب(كما ذكر إيريك رولو،الكاتب الصحفى بجريدة لوموند الفرنسية ،عن أوضاع الجيش المصرى ليلة الحرب).
هزيمة يونيه التي تحل ذكراها الخمسين ، هي في حقيقتها محاكمة كاشفة لحقبة الفاشية العسكرية التي حكمت قلب الأمة العربية مصر قبل أكثر من ستين عاماً
إن هزيمة يونيه التي تحل ذكراها الخمسين ، هي في حقيقتها محاكمة كاشفة لحقبة الفاشية العسكرية التي حكمت قلب الأمة العربية مصر قبل أكثر من ستين عاماً ، ودليلاً ساطعاً على فشلها الذريع أخلاقياً قبل أن تكون سياسياً وعسكرياً ، فلا يعقل أن نكسب معركة وجودية مصيرية مع عدو قوي متحفز على حدودنا الشرقية أخذ بأسباب القوة عقدياً وعسكرياً واقتصادياً ، بينما اختطف جيشنا مؤسسات الدولة المدنية فجعل على رأس كل مؤسسة ضابط ومخبر ، حتى أندية كرة الكرة لم تسلم من العسكرة ، الأمر الذي خلّف فراغاً عسكرياً خصم من جاهزية الجيش للمواجهة الكبرى ، فضلاً عن الدخول في وحدة مع سوريا تجلى فشلها قبل أن تبدأ ، والتورط في مغامرة عسكرية غير مدروسة في اليمن كلفتنا الأرواح والأموال ما لا نطيق.
كان للمشير محمد عبد الغني الجمسي أحد أكبر القادة العسكريين المرموقين في حرب أكتوبر ووزير الحربية فيما بعد ، رأياً وجيهاً قام فيه بتشخيص الداء وقدّم الدواء عن الأوضاع قبل النكسة حين قال ” إن الرجل العسكري لا يصلح للعمل السياسي قط ، وإن سبب هزيمتنا عام 1967 هو اشتغال وانشغال رجال الجيش بالألاعيب في ميدان السياسة؛ فلم يجدوا ما يقدمونه في ميدان المعركة ” .. ويعجبني تعبير موفق جداً لوزير العدل الأسبق المستشار أحمد مكي ” الجيش الذي يحكم لا يحارب ، وبتعبير أدق ، الجيش الذي ينشغل أفراده بتوزيع المكرونة والزيت والسكر ، لن يتفرغ لمهمته الرئيسية في صنع دبابة أو مدرعة عسكرية ، وبالتالي فلن يقاتل بكامل جاهزيته في ميدان المعركة.
إن الدرس القاسي الذي يجب أن نتعلمه من نكسة يونيه حتى لا نستيقظ على هزيمة أكثر قسوة من هزيمة يونيه ، هو غياب الديمقراطية وإبعاد الشعب عن حكم بلاده عبر إماتة السياسة تماماً ، وإسكات أي صوت للمعارضة ، فلا أحزاب ولا برلمان حقيقي ، ولا صحافة حرة أو تعددية سياسية ، وبالتالي فلا تداول ديمقراطي للسلطة ، والنتيجة حكم الفرد الواحد وإعلام الصوت الواحد والحزب الواحد.
ويبدو أننا نسير على نفس الدرب ، ذلك أن من تسببوا في الهزيمة قبل نصف قرن يحكمنا تلاميذهم الآن الذين تربوا في مدرستهم وخرجوا من رحم المؤسسة العسكرية
وفي الوقت الذي كان العدو يدرك تماماً مدى دعائية خطابات عبد الناصر ، وفراغها المعلوماتي ، كان الشعب هو آخر من يعلم والمغيب التام عن المشهد الذي خدعوه بالصاروخين الظاهر والظافر ، فضلاً عن أنه يجب أن نعترف بحقيقة فاضحة ، وهي أن إسرائيل قد تحولت من حلم لدولة وليدة إلى حقيقة ثابتة تجذرت في أعماق المنطقة بفضل الحكم العسكري في مصر وسوريا تحت حكم البعث(الذي أعلن وزير دفاعها آنذاك حافظ الأسد سقوط الجولان قبل سقوطها بيد العدو) ، فقد هزمت الجيوش العربية في حربي 1956 و1967 ، ما أدى إلى مزيد من تمدد الدولة الصهيونية في فراغ المنطقة ، ما ساهم في تثبيت أركانها كأمر واقع لا يمكن زحزحته ، والفضل يعود لنظام يوليه العسكري بقيادة الزعيم المهزوم جمال عبد الناصر.
ويبدو أننا نسير على نفس الدرب ، ذلك أن من تسببوا في الهزيمة قبل نصف قرن يحكمنا تلاميذهم الآن الذين تربوا في مدرستهم وخرجوا من رحم المؤسسة العسكرية ، بيد أن النسخة الحاكمة الآن أكثر فجاجة وأشد قبحاً ، ذلك أننا نعيش ارهاصات النكسة بكل ملامحها ، من تأميم للحياة السياسية ، حيث عسكرة الاقتصاد على نحوٍ أسوأ ، عبر ارتهان البلاد لصندوق النقد الدولي ، وفتح البلاد أمام المحتل الأجنبي عبر الشركات متعددة الجنسيات ، أما عن تكميم الأفواه ومصادرة الحريات الخاصة والعامة ، والتضييق على العمل الأهلي والجمعيات الخيرية ، فحدث ولا حرج ، والأخطر من ذلك كله أن تُطبق كل تلك الاجراءات تحت مسمى ” الحرب على الارهاب ” ، وهي في حقيقتها حرباً على الإسلام ، فإن لم نكن مقبلون على نكسة جديدة فنحن بالفعل نعيش النكسة والهزيمة بأدق تفاصيلها وملابساتها المخزية.