ما بين الأمس واليوم حدثت تغيرات كثيرة أثرت على الدراما التاريخية والدينية في الوطن العربي، أبرزها التكاليف الباهظة لهذه الأعمال، بالإضافة إلى عدم وجود نص كتابي قوي مثل أيام الثمانينيات والتسعينيات يجذب المشاهد، والسبب الثالث الموجود على الساحة الآن هو تحريم مفتي السعودية تجسيد الشخصيات الدينية مثل مسلسل “الإمام أحمد بن حنبل”، حيث قال: “لا ينبغي تجسيده في مسلسل تليفزيوني”.
بدأت قصة الجدل القائم عن مسلسل “الإمام أحمد بن حنبل” الذي يعرض حاليًا على التليفزيون القطري، منذ كتابته التي أعيدت 4 مرات، وبالأخير قام على هذا العمل 3 مشايخ شرعيين على مدار عامين كاملين، وهم الدكتور حسن الحسيني، الشيخ مبارك الكبيسي، الدكتور محمد رفيق الحسيني، وكتب العمل في شكله النهائي محمد اليساري، ويخرجه عبد الباري أبو الخير، ومن إنتاج محمد سامي العنزي عبر شركته البراق للإنتاج الإعلامي.
وبالإضافة إلى موعد عرضه الذي كان من المفترض أن يكون رمضان 2016، واعتذار كل من الممثلين السوريين قصي خولي وغسان مسعود، عن المسلسل للشركة المنتجة للمسلسل القطرية، تعرّض تصوير المسلسل إلى عقبات كبيرة أخرى، فسبق أن تعذر دخوله إلى مراكش، مما دفع الجهة المنتجة إلى اختيار أوزباكستان والجزائر كمكانٍ بديل، وبعدها الهند كوجهةٍ أخيرة، لكن كل تلك الخيارات لم تنجح، وانتهى المطاف بـ”أحمد بن حنبل” في ماردين التركية ولبنان.
المسلسل الآن بعد كل ما سبق، أطلقته شبكة قناة قطر في رمضان 2017 الحالي، ويؤدي الفنان مهيار خضور دور الإمام أحمد بن حنبل، كما يشارك في العمل أبرز النجوم العرب كالممثل سلوم حداد الذي يقوم بدور هارون الرشيد، مع كوكبة من الممثلين المميزين مثل قاسم ملحو وعاكف نجم ورامز أسود وشادي مقرش ومحمود خليلي وكفاح الخوص وكرم شعراني ويوسف المقبل وحازم زيدان وسهيل جباعي والممثلة قمر خلف وجيانا عبيد.
خروج مسلسل “أحمد بن حنبل” إلى النور وعرضه على التليفزيون القطري آثار الرأي العام
ويسلط المسلسل الضوء على الإمام أحمد بن حنبل واهتمامه بالشعر وطلب العلم وقوته في اللغة، وحرصه على تحصيل العلم ومعاناته الشديدة لفقرة وكسب العيش، وقصة بروزه بعد وفاة الإمام الشافعي، وتصديه منفردًا لفتنة خلق القرآن وسجنه، ثم وفاة المأمون وتولي المعتصم الحكم، وقصة دخوله وخروجه من السجن، وانتهاء فتنة خلق القرآن، وصراعاته المتكررة الفكرية ونقاشاته مع المخالفين.
وتدور أحداث المسلسل حول فترة الدولة العباسية في عصر الخليفة هارون الرشيد، إذ يسلط على مدينة بغداد فيرصد حياتها الاجتماعية ويرصد الطبقة الفقيرة التي عاش فيها أحمد بن حنبل، وكذلك الطبقة الوسطى، إضافة إلى التركيز على بعض الفتوحات الإسلامية في عصر هارون الرشيد، وصراع الأمين والمأمون على السلطة.
مسلسل الإمام محاولة لتصحيح هذه الصورة في أذهان الناس، حيث كان جميع الأئمة أصدقاءً وكانوا يتزاورون غير ما يشاع في الإعلام من تشويه فظيع وعنيف لهذا الدين الحنيف البسيط الجميل الذي يتوافق مع الطبيعة والتلقائية والجذور الإنسانية الجميلة
وبعد خروج المسلسل إلى النور وعرضه على التليفزيون القطري، آثار الرأي العام على مواقع التواصل الاجتماعي، وشن مفتي السعودية عبد العزيز آل الشيخ هجومًا على المسلسل، برفضه تجسيد شخصية الإمام أحمد بن حنبل في عمل درامي، قائلاً: “هؤلاء أئمة هدى أصحاب أصحاب رسول الله لا ينبغي أن نمثلهم في هذه المواضع”.
على الجانب الآخر أكد الفنان السوري فائق عرقسوسي، أهمية الأعمال التي تتحدث عن شخصيات دينية وتاريخية مثل مسلسل “أحمد بن حنبل”، وقال إن المسلسل عودة قوية لتصحيح الاتجاهات الدينية وإزالة ما علق بأذهان الناس بأن ابن حنبل رجل متشدد أو متطرف أو أحكامه قاسية.
وأوضح عرقسوسي أن المسلسل محاولة لتصحيح هذه الصورة في أذهان الناس، حيث كان جميع الأئمة أصدقاءً وكانوا يتزاورون غير ما يشاع في الإعلام من تشويه فظيع وعنيف لهذا الدين الحنيف البسيط الجميل الذي يتوافق مع الطبيعة والتلقائية والجذور الإنسانية الجميلة.
أبطال مسلسل ” أوركيديا”
الدراما السورية لها نصيب هذا العام أيضًا من المسلسلات التاريخية فيعرض لها حاليا مسلسل “أوركيديا” وهو عمل تاريخي متخيل بزمان ومكان افتراضيين، يعالج قصص تتضمن حروب الممالك وأطماع الحكم والنفوذ والثأر والاجتياح والهروب، والكر والفر في مفاصل السلطة ومؤامرات أروقتها وشخوصها، والنزاعات مع الداخل والخارج، إضافة إلى سؤال دائم عن اليد العليا في علاقة القدر والإنسان.
وتدور أحداث المسلسل التليفزيوني الذي يخرجه حاتم علي، المؤلف من ثلاثين حلقة حول “عتبة بن الأكثم” باسل خياط، الذي يفر مع أخته “رملة” إيميه صيّاح ووالدتهما إلى ملك سامارا “إنمار” جمال سليمان، بعدما اجتاح ملك أشوريا “الجنابي” سامر المصري مملكتهم أوركيديا قاتلاً الوالد الملك، ليبدأ رحلة الثأر واستعادة حكم والده.
الدراما السورية نجحت في انتزاع صدارة الإنتاج الدرامي الديني من مصر، بتقديمها عدة مسلسلات دينية تاريخية حققت نجاحًا منقطع النظير
عند الرجوع إلى الخلف قليلاً نجد أن الدراما السورية نجحت في انتزاع صدارة الإنتاج الدرامي الديني من مصر، بتقديمها عدة مسلسلات دينية تاريخية حققت نجاحًا منقطع النظير.
والمتابع لها، سيجد أن الكاتب وليد سيف والمخرج حاتم علي كونا فريقًا متفاهمًا نجح في تقديم العديد من الأعمال الدرامية الدينية التاريخية بشكل حقق نجاحًا كبيرًا في الوطن العربي بأكمله، مثل ثلاثية الأندلس “صقر قريش”، “ربيع قرطبة”، “ملوك الطوائف”، إضافة إلى مسلسل “صلاح الدين” ومسلسل “عمر” الذي أحدث ضجة كبرى وقت عرضه.
الكاتب والباحث السوري ميسرة بكور، أوضح في تصريح لصحيفة “البديل” أسباب تفوق المسلسلات التاريخية السورية عن غيرها، فقال: “المشاهد عندما يتابع العمل التاريخي السوري يجد نفسه يعيش أجواء تلك الحقبة الزمنية بكل أبعادها من إتقان اللغة الفصحى المقربة من الجمهور البعيدة عن التكلف، إلى الإكسسوار والملابس وتقنية الصوت، حيث نجح صناع الدراما التاريخية في الخروج من القالب النمطي من التصوير في الاستوديوهات المغلقة إلى التصوير الخارجي في الطبيعة، كما تم كسر استخدام الكاميرا الواحدة، واستطاع المخرجون أخذ لقطات بعدة كاميرات للمشهد الواحد، وتركوا مساحة أوسع للصورة كي تتكلم وبطريقة مشوقة عن المشهد والأحداث”.
مشهد من مسلسل “محمد رسول الله”
قبل معرفة أسباب تراجع الدراما التاريخية المصرية التي كانت في الصدارة لسنوات عديدة، لا بد من ذكر أن مصر تشارك هذا العام أيضًا بعمل تاريخي ديني يعرض على التليفزيون المصري وهو مسلسل “قضاة عظماء”، وهو عبارة عن جزء ثانٍ، حيث إن الجزء الأول منه قد تم عرضه في رمضان 2016، وهو من إنتاج شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات التي تعد من مؤسسات الإنتاج المهمة في مصر، فهي تابعة للدولة تشاركها الإنتاج شركة “دي لايت”.
المسلسل من تأليف كل من عبد القادر الأطراش وأحمد مارديني وفتحي السيد وسمر تغلبي وإخراج عبد القادر الأطراش، وأدوار هذا المسلسل موزعة بين قرابة 30 ممثلاً وممثلة من مصر وسوريا، من بينهم أحمد عبد العزيز وكمال أبو رية وطارق دسوقي وسوزان نجم الدين وجمال عبد الناصر ومادلين طبر وعبد الرحمن أبو زهرة وأحمد زاهر ومجموعة أخرى من الممثلين والنجوم المتميزين.
وفكرة المسلسل تدور حول التعريف بمجموعة من القضاة المهمين الذين عرفهم الإسلام على مر التاريخ، فالعمل يهدف إلى إظهار المعنى الحقيقي للإسلام الذي يقوم على التسامح والوسطية والاعتدال ومحاربة سفك الدماء ونشر الرسالة دون اللجوء إلى العنف، وتم الاستعانة في مسلسل قضاة عظماء بتقنيات مونتاج وتصوير وجرافيك حديثة ذات جودة عالية ودقة كبيرة.
على الرغم من ذلك لم يلق المسلسل شهرة واسعة بين زخم المسلسلات المصرية المعروضة حاليًا على الفضائيات، والسؤال الذي يفرض نفسه الآن لماذا غابت المسلسلات الدينية عن سباق الدراما المصرية في رمضان؟
الناقد الفني طارق الشناوي في تعقيبه على الأمر إن عدم وجود مسلسل ديني هذا العام يعتبر كارثة حقيقية، ووصف ذلك بأنها حرب غير معلنة لمنع أي عمل ديني وإلهاء الناس بالمسلسلات الدرامية والكوميدية
قال المخرج مجدي أبوعميرة خلال تصريحات لشبكة “إرم نيوز” الإخبارية، إن السبب الحقيقي وراء اختفاء المسلسلات الدينية عن الدراما المصرية في رمضان، ابتعاد الدولة عن الإنتاج التليفزيوني، موضحًا أن المنتج الخاص لن يُغامر بعمل لن يربح من إنتاجه، مما أدى لعدم وجود منظومة تحدّد الشكل الدرامي الذي ستقدمه أعمال رمضان كما في السابق.
وقال الناقد الفني طارق الشناوي في تعقيبه على الأمر إن عدم وجود مسلسل ديني هذا العام يعتبر كارثة حقيقية، ووصف ذلك بأنها حرب غير معلنة لمنع أي عمل ديني وإلهاء الناس بالمسلسلات الدرامية والكوميدية.
وأضاف أن هناك حرب غير معلنة ضد الأعمال الدينية، ولو نظرنا بتمعن سنجد أن هناك تجاهل تام لهذه النوعية من المسلسلات من قبل الدولة، ولو تحمس لها أحد من الفنانين أمثال حسن يوسف مثلاً نجد أن هناك حرب غير مشروعة ضدها، فتجدهم يغيرون مواعيد عرضها ويضعونها في أوقات غير جيدة إما في الصباح الباكر والناس نيام أو في المساء المتأخر والناس نيام أيضًا.
مشهد من مسلسل ” قضاة عظماء
وأرجع الشناوي عدم وجود ورق جيد ليتم تقديمه بأن الكتاب أحجموا عن كتابة هذه النوعية من المسلسلات لأنها متعبة جدًا وتحتاج لجهد كبير في التوثيق ووصف الملابس والحقبة الزمنية وغيرها، وفي النهاية يؤخذ المسلسل ليوضع في الأدراج في الوقت الذي تؤخذ المسلسلات الدرامية والحواديت لتنتج ويصرف عليها الملايين وبالتالي لم يعد هناك كتابًا لها.
من جهته أكد المؤلف بهاء الدين إبراهيم أشهر كاتبي المسلسلات الدينية أن سبب تراجع بل اختفاء المسلسلات الدينية يرجع إلى الجشع والبحث عن المادة الذي وصل إليه المسؤولون في كل مكان وخاصة في القنوات التليفزيونية التي تبحث عن المسلسلات التي تحتوي على مشاهد الرقص والأغاني والمخدرات لتحقيق نسب مشاهدة عالية وبالتالي زيادة نسبة الإعلانات.
مصر كانت في حقبة الثمانينيات والتسعينيات في صدارة الدراما الدينية والتاريخية وتقدمها إلى الوطن العربي في شكل درامي مبسط بعيدًا عن التفاصيل التاريخية
وأضاف بهاء الدين أن نجوم التمثيل يعتذرون عن عدم المشاركة في المسلسلات الدينية، لسببين الأول منها أن ميزانيتها غالبًا ما تكون بسيطة مقارنة بالأعمال الدرامية، وثانيًا لأنها تعرض في أوقات إما متأخرة جدًا أو مبكرة جدًا وبالتالي لا تحقق نسبة مشاهدة عالية لنفاجأ جميعًا بأنها أصبحت أعمالاً غير مطلوبة.
جدير بالذكر أن مصر كانت في حقبة الثمانينيات والتسعينيات في صدارة الدراما الدينية والتاريخية وتقدمها إلى الوطن العربي في شكل درامي مبسط بعيدًا عن التفاصيل التاريخية، وحققت نجاحًا كبيرًا في هذا القطاع، ومن أبرز تلك المسلسلات التي لا تزال عالقة بأذهان المشاهدين مسلسل “لا إله إلا الله” بأجزائه الأربعة، “محمد رسول الله”، “الوعد الحق”، وغيرها الكثير، لكنها بالأخير تراجعت بشكل كبير للغاية وظهر منافس جديد على الساحة وهي الدراما السورية التاريخية.
الكتابة التاريخية تحتاج إلى جهد في البحث والتدقيق في المعلومات المقدمة إلى الجمهور
وتعقيبًا على ذلك قال الناقد الفني رامي عبد الرازق إن مصر أصبحت حاليًا لا تمتلك كتاب دراما دينية بالقدر الكافي بعد جيل أمينة الصاوي وبهاء الدين محمد، الذي قدم عصر الأئمة والشعراوي، مرجعًا السبب في ذلك إلى أن مصر أصبحت لا تهتم بدراسة هذا النوع من الكتابة، حتى في المعاهد المتخصصة بدراسة السينما، فالكل يبحث عن الكتابة السهلة التي لا تتطلب مجهودًا، خصوصًا أن الكتابة التاريخية تحتاج إلى جهد في البحث والتدقيق في المعلومات المقدمة إلى الجمهور.
وأشار أن سوريا نجحت في هذا القطاع لأنها قائمة على مبدأ الأجيال التي يسلم كل منها الآخر، وهو ما نفتقده في مصر، فالأجيال التي برعت في هذا النوع من الكتابة بدأت في الاختفاء دون أن تستفيد الأجيال الحالية منها.
الخلاصة.. الداء الذي أصاب الدراما التاريخية العربية أصبح معلومًا وله دواء، لكن من يسعى لمعالجته بعدما توغل في جسد الدراما التاريخية والدينية أنهك قواها؟ الجواب سوف يتضح السنوات القادمة من خلال الأعمال الدرامية الجديدة التي تسعى لدخول السباق الرمضاني بقوة مثل المسلسلات التاريخية السورية.