في عطلة عيد العمال عام 1932، توجه راي برادبري الصغير إلى السيرك ليتابع عروض السيد إليكترو، والذي يجلس على كرسي كهربائي ليتلقى ضربات كهرباء زرقاء مشعة، تصل قوتها لملايين الفولتات، وبعدها ينهض ثم يمرر سيفًا فوق رؤوس الأطفال ويعلنهم فرسانًا باللهب، وحينما حل دور راي الصغير نادى عليه “عش للأبد”.
في هذه السن، قرر برادبري أن تلك أعظم فكرة سمعها في حياته، وعندما تلقى آلة كاتبة في عيد ميلاده أخذ ثاني قرار بشأن مهنته وهو أن يصبح كاتبًا بدلًا من أن يكون ساحرًا، بدت كلمات السيد إليكترو كالمحفز، فيصف العام الذي بدأ به الكتابة بأنه عام السيد إليكترو.
يعد “الزن في فن الكتابة” نتاج حصيلة مقالات للكاتب الأمريكي راي برادبري على مدار ثلاثين عامًا، والذي صدر لأول مرة في عام 1987، وصدرت ترجمته العربية عام 2015 لمجموعة من المترجمين عن مشروع تكوين والدار العربية للعلوم.
عن الكتابة
إذا ما قرأت في سيرة أي كاتب عن توصيف عملية الكتابة بالنسبة إليه فلسوف تكون الإجابة على هذا السؤال – في الغالب الأعم – معاناة، كذلك نزف للدماء، وفي نفس الوقت فهي علاج ضد سموم العالم.
بالنسبة لبرادبري كانت تلك الهالة المصاحبة لعملية الكتابة تشعره بالخجل فيقول: “يفترض بالكتابة أن تكون شاقة ومؤلمة”، ولكن بدلًا من ذلك عندما يخوض في عملية الكتابة، ويضرب بيديه على حروف الآلة الكتابة فإنه يستمتع بها كمزحة أو مغامرة مدهشة.
إن كان الكاتب يفتقد النشاط والحيوية عند الكتابة، دون أن يبث خلالها قوة شعورية دافعة ومتحركة كالحب أو الكراهية، فمن الأفضل له أن يخرج لقطف المشمش وحفر الفنادق ويتوقف عن الكتابة
لطالما مثلت المتعة جوهر وفلسفة راي ناحية الكتابة، فيقول “لو كنت سئلت عن أهم العناصر في تكوين الكاتب، العناصر التي تشكل مادته، وتجعله يهرع على طول الطريق إلي حيث يريد الذهاب، فسأوصيه فقط بأن يحرص على لذته، وأن يهتم بمتعته”.
ويرى راى إن كان الكاتب يفتقد النشاط والحيوية عند الكتابة، دون أن يبث خلالها قوة شعورية دافعة ومتحركة كالحب أو الكراهية، فمن الأفضل له أن يخرج لقطف المشمش وحفر الفنادق ويتوقف عن الكتابة.
في البحث عن الجملة المثالية، تجد عشرات بل مئات من الكتاب، يتسمرون أمام الوريقات البيضاء لساعات طوال بحثًا عنها، يعيدون تخليقها ألف مرة في رؤوسهم قبل أن تنصب على الورق، عرف عن جميس جويس أنه يشعر بالسعادة حينما يكتب جملة واحدة في اليوم! بينما كان سكوت فيتزجيرالد يجاهد ليكتب ما يزيد على 200 كلمة يوميًا في سنواته الأخيرة، أما برادبري ينتمي لمدرسة الكم عن الكيف، وتعد فلسفته بسيطة جدًا، فيقول: “أنا على يقين أن الكم ما هو إلا عتبة للكيف”.
ولكن ما نظرة راي الحقيقية وراء ذلك؟ فمنذ الثانية عشر من عمره وهو يكتب بمعدل ألف كلمة يوميًا، وفي ليلة وبينما تخطى 22 من عمره بقليل – وبعد كتابة 3 ملايين كلمة – أيقن أنه كتب أول قصة قصيرة جيدة في حياته.
الكتابة الركيكة ما هي إلا سماد للكتابة الجيدة
يرى راي أن الكتابة الركيكة ما هي إلا سماد للكتابة الجيدة، فيقول “التجارب الكمية تمنحك الخبرة، ومن الخبرة تتحقق المهارة، وجميع الفنون صغيرها وكبيرها ما هي إلا تقليص للجهد المستنزف في سبيل الدقة والاختصار، فالفنان الجيد يصبح خبيرًا بما ينبغي أن يترك”.
ويضرب مثلًا آخر بأنه إذا كتب أي كاتب قصة قصيرة أسبوعيًا لمدة سنة، فهذا يعني 52 قصة سنويًا، ولا شك بأن يكون من بين هذا الإنتاج بعض القصص الجيدة، باختصار: اكتب كثيرًا، اكتب بغزارة، لكن لا تنشر كل الهراء الذي تكتبه، فقط الهراء الجيد.
في الاستثمار بالملاليم وفهرنهايت 451
لا تكتفي المقالات بتوفير وعرض نصائح عن الكتابة للكتاب الشباب، ففي طياتها تعد تأريخًا لرحلة برادبري مع الكتابة، من كان ليتصور أنه حينما كتب برادبري رائعته الخالدة “فهرنهايت 451” دار برأسه فكرة أنه يكتب واحدة من روايات الدايم (أي الروايات التي تكتب بسرعة، وتوزع بأعداد كبيرة، ويعتبر هذا التوصيف تحقيرًا لهذا النوع من الكتابات التي تتسم بالسطحية والتجارية).
وليس هذا فحسب، فراي لا يمتلك كوخًا يطل على بحيرة، أو بمزرعة هادئة يختلي فيه بنفسه ليكتب، بل هو أب كادح لطفلتين تقومان بتشتيته عن الكتابة في المنزل، لذا وبكل بساطة كان عليه البحث عن مكان للكتابة بعيدًا عن منزل العائلة.
كلفته كتابة المسودة الأولى من الكتابة مبلغ 9 دولارات و80 سنتًا في ربيع عام 1950، وأنهاها في 9 أيام فقط
إلى غرفة الطباعة في قبو بجامعة لوس أنجلوس بكاليفورنيا يعثر راي على ضالته، عدة صفوف من آلات الكتابة، وصوت النقر الذي لا يتوقف عن الطباعة لعدة أشخاص، يؤجر راي إحدى الآلات، يجلس على المكتب، ويجد نفسه حرفيًا مدفوعًا بعنف نحو الكتابة والطباعة قبل أن يرن مؤقت آلة الكتابة.
كلفته كتابة المسودة الأولى من الكتابة مبلغ 9 دولارات و80 سنتًا في ربيع عام 1950، وأنهاها في 9 أيام فقط، تحت عنوان مبدأي “الإطفائي” ووصل عدد كلماتها لـ25 ألف كلمة، وبعد العمل على عدة مسودات أخرى ارتفعت إلى 46 ألف كلمة لتصبح تحفة راي برادبري، العمل الخالد الذي سيجعل من اسمه يعيش للأبد.
نحن وراي برادبري
يسأل راي “ماذا يمكننا نحن المؤلفين أن نتعلم من السحالي؟ وما الشيء الذي نستطيع التقاطه من الطيور؟ تكمن الحقيقة في السرعة، كلما عجلت بالتعبير عن مكنونات نفسك تدفقت الكتابة بانسيابية وصدق، مع التردد يأتي التيه في غياهب الفكر، وفي التأخير تأتي المجاهدة في اختيار الأسلوب المناسب عوضًا عن القفز مباشرة نحو الحقيقة وهو الأسلوب الوحيد الذي ينبغي القتال من أجله”.
ماذا يمكننا نحن المؤلفين الشباب أن نتعلم من راي؟ أن نستمع لنصيحته، ونجرب طريقته في الكتابة، نتخلص من الشقاء والمعاناة، أن نقع في هوى وحب الكتابة من جديد، وأن نبقى ثمليين وجوعى للكتابة حتى لا يدمرنا الواقع
على شاكلة هذا السؤال، اسأل نفسي “ماذا يمكننا نحن المؤلفين الشباب أن نتعلم من راي؟ أن نستمع لنصيحته، ونجرب طريقته في الكتابة، نتخلص من الشقاء والمعاناة، أن نقع في هوى وحب الكتابة من جديد، وأن نبقى ثمليين وجوعى للكتابة حتى لا يدمرنا الواقع، أن نردد لأنفسنا لا حاجة للإحباط، لا حاجة للقلق، لا حاجة للضغط، فلسوف تتبعني الأفكار، وعندما تصبح جاهزة سألتفت والتقطها، وأخيرًا وقبل أي شيء آخر أن نتذكر قانون الكتابة الأولى عند برادبري، “إن كنت تكتب بلا لذة، بلا متعة، بلا لهو، بلا حب فأنت نصف كاتب فقط”.