ترجمة وتحرير: نون بوست
لجأت السلطات الأمريكية لاستخدم أجهزة مراقبة متطورة تعرف بتقنية ستينغراي. وتتمتع هذه الأجهزة بالقدرة على اعتراض الاتصالات وتتبع المكالمات الشخصية عبر الهواتف الجوالة. وفي الأثناء، لا تزال هذه التقنية غامضة كما أنها أثارت سحابة من الجدل في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة وأنها تنضوي تحت بند اتفاق عدم الكشف عن السرية.
في المقابل، نجحت مجموعة من الباحثين في سياتل في إيجاد طريقة جديدة لتعقب تلك الأجهزة وذلك من خلال تجنيدسيارات تقدم خدمة تقاسم الرحلات البرية، أو ما يعرف بمشاركة المركبات أو “كاربوول” حتى تكون بمثابة أجهزة التجسس خاصة بهم.
وعلى امتداد شهرين خلال السنة الماضية، قام باحثون في جامعة واشنطن بتقديم مبالغ مالية، لسائقي سيارات مجهولي الهوية يقدمون خدمة “كاربوول”، مقابل تثبيت أجهزة استشعار في صناديق سياراتهم الخلفية. وبالتالي، تحولت تلك المركبات إلى أجهزة تعقب وذلك بهدف جمع بيانات الهواتف الخلوية.
في أعقاب ذلك، وظف الباحثون النتائج التي حصلوا عليها لوضع خريطة تشمل تقريبا كل أبراج الاتصالات في مدينتي سياتل وميلووكي جنبا إلى جنب مع اثنين من أجهزة الإرسال الشاذة التي يعتقدون أنها تعتمد تقنية ستينغراي. وعلى الأرجح، توجد هذه الأجهزة في مكتب دائرة الجمارك والهجرة الأمريكية في سياتل ومطار سياتل تاكوما الدولي.
باتت أجهزة ستينغراي، التي يطلق عليها أيضا اسم أجهزة محاكاة مواقع الهواتف الخلوية أو أجهزة تعقب “إمسي“، أداة قوية وغامضة تستخدمها السلطات في صلب الدولة بغية مراقبة المواطنين
وبغض النظر عن تحديد مصدر أجهزة المراقبة هذه والجهة التي تقف وراءها، أشار الباحثون إلى أن تقنية جمع البيانات الخاصة عبر سيارات كاربوول يمكن أن تتحول إلى طريقة جديدة ومنخفضة التكلفة نسبيا لتسليط المزيد من الضوء على حقيقة اعتماد العديد من الأطراف على تقنية ستينغراي في المناطق الحضرية في جميع أنحاء العالم.
وفي هذا الإطار، أورد بيتر ناي، أحد الباحثين في جامعة واشنطن الذين سيقدمون الدراسة التي قاموا بها خلال “ندوة تعزيز الخصوصية” في يوليو / تموز، “لقد تساءلنا، كيف يمكننا أن نوسع نطاق هذه الآلية حتى تشمل مدينة بأكملها؟”. وأكد ناي أنهم قد استوحوا الفكرة جزئيا من تقنية “قرصنة الشبكات اللاسلكية”، وهي خدعة قديمة اعتمدها قراصنة الشبكات. وفي الأثناء، تمكن القراصنة من تتبع شبكات واي فاي غير آمنة وذلك من خلال استخدام جهاز كمبيوتر محمول والقيادة في مناطق مختلفة. وفي هذا الصدد، أوضح ناي أنه “في الواقع، تعد السيارة أداة فعالة حقا لتثبيت أجهزة الاستشعار وبناء شبكة رصد واسعة”.
ناي وسميث يقومان بتثبيت جهاز استشعار “سيغلاس”
البحث عن أجهزة ستينغراي
في واقع الأمر، باتت أجهزة ستينغراي، التي يطلق عليها أيضا اسم أجهزة محاكاة مواقع الهواتف الخلوية أو أجهزة تعقب “إمسي“، أداة قوية وغامضة تستخدمها السلطات في صلب الدولة بغية مراقبة المواطنين. وفي هذا الصدد، تعمل هذه السلطات على التلاعب بالبيانات وخداع مستخدمي الهاتف الجوال حتى تتمكن من جعل هواتفهم الجوالة على اتصال بأبراج الاتصالات الخاصة بها بدلا من أبراج الاتصالات الحقيقية. ومن هذا المنطلق، تمكنت السلطات من اعتراض الاتصالات، وتتبع مكان المشتبه بهم، وتثبيت برامج ضارة ببعض الهواتف المستهدفة.
في الحقيقة، عمدت الشرطة والوكالات الفيدرالية الأمريكية إلى الحفاظ على سرية المعلومات فيما يتعلق بكيفية وظرفية استخدام أجهزة ستينغراي قدر الإمكان، حتى أنها قامت بإسقاط قضايا ضد مشتبه بهم جنائيا حتى تتجنب الكشف عن تفاصيل هذه التقنية السرية. والجدير بالذكر أن هذه التقنية تعتبر قانونية ويسمح للسلطات اعتمادها دون الحاجة لأمر تفتيش، في العديد من الولايات الأمريكية.
وفي ظل عدم توفر معلومات كافية، حاول باحثو جامعة واشنطن استخدام تقنية جديدة ومختلفة حتى يكتشفوا المزيد من الخبايا فيما يخص تقنية ستينغراي. في مطلع شهر آذار/ مارس سنة 2016، شرع الباحثون في تنفيذ تجربتهم، حيث قاموا بتقديم 25 دولارا في الأسبوع إلى 15 سائق “كاربوول” وذلك حتى يسمحوا لهم بتثبيت جهاز بحجم حقيبة أطلقوا عليه اسم “سيغلاس”. ومن المثير للاهتمام أن صندوق الاستشعار يحتوي على عتاد تبلغ قيمته 500 دولار، قام فريق الباحثين شخصيا بتجميعه.
قام الباحثون بفحص تلك البيانات بشكل دقيق بحثا عن حالات شذوذ، على غرار أبراج اتصالات تغير موقعها بصفة مفاجئة، أو أخرى ظهرت واختفت، أو أبراج ترسل إشارات ضعيفة، أو أبراج أخذت مكان أبراج أخرى في مكان قريب
والجدير بالذكر أن جهاز سيغلاس يشتمل على وحدة “نظام التموضع العالمي”، ومودم خلوي ، وجهاز كمبيوتر مصغر “راسبيري باي” لتجميع البيانات فيما يتعلق ببرج الاتصال الذي على اتصال بالمودم الخلوي. فضلا عن ذلك، يشتمل الجهاز على “هوت سبوت خلوي” لتحميل البيانات القادمة وإرسالها للنظام الرئيسي الذي يستخدمه فريق الباحثين، بالإضافة إلى هاتف أندرويد يعتمد برنامج تشغيل قديم يطلق عليه اسم “سنوب سنيتش”، صمم من قبل باحثين ألمان، وذلك حتى يكون بمثابة مصدر آخر لجمع البيانات المتأتية من أبراج الاتصالات.
من جهة أخرى، تستمد أجهزة الاستشعار سيغلاس الطاقة من المقابس الكهربائية المخصصة لولاعات السجائر الكهربائية المثبتة على لوحات القيادة. وقد تم تصميم هذه الأجهزة حتى تشتغل وتشرع في مهمة جمع البيانات فور تشغيل محرك السيارة. وعلى امتداد شهرين متتالين، عمد الباحثون إلى جمع بيانات مفصلة عن كل جهاز إرسال لاسلكي متصل بمودم “سيغلاس” وهواتف “الأندرويد” أثناء تنقل السيارات عبر المدينتين. وقد تمكنوا من تحديد ما يقارب 400 1 برج اتصالات في سياتل، و700 برج في ميلووكي.
في أعقاب ذلك، قام الباحثون بفحص تلك البيانات بشكل دقيق بحثا عن حالات شذوذ، على غرار أبراج اتصالات تغير موقعها بصفة مفاجئة، أو أخرى ظهرت واختفت، أو أبراج ترسل إشارات ضعيفة، أو أبراج أخذت مكان أبراج أخرى في مكان قريب، أو تلك التي تبث على نطاق أوسع ترددات إرسالية غير مشابهة لأي برج اتصالات عادي.
رسم بياني يجسد البيانات التي تم جمعها مع مرور الوقت، بما في ذلك إشارات الإرسال الخلوية التي تفد بأعداد غير اعتيادية عبر ترددات مختلفة والتي تم رصدها حول مكتب مصلحة الجمارك والهجرة الأمريكية في سياتل
مجموعة من القيم الشاذة
خلال هذين الشهرين، اكتشف الفريق ثلاث حالات شذوذ جديرة بالملاحظة، وجدت كلها في منطقة سياتل. من ناحية أخرى، بين الباحثون أن تغطيتهم لميلووكي كانت غير فعالة، حيث كان ستة فقط من السائقين الخمسة عشر يعملون هناك، في حين كانت ساعات عملهم محدودة خلافا للسائقين الذين يعملون في سياتل.
وفي الأثناء، اكتشف الباحثون وجود برج خلوي مثبت حول مكتب دائرة الجمارك والهجرة الأمريكية في سياتل. ويقوم هذا البرج بتغيير القناة التي يبث عليها بصفة دورية، كما يراوح بين ستة أنواع مختلفة من الإشارات. ويعد هذا البرج أكثر تطورا من أي برج آخر قاموا باختباره، حيث أظهرت 96 بالمائة من بياناتهم أن معظم الأبراج تبث على قناة واحدة. ووفقا للباحثين، تعمل بعض الأجهزة وفقا لترددات متعددة مما يسمح لها ببث إشارات على ذبذبات برج اتصالات آخر أثناء البث على تردد قريب منه، وذلك حتى لا تتداخل إشاراتها مع إشارات البرج الحقيقي.
وفي شأن ذي صلة، رصد الفريق أدلة تشير إلى احتمال وجود جهاز يعتمد على تقنية ستينغراي في مطار سياتل تاكوما الدولي. ومن بين عدة قراءات في ذلك الموقع، التي كان يبدو من الواضح أنها متأتية من أبراج ثابتة قريبة، اكتشف فريق الباحثين إشارة واحدة لها معرفات فريدة، على عكس ملايين مصادر البيانات الأخرى التي تم تجميعها. وقد ظهرت هذه الإشارة لفترة قصيرة فقط، في مساء 9 من أبريل/نيسان سنة 2016.
أقر الباحثون بأنهم لا يملكون أي دليل مؤكد على استخدام تقنية ستينغراي في مقر دائرة الجمارك والهجرة الأمريكية أو في المطار، إلا أن البيانات التي جمعوها تشتمل على معطيات تؤكد صحة ظنونهم في هذا الشأن
أما بالنسبة للموقع الثالث، فقد رصد الباحثون إشارة ظهرت مرة واحدة فقط في حي واست سياتل، ولكنها تطابقت مع جميع معرفات برج اتصالات تم رصده في موقع آخر في وسط مدينة سياتل على بعد أكثر من 3 أميال. وعلى الرغم من أن هذه البيانات الغريبة قد تدل على وجود جهاز ستينغراي لفترة قصيرة، إلا أن الباحثين أوضحوا أن ذلك قد يكون مجرد إشارة خاطئة.
عموما، أقر الباحثون بأنهم لا يملكون أي دليل مؤكد على استخدام تقنية ستينغراي في مقر دائرة الجمارك والهجرة الأمريكية أو في المطار، إلا أن البيانات التي جمعوها تشتمل على معطيات تؤكد صحة ظنونهم في هذا الشأن. في السياق ذاته، أورد الباحثون أن تقريرا صادرا عن “ديترويت نيوز” قد كشف أن وكلاء من مكتب التحقيقات الفيدرالي و ووكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك قاموا باستخدام أحد الأجهزة التي تعتمد تقنية ستينغراي لتحديد مكان مهاجر من السلفادور. وقد قاموا بترحيله دون وجود أي سجل جنائي بشأنه، حيث اقتصر الأمر على وجود ادعاءات بأنه كان يقود سيارته تحت تأثير الكحول.
أما فيما يتعلق بالمطار، يعتقد الباحثون أن تقنية ستينغراي يمكن أن تكون أداة قوية لرصد هاتف مشتبه به وسط حشد كبير. وفي هذا السياق، قال الباحث إيان سميث، في جامعة واشنطن، أنه “في مثل هذه الحالات، يمكن أن نتخيل أن السلطات بصدد البحث عن شخص مشتبه به. وبالتالي، تعتبر هذه التقنية جيدة للغاية في تحديد ما إذا كان هذا الشخص أو مجموعة من الأشخاص موجودون وسط حشد معين من الأشخاص”.
من جانب آخر، أكد الباحثون أنهم لم يتمكنوا فعلا من تحديد كل المواقع التي تستخدم تقنية ستينغراي في سياتل. كما اعترف الباحثون أنه وفي ظل الطريقة التي اعتمدوها، من المرجح أنهم قد غفلوا عن عدة أماكن في سياتل يتم ضمنها توظيف تقنية ستينغراي بشكل سري. وقد كشفت السجلات العامة أن الشرطة في مدينة تاكوما المجاورة قد اعتمدت تقنية ستينغراي 168 مرة على الأقل بين سنتي 2009 و2014. عموما، يمكن تتبع هذه الاستخدامات من خلال استخدام آلية سيارات كاربوول.
واحدة من صناديق استشعار “سيغلاس” تم تثبيته في سيارة كاربوول
تحديد المسؤولين
عندما تواصل موقع ويرد مع وكالات إنفاذ القانون للاستفسار عن اثنين من تقنيات ستينغراي المحتملة، نفت كل من شرطة سياتل وشرطة ميناء سياتل المسؤولة عن مطار سياتل تاكوما الدولي امتلاك أي جهاز من هذا القبيل. وفي هذا الصدد، قال متحدث باسم شرطة سياتل إن شرطة المطار “لا تستخدم أي جهاز يعتمد على تقنية ستينغراي”. في الوقت ذاته، لم يتجاوب مكتب التحقيقات الفيدرالي مع الموقع وأبى التعليق على الموضوع.
في المقابل، أورد متحدث باسم وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك أن عملاء الوكالة “يستخدمون مجموعة واسعة من تقنيات التحقيق المشروعة بغية القبض على المشتبه بهم”. وأضاف المصدر ذاته أن “أجهزة تعقب الهواتف النقالة تعتبر من الآليات التي لا يمكن الاستغناء عنها، حيث تعمل على رصد الهاتف الجوال أو تحديد مواقعه أثناء التحقيقات الجنائية”. من جهة أخرى، رفض متحدث باسم إدارة مكافحة المخدرات أن يؤكد أو ينفي اعتماد هذه التقنية في خضم عمليات محددة. خلافا لذلك، أشار المصدر ذاته إلى أن “ستينغراي بمثابة أداة تحقيق قانونية يمكن استخدامها بهدف تفكيك المنظمات الإجرامية”.
صرح الباحث سميث “لمراقبة مدينة بأكملها، تبدو هذه العملية خطوة اقتصادية بامتياز”، من شأنها أن تكون أداة غامضة وقوية للتجسس على السلطات مما سيسمح بوضعها قيد المساءلة
من جانبهم، أكد الباحثون في جامعة واشنطن أنهم لم يكن لهم أي نية لتعطيل أي تحقيق من قبل السلطات، علما وأن هذه التحقيقات من المرجح أنه قد انتهت فعليا خاصة وأن البيانات قد تم جمعها منذ سنة تقريبا. عوضا عن ذلك، أفاد الباحثون أنهم أرادوا أن يقوموا بتجربة طريقة جديدة لجمع البيانات حول كيفية استخدام تقنية ستينغراي والمواقع التي تستخدمها. وفي الوقت الراهن، يأمل الباحثون أن يتابعوا تقصي الحقائق خلف هذا الموضوع من خلال الجمع بين البيانات والأدلة التي حظوا بها من خلال جهاز سيغلاس والسجلات العامة فضلا عن التحقيقات الصحفية.
على العموم، أكد الباحثون في جامعة واشنطن أنه مقابل ألف دولار شهريا أو ربما أقل من ذلك، سيتمكن الأكاديميون والناشطون في مدينة بحجم سياتل من الحصول على معلومات قيمة حول كيفية استخدام تقنية ستينغراي. وفي هذا الصدد، صرح الباحث سميث “لمراقبة مدينة بأكملها، تبدو هذه العملية خطوة اقتصادية بامتياز”، من شأنها أن تكون أداة غامضة وقوية للتجسس على السلطات مما سيسمح بوضعها قيد المساءلة.
المصدر: ويرد