ترجمة وتحرير نون بوست
استشار تشارلز بلو، كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز، جوناثان جرينبلات، الرئيس التنفيذي لرابطة مكافحة التشهير للحصول على بعض “الفهم المشترك” حول العلاقة بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية. وقال غرينبلات، الذي عاد لتوه من المسيرة من أجل إسرائيل التي أقيمت في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر في ناشونال مول في واشنطن العاصمة، لبلو إنه يعتبر معاداة الصهيونية، بحكم تعريفها، معاداة للسامية، لأن “الصهيونية مبدأ أساسي لليهودية”.
إن الشخص الذي يدعي أنه معاد للصهيونية ولكن ليس معاد للسامية، وفقًا لغرينبلات، سيكون “مثل شخص قال في سنة 1963: “أنا ضد حركة الحقوق المدنية، ولكنني أيضًا ضد العنصرية”. حقًا؟
وبغض النظر عن هذا القياس في الوقت الحالي؛ فإن الادعاء بأن معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية “بحكم تعريفها” يبدو لي – وأنا يهودي معادٍ للصهيونية – غير متسامح بشكل لا يصدق ويظهر جهلًا هائلًا بالتاريخ. لنبدأ بالتاريخ؛ فاليهودية – وفقًا لإجماع الخبراء – نشأت منذ حوالي 3700 سنة في ممالك ذات الصلة بإسرائيل ويهوذا. ولقد أدى السبي البابلي لليهود وغيره من الأحداث غير المرغوب فيها خلال الفترات الهلنستية والرومانية إلى تشتت الجماعات اليهودية في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط، وتشكيل ثلاث مجتمعات شتات متميزة (الأشكناز، والسفارديم، والمزراحيم).
وفي القرون التالية، تفاعلت هذه المجتمعات مع جيرانها المشركين والمسيحيين والمسلمين بطرق مختلفة، وشهدت انقسامات دينية وثقافية متكررة، وأنتجت أيضًا حركات إحياء – ربما تكون اليهودية الحسيدية أشهرها. وهناك تطوران في أوروبا ما بعد عصر التنوير جديران بالملاحظة: تحرير اليهود من مختلف القيود القانونية بفضل الثورة الفرنسية والفتوحات النابليونية، والتنوير اليهودي المتزامن (الهسكلة) الذي شدد على الثقافة العلمانية والابتعاد عن اليديشية.
وشهدت أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تطورين آخرين: هجرة أعداد كبيرة من اليهود من أوروبا إلى الأمريكتين، وظهور القومية اليهودية، أو الصهيونية الحديثة، التي سعت إلى إقامة وطن قومي لليهود. وكان كلاهما بمثابة رد فعل على استمرار معاداة السامية في أوروبا وفشل إستراتيجيات الاستيعاب في التعامل معها. منذ مؤتمرها الأول في سنة 1897؛ أعلنت المنظمة الصهيونية بقيادة تيودور هرتزل أن اليهود، مثل أي مجموعة قومية أخرى، يستحقون وطنًا خاصًا بهم – أي دولتهم القومية.
وعلى الرغم من أن الصهاينة قد حققوا بعض النجاح المبكر في تجنيد اليهود الأوروبيين للاستقرار في فلسطين التي كانت تحت سيطرة العثمانيين، إلا أن أعدادهم ظلت صغيرة حتى سنة 1914 مقارنة بالسكان الأصليين المسلمين والمسيحيين وكذلك موجة المهاجرين عبر المحيط الأطلسي. وفي أوروبا، واجهت الصهيونية مقاومة كبيرة من اليهود الذين انضموا إلى الحركات الأممية، وخاصة ذات الإلهام الماركسي.
لذلك؛ قبل وصول النازيين إلى السلطة في ألمانيا، كانت الغالبية العظمى من اليهود تضحك على فكرة أن الصهيونية كانت “أساسية لليهودية”، ولقد استغرق الأمر الكثير لتحقيق المشروع الصهيوني المتمثل في إنشاء دولة إسرائيل التي من شأنها أن تتحمل عبء حماية جميع اليهود الذين هاجروا إلى تلك الدولة.
لقد تطلب الأمر مكائد الاستعمارية البريطانية، والإصرار على جمع الأموال من اليهود الأثرياء وغيرهم، وعمل منظمات “الدفاع عن النفس” اليهودية شبه العسكرية بأسماء مثل الهاغاناه والإرغون وليهي (“عصابة شتيرن”) التي نفذت مهام إرهابية ضد كل من البريطانيين والفلسطينيين، لكن العامل الحاسم كان بلا شك الهولوكوست وعدم رغبة الولايات المتحدة المستمرة في استقبال أكثر من جزء صغير من اللاجئين اليهود قبل وأثناء وحتى بعد الحرب.
وفي سياق تحقيق المشروع الصهيوني؛ نزح الكثير من الأشخاص الآخرين، أو فقدوا، أو تعرضوا للقيود الشديدة على وطنهم، كما تم تقييد حقوق الفلسطينيين المدنية والسياسية حتى في ظل الحكومات الإسرائيلية الليبرالية نسبيًّا، ولا عجب أن السنوات الخمس والسبعين من استقلال إسرائيل تخللتها في كثير من الأحيان حروب: حرب الاستقلال سنة 1948/ النكبة الفلسطينية؛ وأزمة السويس سنة 1956 عندما انضمت إسرائيل إلى بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين الجديدتين لمهاجمة مصر الناشئة، وحرب الأيام الستة سنة 1967 عندما استولت إسرائيل على الضفة الغربية من الأردن، ومرتفعات الجولان من سوريا، وشبه جزيرة سيناء من مصر، وحرب يوم الغفران سنة 1973 (التي بدأتها مصر لاستعادة سيناء)، والحرب التي شنتها إسرائيل سنة 1982 لطرد منظمة التحرير الفلسطينية من جنوب لبنان، والانتفاضتين 1987-1993 و2000-2005؛ والحرب بين إسرائيل وحماس سنة 2023.
وهذه القائمة الكئيبة لا تشمل المناوشات الأكثر تواترًا، وحالات رمي الحجارة، ورمي المقلاع، والاختطاف، والسجن، وإطلاق النار على المدنيين الفلسطينيين من قبل الجنود الإسرائيليين، والضرب من قبل المستوطنين، والهجمات على المدنيين الإسرائيليين. وما يسمى “عمليات القتل المستهدف” وغيرها من أشكال العنف التي تشير إلى سوء النية المتوطن.
ومع ذلك؛ ربما لا يعتبر معظم الإسرائيليين أنفسهم عنصريين، لكنهم لا يفضلون بالضرورة الحقوق المتساوية لجميع سكان إسرائيل أيضًا. ومع ذلك؛ هناك الملايين من اليهود المنتشرين في جميع أنحاء العالم الذين يفعلون ذلك؛ حيث إن رفضهم لإصرار الصهاينة على شرط دعم إسرائيل ما قد يجعلهم لا معادين للسامية ولا “يهودًا يكرهون أنفسهم”. قد يكونون ببساطة غير قوميين أو حتى مناهضين للقومية، أي أمميين.
وبهذا المعنى، فهم ورثة تقليد يهودي طويل يعود إلى الفيلسوف البرتغالي اليهودي باروخ سبينوزا في القرن السابع عشر، والذي واصله الشاعر الألماني اليهودي هاينريش هاينه، لكارل ماركس، وروزا لوكسمبورغ، وليون تروتسكي، وقد أطلق عليهم إسحاق دويتشر، الماركسي اليهودي البولندي، اسم “اليهود غير اليهود”، ولقد تجاوز كل منهم خصوصياته العرقية أو الدينية للنضال من أجل تحرير الجميع.
وفي مقابلة أجراها سنة 1967 في أعقاب حرب الأيام الستة (وقبل وقت قصير من وفاته)، أشار دويتشر إلى إسرائيل، المنتصرة في ثلاث حروب متتالية، باسم “بروسيا الشرق الأوسط”. لكن بروسيا الشرق أوسطية هذه كانت – كما لاحظ دويتشر – “محاكاة ساخرة ضعيفة للأصل” بمعنى أن “البروسيين كانوا على الأقل قادرين على استخدام انتصاراتهم لتوحيد جميع الشعوب الناطقة بالألمانية التي تعيش خارج الإمبراطورية النمساوية المجرية في الرايخ، بينما كان الإسرائيليون عالقين في مشكلة ما يجب فعله بالعرب المهزومين. هل يجب عليهم – كما حث بن غوريون، في “الروح الشريرة للشوفينية الإسرائيلية” – إنشاء محمية إسرائيلية على الضفة الغربية لنهر الأردن؟ حيث قال:
“ولا يبدو أن أيًا من الأحزاب الإسرائيلية مستعدة حتى للتفكير في قيام دولة عربية إسرائيلية ثنائية القومية. وفي الوقت نفسه، تم “إقناع” أعداد كبيرة من العرب بمغادرة منازلهم المطلة على نهر الأردن، وكانت معاملة أولئك الذين بقوا في إسرائيل أسوأ بكثير من معاملة الأقلية العربية في إسرائيل التي ظلت تحت الأحكام العرفية لمدة 19 سنة. نعم، هذا النصر أسوأ بالنسبة لإسرائيل من الهزيمة.
وبعيدًا عن منح إسرائيل درجة أعلى من الأمن، فقد جعلها أقل أمنًا بكثير، وإذا كان الانتقام والإبادة العربية هو ما يخشاه الإسرائيليون، فقد تصرفوا وكأنهم عازمون على تحويل الشبح إلى تهديد حقيقي”.
إذن ما مدى أهمية الصهيونية بالنسبة لليهودية؟ ففي أعقاب هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، والعدد الكبير من الأعمال المعادية للسامية التي ارتُكِبَت في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم ردًا على العنف الانتقامي الذي مارسه الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة، ربما نفكر في سؤال آخر: ما مدى أهمية معاداة الصهيونية بالنسبة لليهودية؟
المصدر: ذا نيشن