تمتلك موريتانيا ثروات باطنية وبحرية هائلة، تمكنها – إن أحسنت السلطات استغلالها – من أن تكون إحدى أغنى الدول العربية، لكن ذلك لم يحدث، إذ تسجل هذه الدولة العربية الواقعة في غرب إفريقيا نسب فقر وبطالة مرتفعة.
وُجدت الثروات لكن وُجد معها الفساد أيضًا، فنتيجة الفساد المستشري داخل البلاد وبين أعمدة السلطة خاصة بين قادة الدولة، تدهورت حياة الموريتانيين وغابت أبسط مقومات الدولة عن هذا البلد، ومع ذلك لم يتعظ الحكام ومستمرون في فسادهم.
آخر حلقات مسلسل الفساد، جرى عرضها أمس، وفيها كُشف عن حقائق جديدة متعلقة بالثروة الكبيرة التي جمعها الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، وكيفية حصوله عليها، ودور الرئيس الحاليّ محمد ولد الغزواني في هذا الأمر.
اتهامات للرئيس الحاليّ
يمثل الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز منذ 25 يناير/كانون الثاني الماضي أمام محكمة الجرائم الاقتصادية بنواكشوط إلى جانب عشر شخصيات أخرى، بينهم رئيسا الحكومة السابقان ولد حدمين، ومحمد سالم ولد البشير، والوزيران السابقان محمد عبد الله ولد أوداعة، والطالب ولد عبدي فال، ورجال أعمال.
ويُحاكم هؤلاء الساسة فيما يُعرف إعلاميًا بملف “فساد العشرية”، بتهم الفساد والإثراء غير المشروع وغسل الأموال، ومنح امتيازات غير مبررة في صفقات حكومية، والإضرار بمصالح الدولة، وهو ما ينفيه المتهمون.
ينفي ولد عبد العزيز التهم الموجهة إليه، مصرًا على براءته، قائلًا خلال محاكمته أمس إن 60 إلى 70% من ثروته التي لم يصرح بها، مصدرها الرئيس الحاليّ محمد ولد الغزواني، حيث سلمه كميات من العملة الصعبة في صناديق خاصة، كما أعطاه لاحقًا 50 سيارة عابرة للصحراء.
لا يستبعد أن يتم تقديم هذه الأموال إلى ولد عبد العزيز مقابل تنحيه عن السلطة وإفساح المجال أمام ولد الغزواني
ولد عبد العزيز قال إنه لم يكن ينوي الكشف عن مصدر هذه الأموال، وقد تكتم عليها كثيرًا، لكن ما دام هناك إصرار على كشفها، خصوصًا من المحامين، فإنه سيكشف عنها، وأشار إلى أن الرئيس الحاليّ جاءه يوم 2 أغسطس/آب ليلًا وسلمه صندوقين أحدهما أبيض وفيه 5.5 مليون دولار، والآخر رمادي، وفيه 5 ملايين يورو، من فئة 200، لافتًا إلى أن الدولار كان من فئات قديمة.
وأوضح الرئيس السابق أنه خاطب ولد الغزواني بأنه لا داعي لتقديم هذه الأموال، غير أن الرئيس الحاليّ رد عليه بأنه آثر نفسه بمبالغ أكثر (آن اغبنتك فيها)، فيما علق ولد عبد العزيز قائلًا إنه لا يستبعد ذلك، ولا يستغربه، وفق كلامه.
قضايا فساد متهم بها الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز بحيث أن ثروات الشعب الموريتاني استغلها هذا الرجل لأموره الخاصة بدون أن تعود بالنفع على موريتانيا وشعبها.
هذه خيانة يستحق صاحبها السجن مدى الحياة pic.twitter.com/Vqd1AojeK2— بريق الأمل (@KylaVetus) May 10, 2023
أما بخصوص السيارات التي تم حجزها، فيقول ولد عبد العزيز إن مصدرها “رفيق دربه” ولد الغزواني، حيث جاءه مدير اللوجستيك في الحملة الانتخابية لغزواني، محمد ولد عبد الفتاح، وأبلغه أن الرئيس الغزواني أمره بتسليمه 50 سيارة من نوع “تويوتا – هيلكس”، وفق قوله.
وأوضح الرئيس السابق بأن حملة ولد الغزواني الانتخابية اشترت 100 سيارة من نوع “تويوتا – هيلكس”، لكنها وصلت موريتانيا بعد انتهاء الحملة الانتخابية، حيث تم إيداعها في أحد الأمكنة، مردفًا أنه حدد لولد عبد الفتاح مكانًا لإيداع السيارات التي منحت له.
فرضيات عديدة
من المبكر أن نحكم على صحة كلام ولد عبد العزيز من عدمه، لكن إن كان صحيحًا – وهذا غير مستبعد لاعتبارات عديدة -، فإنه يكشف عن حجم الفساد الذي نخر الدولة الموريتانية، وأثر على ماضيها وحاضرها ومستقبلها أيضًا.
لماذا لا نستبعد صحة كلام ولد عبد العزيز؟ لأن الرئيس ولد الغزواني يعتبر رفيق دربه، وسبق أن أطاح ولد الغزواني إلى جانب ولد عبد العزيز بسيدي محمد ولد الشيخ عبد الله في الـ6 من أغسطس/آب 2008، وعملا معًا طيلة سنوات عدة داخل الجيش وفي السلطة أيضًا.
ولا يستبعد أن يتم تقديم هذه الأموال إلى ولد عبد العزيز مقابل تنحيه عن السلطة وإفساح المجال أمام ولد الغزواني، ذلك أن الرئيس السابق كان ينوي في آخر فترات عهدته الرئاسية السابقة تنقيح الدستور بما يسمح له بالترشح لفترة رئاسية ثالثة.
إن فكرنا في الفرضية الثانية، وهي أن كلام ولد عبد العزيز مجرد “افتراءات” فهذه أيضًا لها مؤشراتها الخاصة، فالرئيس السابق يرى أنه لا يجب أن يغرق وحده وعليه أن يورّط معه أيضًا صديقه السابق ورفيق السلاح ولد الغزواني.
الصراع بين الجنرالات من شأنه أن يعكر الأجواء السياسية أكثر في البلاد
عند تخليه عن فكرة تعديل الدستور وتأييده لترشح ولد الغزواني، كان ولد عبد العزيز يأمل في تكرار تجربة فلادمير بوتين وديمتري ميدفيديف، وأن يسمح له ولد الغزواني بالحركة والبقاء في المشهد السياسي إلى حين عودته للرئاسة.
لكن حدث ما لم يكن في حسبانه، إذ سارع الرئيس الجديد لإبعاد سلفه عن الساحة السياسية، حتى لا يقلقه ويعرقل برامجه في هذه الفترة الانتقالية التي تشهدها البلاد، واختار إبعاده من حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، الذي أسسه وحكم به البلاد على مدى 10 سنوات.
لم يكتف ولد الغزواني بهذا الأمر، إذ سارع رفقة فريقه الجديد وبمعية المعارضة لتشكيل محكمة لمقاضاة الرئيس السابق بتهم تتعلق بالفساد، في سابقة في تاريخ موريتانيا الحديث، وهو ما لم يرق للجنرال ولد عبد العزيز.
نفهم من هنا أنه يمكن أن يكون ولد عبد العزيز يسعى لجر صديقه القديم للمحكمة أيضًا وأن يفتح النار على الجميع وألا يتورط ويحمل حمل الفساد في البلاد وحده، فكل الاتهامات حاليًّا تدور حوله وهو لا يريد ذلك.
صراع جنرالات
من الصعب أن يمر حديث ولد عبد العزيز أمام المحاكمة أمس مرور الكرام، إن كان صحيحًا أو لا فالأمر سيّان، فمن شأن هذه “الادعاءات” أن تدخل موريتانيا في أزمات جديدة من الممكن أن تتحول إلى صراع بين الجهات خاصة إذا علمنا أن كل طرف يتخذ من جهته داعمًا أساسيًا له.
يُذكر أن ولد الغزواني ينتمي إلى قبيلة “إديبسات” التي يقول أبناؤها إن أصولهم تعود إلى الخزرج من الأنصار بالمدينة المنورة، ولهذه القبيلة انتشار واسع في مختلف مناطق موريتانيا، وتعتبر من أكثر القبائل الموريتانية إنتاجية وممارسة للتجارة، إضافة إلى الوظيفة الدينية باعتبارها إحدى قبائل الزوايا.
في مقابل ذلك، تتحكم قبيلة “أولاد بالسباع” التي ينتمي إليها الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز في الجانب المالي لموريتانيا، فهي تعد طرفًا فاعلًا في السوق، وتشكل إضافةً إلى حلفائها في القطاعات المالية والبيروقراطية والعسكرية، كتلة مهيمنة تتمتع بسلطة قائمة على احتكار السوق.
حكم محمد ولد عبد العزيز في موريتانيا تميز بكونه كارثة على مصلحة الشعب بشكل عام و زاد الفقر والتهميش للعديد من الأفراد في البلاد، وأدى إلى تفاقم مشاكل الحياة التي يعاني منها الكثيرون و تفشيت ايضا مشكلة البطالة بشكل كبير، حيث لم يتم توفير فرص عمل كافية للشباب والباحثين عن عمل. pic.twitter.com/9qFYOJQ8f3
— نسمات ضائعة (@nasamatdayiea) July 4, 2023
هذا الصراع بين الجنرالات من شأنه أن يعكر الأجواء السياسية أكثر في البلاد، ويؤجل لفترة أخرى لا يُعلم مداها، تحقّق مطالب الموريتانيين في إقامة دولة ديمقراطية في بلادهم، قوامها المؤسسات والقانون.
كما من شأن هذا الصراع، أن يفتح الباب أمام تمدد الفساد، في وقت يأمل فيه الموريتانيون في تحجيم رقعة الفساد في بلادهم، واستعادة أموال طائلة حولها الفاسدون إلى عقارات وشركات في الداخل، ووضعوها في حسابات مصرفية في الخارج.
يعد الفساد مشكلة كبيرة في موريتانيا، ونادرًا ما تحاسب الحكومة المسؤولين أو تحاكمهم على الانتهاكات، ما جعلها من الدول الأكثر فقرًا في القارة الإفريقية رغم الثروات الكثيرة التي تتمتع بها.