شكّلت الهدنة المؤقتة التي جرى التوصُّل إليها بوساطة قطرية فرصة لالتقاط الأنفس في قطاع غزة، بعد نحو شهر ونصف من القتال المتواصل بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
وشكّلت هذه الهدنة المؤقتة فرصة أمام كافة الأطراف السياسية واللاعبة في الميدان، للوقوف أمام قراءة جديدة للمشهد في ضوء الفشل الإسرائيلي في حسم المشهد، وحالة الصمود الصلب للمقاومة والشعب الفلسطيني في قطاع غزة بطريقة أذهلت الاحتلال والعالم.
وتطرح الحالة القائمة سيناريوهات جديدة هي إما استمرار مزيد من الهدن الإنسانية، في مقابل إبرام مزيد من عمليات التبادل بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي بوساطة الدوحة والقاهرة وواشنطن، وإما استئناف القتال لأيام وربما أسابيع طويلة في ظل مجلس الحرب الإسرائيلي الحالي.
وفي ظلّ استمرار الحديث عن إمكانية استمرار القتال من رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، حتى القضاء على حركة حماس، فإن هذا الأمر قد يحمل إمكانية كبيرة للعودة إلى القتال من جديد بعد انتهاء مرحلة الهدن الإنسانية، سواء تكررت أو توقفت خلال الفترة الحالية.
إلا أن اللافت هو وجود قراءة عربية ودولية بعدم إمكانية القضاء على حركة حماس خلال الحرب المتواصلة للشهر الثاني على التوالي، حيث تصاعدت المواقف المؤكدة على استحالة تحقيق هذا الأمر وعدم واقعيته، بما في ذلك مواقف مسؤولين في الاتحاد الأوروبي.
وإلى جانب هذا، إن الموقف العربي الرافض لسيناريو التهجير هو العامل الأبرز في أن استمرار الحرب الحالية لن يؤدي إلى أية نتائج، سوى المزيد من التدمير والقتل في غزة، خصوصًا الأردن ومصر ورفضهما لأي حديث عن التهجير لاعتبارات أمنية وسياسية خاصة بهما.
ويمكن أن تؤدي عمليات التبادل الدائرة بوساطات عربية وأمريكية خلال الفترة الحالية، إلى طرح سيناريو التوصل إلى اتفاق تهدئة شامل، يضمن إجراء عملية تبادل ووقف إطلاق نار طويل الأمد بعض الشيء، إلى جانب إجراء عملية إعادة إعمار لقطاع غزة بعد الدمار الذي حلَّ به.
ففي الوقت الذي يريد فيه نتنياهو ومجلس حربه استعادة أسراهما البالغ عددهم أكثر من 239 أسيرًا في غزة قبل عملية التبادل الأخيرة، تريد المقاومة الفلسطينية وحركة حماس إجراء صفقة تاريخية تؤدي إلى تبييض السجون من كافة الأسرى الفلسطينيين، البالغ عددهم أكثر من 6 آلاف.
أصل التهجير.. خطة إسرائيلية قديمة
يتعرض الفلسطينيون منذ 75 عامًا للتهجير القسري الذي يصنَّف أيضًا كجريمة ضد الإنسانية، وهو سياسة ممنهجة يمارسها ضدهم الاحتلال الإسرائيلي منذ نكبة عام 1948، حيث عرف التاريخ حالات أخرى للتهجير القسري، مثل تهجير تتار القرم في عهد الزعيم السوفيتي السابق جوزيف ستالين عام 1944.
وخلال الحرب الحالية، عمد الاحتلال إلى إبعاد الفلسطينيين عن أراضيهم ومنازلهم بالقوة العسكرية، من خلال الأحزمة النارية التي كان يستهدف بها الأحياء السكنية، لإخلائها من السكان وإرهاب الآخرين، إلى جانب الطلب الواضح في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي من قرابة 1.1 مليون نسمة النزوح تجاه الجنوب.
ووفقًا لتقديرات أممية ورسمية حكومية في غزة، فإن إجمالي أعداد النازحين في قطاع غزة كاملًا من شماله إلى جنوبه يبلغ 1.7 مليون نسمة، في الوقت الذي تجاوز فيه أعداد الشهداء قرابة 20 ألف شهيد، بما يشمل من هم تحت الأنقاض والذين لم يتم انتشالهم.
وعاد الحديث عن التهجير من خلال الخطة التي تسرّبت ملامحها لأول مرة عام 2000، ووضعها جنرال الاحتياط الإسرائيلي الشهير غيورا آيلاند، الذي شغل منصب رئيس قسم التخطيط في جيش الاحتلال الإسرائيلي ورئيس مجلس الأمن القومي، وكانت مبنية على انسحاب إسرائيلي من قطاع غزة تحقّقَ فعلًا عام 2005.
ونصت الخطة على أن تنقل مصر إلى قطاع غزة مناطق من سيناء، مساحتها 720 كيلومترًا، وهذه الأراضي عبارة عن مستطيل ضلعه الأول يمتد على طول 24 كيلومترًا من شاطئ البحر المتوسط من رفح غربًا حتى العريش، وبعرض 20 كيلومترًا داخل سيناء، إضافة إلى شريط يقع غرب كرم أبو سالم جنوبًا، ويمتد على طول الحدود بين فلسطين المحتلة ومصر، وتؤدي هذه الزيادة إلى مضاعفة حجم قطاع غزة البالغ حاليًّا 365 كيلومترًا نحو 3 مرات.
وتوازي مساحة 720 كيلومترًا نحو 12% من أراضي الضفة الغربية، ومقابل هذه الزيادة على أراضي غزة يتنازل الفلسطينيون عن 12% من أراضي الضفة الغربية التي ستضمها “إسرائيل” إليها، شاملة الكتل الاستيطانية الكبرى، وغلاف مدينة القدس (وحاليًّا القدس نفسها حسب سياسة نتنياهو).
ومقابل الأراضي التي ستتنازل عنها مصر لتوسيع قطاع غزة، سيحصل الاحتلال على منطقة جنوب غربي النقب، توازي تقريبًا مساحة المنطقة التي ستتنازل عنها، وبعد ذلك تسمح “إسرائيل” لمصر بارتباط برّي بينها وبين الأردن، من خلال حفر قناة بينهما.
وستمرُّ القناة التي يبلغ طولها نحو 10 كيلومترات من الشرق إلى الغرب، على بُعد 5 كيلومترات من إيلات، وتكون خاضعة للسيادة المصرية، واقترح آيلاند أن تقترح أوروبا المشروع وتتبنّاه الولايات المتحدة ومصر والأردن، لكن الفلسطينيين رفضوه تمامًا.
سيناريوهات ما بعد الهدنة.. مزيد من الهدن أم عودة إلى القتال؟
عُدَّ التوصُّل إلى اتفاق الهدنة المؤقتة الأول بمثابة اختراق في جدار الكثافة النارية وحدّة القتال الذي استمر 48 يومًا، ونجاحًا بالنسبة إلى الوسطاء يمكن البناء عليه لاحقًا بطريقة تضمن إمكانية تجديد هذه الهدنة أيامًا أخرى، يبنى عليها للوصول إلى اتفاق مستقبلي.
إلا أنه ورغم هذا الأمر، فإن المشهد من الناحية الميدانية والواقعية يبدو منفتحًا على مزيد من القتال من الطرف الإسرائيلي، خصوصًا في ظل الاختلافات الإسرائيلية الداخلية، وتشبُّث نتنياهو من الناحية المنطقية في بقائه في منصبه أطول وقت ممكن.
ففي الوقت الراهن، يسعى نتنياهو إلى إطالة أمد المعركة للاستفادة من بقاء غريمه السابق وشريكه في مجلس الحرب بيني غانتس تحت جناحه، والذي باتت استطلاعات الرأي تمنحه إمكانية أن يكون رئيسًا للحكومة الإسرائيلية المقبلة في الانتخابات الجديدة، التي من المتوقع أن تتبع نهاية الحرب فيما لو سقطت حكومة نتنياهو.
ويطرح المشهد الحالي عدة سيناريوهات، أبرزها العودة الجزئية إلى الوضع قبل الحرب، لكن مع وجود حدود أكثر تأمينًا بين غزة والاحتلال، وتوسيع المناطق المحظورة داخل القطاع، واستمرار الحصار شبه الكامل الذي فرضه الاحتلال في 8 أكتوبر/ تشرين الأول، وهو سيناريو لا يبدو أن المقاومة قد تقبل به.
أما السيناريو الثاني فهو الإصرار على تهجير الفلسطينيين، من خلال استمرار الضغط على سكان القطاع، وضرب المزيد من الأهداف المدنية، وتدمير ما تبقى من بنية تحتية، وهو أمر مرفوض فلسطينيًّا وعربيًّا، ولا يحظى بغطاء دولي وأمريكي، وسيخلق حالة تصعيد أكبر في المنطقة.
السيناريو الثالث هو التوصُّل إلى صفقة شاملة تكون المقاومة والسلطة طرفًا فيها إلى جانب الوسطاء، يتم من خلالها إخراج حماس من السيطرة على غزة جزئيًّا، على أن تبقى لاعبًا في المشهد، وهو أمر قد يحظى بقبول الحركة والدول العربية في المرحلة الراهنة لوقف الحرب.
غير أن الثابت في المرحلة الحالية هو أن حجم الدعم الواسع للعدوان الإسرائيلي قد حُجّم، وباتت هناك تحركات دولية تهدف إلى إنهاء هذا العدوان ووقفه في ضوء الحركات الشعبية الداخلية والتظاهرات، والخشية من تداعياتها على المشهد الدولي والإقليمي مستقبلًا.