أكثر من 50 يومًا مضت منذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، تلك الحرب المستعرة بدعم سياسي ولوجستي غربي غير مسبوق، ضد مقاومة محدودة الإمكانيات والقدرات، ومفروض عليها حصار جائر من الأعداء والأشقاء منذ سنوات عدة.
وبلغة الأرقام فإن المقارنة هنا غير متكافئة بالمرة، بين جيش نظامي مصنف ضمن أقوى جيوش العالم، وفصائل مسلحة تعتمد على ترسانة من الأسلحة المصنعة يدويًا، ومن هنا جاء البون الشاسع في خريطة أعداد الضحايا، قرابة ألفي قتيل في صفوف الاحتلال مقارنة بأكثر من 15 ألف شهيد فلسطيني، نحو 70% منهم أطفال ونساء.
وبهذا الخطاب الذي يردده المحتل ويجيد تكراره بعض العرب المنبطحين الجالسين في مقاعد المتفرجين في انتظار هزيمة المقاومة التي تغيظهم بشكل مؤلم، فإن دولة الاحتلال حققت انتصارًا عظيمًا، غير أن هذا الخطاب لم يجد صداه لدى الداخل الإسرائيلي الذي وصف ما حدث أولًا في 7 أكتوبر/تشرين الأول بأنه هزيمة مزلزلة لم يشهدها الكيان في تاريخه، وصولًا إلى اللحظة الحاليّة حيث صمود المقاومة على مدار 50 يومًا رغم القصف الوحشي البربري، وإجبارها لحكومة الحرب على الهدنة وتبادل الأسرى، وهي اللحظة التي وصفها الإعلام العبري بـ”الكارثة” و”الاستسلام” لإرادة حماس وبقية الفصائل.
وبعد 50 يومًا مضت على عملية الطوفان، يمكن قراءة المشهد بصورة أكثر وضوحًا، رغم أن القتال لا يزال دائرًا، والتقييم الآن سابق لأوانه، فإن الكثير من الخيوط التي زال الغموض عنها يمكنها أن تكشف النقاب عن بعض المكاسب التي حققتها العملية على الأرض بالفعل ورُفعت ألوية النصر عليها، بصرف النظر عن سيناريوهات ما هو قادم.
أولًا: الثمن فادح.. تناسبًا مع الغاية
– بداية وقبل استعراض ما تحقق ميدانيًا من مكاسب للطوفان على مختلف الأصعدة، تجدر الإشارة إلى ضرورة تفكيك طلاسم المشهد وفق الخطاب الانهزامي الانبطاحي الذي يتبناه البعض، عرب وعجم، وترديد السردية الجنرالية الإسرائيلية للخروج من المأزق بوهم يحفظ ماء الوجه الذي مرغته المقاومة في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
– يستند هذا الخطاب كما أشير سالفًا إلى لغة الأرقام، مستعرضًا المقارنة بين خسائر الجانب الفلسطيني والجانب الإسرائيلي، وهي المقارنة التي تفتقد ابتداءً لفحواها ومضمونها، إذ إن المعركة هنا ليست بين جيوش نظامية، إنما بين جيش احتلال نظامي مدجج بأحدث الأسلحة والعتاد ومقاومة مسلحة، وعليه فإن سحب معايير التقييم العسكري على تلك المواجهة فاقد للدقة وللموضوعية، ولا يمكن الاستناد إليه في تقييم المشهد وقراءته بشكل موضوعي.
المفكر المصري فهمي هويدي يرد على سؤال: هل أخطأت المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر؟#الجزيرة_مباشر | #طوفان_الأقصى pic.twitter.com/k06h7ROvcv
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) November 27, 2023
– ويمكن الوقوف على فقدان تلك المعادلة للدقة عبر استدعاء تجارب حركات التحرر على مر التاريخ، وعلى رأسها المقاومة الفيتنامية التي دفعت على مدار عقدين كاملين، لأجل طرد المستعمر الأمريكي، قرابة 882 ألف قتيل، بينهم 655 ألف رجل بالغ، و143 ألف امرأة بالغة، و84 ألف طفل، كذلك التجربة الليبية التي سقط خلال معركة تحريرها من قبضة الإيطاليين أكثر من ربع سكان مدينة برقة (60 ألف مواطن)، معقل المقاوم المجاهد عمر المختار.
– وهناك أيضًا حركة المقاومة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي، حيث ضحى الجزائريون خلال ثورة التحرير التي قادوها إبان الفترة من 1954-1962 بأكثر من ربع سكان البلاد، أي قرابة 1.5 مليون جزائري.
– في كل تلك التجارب كان البون شاسعًا بين المقاومة وجيوش الاستعمار النظامية، ولو وضعت المقاومة في اعتبارها هذا الفارق الكبير في الإمكانيات بينها وبين المستعمر، لما تحررت أرض على مر التاريخ، فالثمن يكون غاليًا حينما يكون الهدف والغاية نبيلًا، وليس هناك أنبل ولا أغلى من تحرير الأرض وحفظ العرض يُدفع لأجله الثمن.
كسر أسطورة التفوق
حققت عملية الطوفان العديد من المكاسب على المستوى العسكري أبرزها:
– هدم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، والقضاء على وهم التفوق العسكري الإسرائيلي، حيث نجح العشرات من المسلحين في اختراق كل الأنظمة الدفاعية لجيش الاحتلال، وأسر الكثير من المستوطنين والمجندين معًا.
– إسقاط جهازي الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية، بداية من فشل التنبؤ بعملية الاقتحام وعرقلة حدوثها، وصولًا إلى عدم القدرة على التوصل لأماكن اختباء الأسرى والرهائن وشبكة الأنفاق الخاصة بحماس رغم مرور 50 يومًا من القتال، وبالتبعية افتضاح قدرات وإمكانيات أجهزة التجسس التي كانت تتفاخر بها تل أبيب وتصدرها للدول الديكتاتورية ومن بينها أنظمة عربية.
– الكشف عن تواضع الترسانة التسليحية الإسرائيلية ووهم تفوقها التكنولوجي، حيث سقطت الآليات المتطورة بسهولة في قبضة المقاومة، وتم تدميرها بشكل بدائي، بما يسقط الهالة الإعلامية التي روجت لها “إسرائيل” بشأن قدرات تلك الأسلحة الخارقة لتسويقها إقليميًا ودوليًا.
يديعوت أحرونوت: الجيش يقيل قائد سرية ونائبه بسبب انسحاب نصف أفراد سريته بعد مواجهة مع مسلحين إبان المعركة البرية في #غزة#الجزيرة_مباشر | #طوفان_الأقصى pic.twitter.com/qivDPCeixn
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) November 27, 2023
إحياء القضية وسقوط الأقنعة
أما على المستوى السياسي فأبرز ما تم إنجازه:
– إحياء القضية الفلسطينية مرة أخرى بعد سنوات من محاولة طمسها، حتى تحولت إلى الحدث الأبرز الآن على الساحة العالمية، متصدرة قوائم الاهتمام الدولي والإقليمي وباتت الحاضر الأبرز لدى منصات الإعلام الدولي.
– عرقلة ووقف قطار التطبيع بعدما تكشفت الأمور بشكل جدي، حيث كشفت دولة الاحتلال وحلفاؤها الغربيين عن وجههم العنصري الوحشي الحقيقي، بما يجعل من مواصلة سير هذا القطار أمرًا غاية في الصعوبة، على الأقل في الوقت الراهن، ويضع البلدان الراغبة في اللحاق به في مأزق كبير أمام شعوبها وشعوب المنطقة.
– تعزيز الزخم العالمي تجاه القضية ودعم المقاومة والتعاطف مع غزة، وهو ما تكشفه خريطة التظاهرات والفعاليات التي عمّت معظم دول العالم، بما فيها الدول الداعمة للكيان المحتل، ما يمثل ضغطًا كبيرًا على حكومات العالم بشأن توجهاتها ومواقفها السياسية تجاه القضية الفلسطينية برمتها، وهو ما يمكن قراءته من خلال مواقف بعض الدول كإسبانيا وبلجيكا وجنوب إفريقيا والبرازيل، بخلاف تراجع حدة الخطاب الغربي تجاه المقاومة لا سيما الأمريكي والبريطاني والفرنسي.
تأمّــل جيّدا.
ما كان قبل 7 أكتوبر، وما يحدث الآن.
لعناية صِبْية التطبيع من متصهْينين وأدوات رخيصة، ولمن أحبّ فضحَهم.
بعد أن هبط أسيادهم إلى مستوى" تحسين حياة الفلسطينين"، كشرط للتطبيع، وكان قطار "السلام الاقتصادي" يتسارع، ويتباهى به نتنياهو وبايدن، ومعه "شرق أوسط جديد"…
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) November 27, 2023
– التأكيد على قدرة المقاومة على إحداث الفارق، وأنها لاعب مهم في إدارة المشهد لا يمكن استبعاده مهما كانت المؤامرات والمخططات العربية والغربية.
– كشف النقاب عن ازدواجية الغرب وعنصريته في التعامل مع دولة الاحتلال والقضية الفلسطينية بعد سنوات من الخداع عبر الشعارات والمبادئ المزيفة، ما يمكن البناء عليه في رسم خريطة التوجهات والتحالفات مستقبلًا.
– إسقاط الأقنعة عن بعض الأنظمة العربية المتخاذلة، وكشف الغطاء العربي الوهمي بشكل فاضح، وإعادة ترتيب شكل المنطقة وفق معادلات وأبجديات جديدة.
– ترسيخ مفاهيم العدالة والسيادة والاستقلالية عند التعاطي مع فكرة حلحلة القضية الفلسطينية، حيث أعيد طرح فكرة حل الدولتين مرة أخرى، بعد مساعي حثيثة من الكيان لتغطيتها من خلال التغول الاستيطاني وفرض معادلة جديدة ميدانيًا.
– إرباك المشهد الداخلي الإسرائيلي من خلال إحداث حالة من الانقسام والتفتت بسبب إدارة المقاومة للمعركة بشكل جيد، وارتدادات ذلك على الشارع الإسرائيلي ونخبته العسكرية والسياسية.
نجاح ساحق في معركة الوعي
– قبل عملية الطوفان كانت القضية الفلسطينية تعاني من ميوعة وتسطيح كبير، خاصة لدى الأجيال الناشئة، التي ما عاصرت أحداثًا جسامًا تغير قواعدها الفكرية، فضلًا عن الغزو الثقافي التطبيعي الذي كان يمارس عليها من الصهيونية العالمية والعربية.
– يضاف هذا الخذلان إلى خذلان أقبح وأعظم، يتمثل في حالة الانبطاح التي كان عليها العجزة وكبار السن من الفلسطينيين، لا سيما في الضفة ورام الله وغيرها من المناطق الأخرى، حيث الرضوخ للاحتلال وتجنب الدخول في صدام ومواجهات معه، وهي النبتة السوداء التي زرعتها السلطة الفلسطينية وروتها بسياساتها الانبطاحية.
#عاجل فيديو جديد 🔥
جانب من تسليم الدفعة الثالثة من المحتجزين الصهاينة في قطاع غزة ضمن التهدئة الإنسانية والإفراج عن الأسرى من سجون الاحتلال #طوفان_الأقصى pic.twitter.com/t9PfTPguqN
— بلال نزار ريان (@BelalNezar) November 26, 2023
– وما إن جاء الطوفان حتى تغيرت المعادلة، فالتفاصيل القاسية التي عاشها سكان تلك المناطق تسببت في زرع مفاهيم ومعاني المقاومة والجهاد في أنفس الملايين من الشباب الصغار الذي لم يعايش حدثًا بهذا الحجم.
– وإن كان الاحتلال يتفاخر بالأرقام الكبيرة في أعداد الضحايا حاليًّا فإنه لا بد أن يستعد جيدًا لأجيال قادمة من صغار السن، نجح بعنصريته وانتهاكاته في إخراجها من براثن التدجين إلى آفاق الثورة والتحرر، وهو ما تكشفه المظاهرات التي عمت الضفة وغيرها رغم التضييق الأمني من السلطة الفلسطينية، كما قدمت الضفة أكثر من 200 شهيد منذ الحرب في تطور أيديولوجي سيكون له تأثيره الكبير على مسار المواجهات مستقبلًا.
إنجاز إعلامي جديد
– قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 كان الاحتلال يتبنى سردية متطرفة لشيطنة المقاومة وفصائلها، ثم تعززت تلك السردية مع عملية الطوفان والمشاهد التي حرص الاحتلال على تصديرها للرأي العام الدولي، لإثبات أن حماس ورفقاءها فصائل إرهابية يجب استئصال شأفتها من فوق الأرض.
– وبلا شك أثرت تلك الصورة المشوهة على القضية الفلسطينية إقليميًا ودوليًا، لكن سرعان ما تداركت الحركة هذا المخطط ونجحت من خلال إدارتها للمشهد تباعًا على مدار الـ50 يومًا الماضية في تخفيف حدة هذه الصورة، وعلى العكس جمّلتها بشكل أحدث انقسامات حادة في الشارع الإسرائيلي، شعبيًا وإعلاميًا وسياسيًا.
جهود سنوات عديدة من التنسيق الأمني أو العمالة إن صح التعبير ، بين عباس والصهاينة، ذهبت سدى.. فهذا مشهد من الضفة لا يسر عباس وزمرته ، وهو يجعل من حماة غزة، أبطالاً وأصحاب فضل وجميل على أهالي الضفة.
بارك الله في جهود #كتائب_القسام
ونقول أيضا لمن يزعجه المشهد:
( قل موتوا بغيظكم ). pic.twitter.com/INK7ESji0v
— د.عـبدالله العـمـادي (@Abdulla_Alamadi) November 26, 2023
– واستطاعت المقاومة عبر إستراتيجياتها العسكرية والسياسية والإعلامية، خاصة في بياناتها الدورية ذات المصداقية العالية، وتحويل الناطق باسمها “أبو عبيدة” إلى نجم شباك لدى العرب والإسرائيليين على حد سواء، بجانب إدارتها لملف الأسرى والرهائن باحترافية، سواء من حيث التعامل الجيد مع المحتجزين، أم إبداء الرغبة في حلحلة هذا الملف وإطلاق سراح الأطفال والنساء ومزدوجي الجنسية، وفق ما نقلت التقارير الإعلامية.
– كل ذلك ساهم في تخفيف الصورة المشوهة عن المقاومة، وبدأ الإعلام الإسرائيلي يتحدث بشكل علني وواضح عن المعاملة الجيدة للأسرى عن طريق عناصر القسام، وهي الصورة التي حاولت حكومة الكابينت منع تصديرها، من خلال التضييق على المفرج عنهم ومنعهم من التحدث لوسائل الإعلام، حتى لا تنفضح الرواية الإسرائيلية التي تشيطن حماس وتعزف على هذا الوتر لكسب الدعم الشعبوي في الداخل والخارج.
الغريب هنا أنه رغم تراجع خطاب الشيطنة للمقاومة في الإعلام العبري والغربي، فإن حدته لا تزال على ذات الدرجة لدى بعض المنتسبين للعرب، ممن يتبنون السردية الإسرائيلية منذ اليوم الأول للحرب، مشككين في كل الانتصارات التي حققتها المقاومة وشهد بها المحتل وأقرها إعلامه، ولا يمكن نكرانها إلا من مرضى نفسيين وجيوش مؤدلجة وكتائب إلكترونية ممنهجة يؤلمها أن تخرج من براثن الانبطاح والانهزامية.
هكذا، وبصرف النظر عن أي سيناريوهات قادمة بشأن مجريات الحرب الدائرة في غزة، فإن عملية “طوفان الأقصى” نجحت وباقتدار في تحريك المياه الراكدة في مسار القضية الفلسطينية المتجمد منذ سنوات، لتعيدها للأضواء مرة أخرى، مجهضة كل المؤامرات التي حيكت وتحاك لإنهائها عبر إستراتيجية الموت البطيء، وتعيد تشكيل معادلة التوازن والقوى وفق معطيات جديدة، بعيدًا عن الخذلان الذي كان سيد الموقف لعقود طويلة.