لم يقف تأثير حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد غزة على القطاع فقط، ولا حتى على بقية المدن الفلسطينية، بل امتد تأثيرها إلى الإقليم برمته، إن لم يكن العالم بأجمعه، فمثل تلك الأحداث الجسام تتعاظم ارتداداتها بما يتجاوز حدودها الجغرافية بشكل كبير، ناهيك بكونها دافعًا أساسيًا في إعادة هيكلة خريطة المنطقة والإقليم بصفة عامة.
والساحة المصرية أحد أبرز وأهم المتأثرين بطبيعة الحال بتلك الحرب، لأسباب عدة، من بينها الموقع الجغرافي وحدودها المشتركة مع القطاع التي حولت القاهرة رغمًا عنها إلى طرف أساسي في الصراع، فضلًا عن الدور المنوط بها القيام به بصفتها قوة إقليمية لها ثقلها، حتى إن تراجع في الآونة الأخيرة.
وبينما الحرب على أشدها، مخلفة خسائر فادحة، إذ بالساحة المصرية على موعد مع استحقاق دستوري مهم، الانتخابات الرئاسية، المزمع إجراء مرحلتها الأولى لمن هم خارج البلاد خلال الفترة من 1 – 3 ديسمبر/كانون الأول القادم، ثم مرحلتها الثانية داخل مصر خلال الفترة من 10 – 12 من الشهر ذاته.
وألقت حرب غزة بظلالها على المشهد الانتخابي المصري بصورة كبيرة، حيث تحولت إلى ورقة دعائية وإلهائية في ذات الوقت، لخدمة أهداف انتخابية مباشرة، صبت في نهاية المطاف في مصلحة الرئيس الحاليّ عبد الفتاح السيسي معززة حظوظه في الفوز بولاية ثالثة.. كيف ذلك؟
أجواء ما قبل الحرب
مرّ النظام الحاليّ خلال الفترة التي سبقت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بواحدة من أكثر محطاته حرجًا وضعفًا، فيما كانت الأجواء سوداوية بشكل كبير وذلك وفق حزمة مسببات أبرزها:
– تصاعد الاحتقان الشعبي بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية التي أوصلت الأحوال المعيشية للمواطنين إلى أدنى مستوياتها، ارتفاع جنوني في حجم الدين ومعدلات البطالة والتضخم، وجنون غير مسبوق في أسعار السلع والخدمات، وانتكاسة كبيرة في مستوى الفقر، رأسيًا وأفقيًا.
محكمة جنح المطرية تبدأ محاكمة #أحمد_الطنطاوي ومدير مكتبه و21 آخرين من حملته الانتخابية لاتهامهم بتداول أوراق تخص #الانتخابات دون إذن السلطات المختصة #مزيد pic.twitter.com/kz7zGdUKbd
— مزيد – Mazid (@MazidNews) November 28, 2023
– انسداد الأفق السياسي، فبعدما كان البعض يؤمل نفسه بمشهد سياسي أكثر مرونة، يُسمح فيه ببصيص أمل من المنافسة والتعددية، إذ بالوضع ينقلب رأسًا على عقب، فقد فشل المرشح الرئاسي المحتمل والبرلماني المعارض أحمد الطنطاوي في استيفاء أوراق ترشحه للانتخابات، وهو الفشل الذي أرجعه الطنطاوي إلى تعنت السلطة واستهدافها له بشكل شخصي ومباشر.
– استمرار الوضعية الحقوقية المتردية، حيث رفض كل المناشدات التي طالبت بانفراجة في ملف حقوق الإنسان، والاستمرار في الانتهاكات والتصعيد ضد الأصوات التي تغرد خارج السرب، وهو ما زاد من وتيرة الاحتقان بعدما تجاوز أعداد المعتقلين بسبب آرائهم أو مواقفهم السياسية عشرات الآلاف وفق تقديرات حقوقية غير رسمية.
الأيام الأولى من الحرب.. تزايد الغضب
مع الأيام الأولى للحرب البرية التي شنها الاحتلال ضد القطاع عقب عملية الطوفان، تزايدت وتيرة الاحتقان الشعبي المصري بسبب الموقف الرسمي المتخاذل إزاء نصرة سكان القطاع، والاكتفاء ببيانات الإدانة والشجب والاستنكار دون أي تحرك ميداني ينقذ الموقف.
ومما زاد من حالة الغضب التصريحات الصادرة عن السيسي والخاصة بتصفية المقاومة الفلسطينية وتهجير سكان القطاع إلى صحراء النقب، بجانب الحديث عن دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وهو الخطاب الذي يتماهى مع الخطاب الإسرائيلي الأمريكي بشكل كبير.
وبعد عدة أيام من الحرب وانتشار مقاطع التنكيل والانتهاكات وقتل الأطفال وتدمير آلاف البنايات وتهجير سكان الشمال، أصيب المزاج المصري بصدمة مدوية، أفقدته اتزانه بشكل كبير، وساهمت في تغيير بوصلته شكلًا ومضمونًا.
رافضا التهجير.. الرئيس المصري عبدالفتاح #السيسي يتساءل لماذا لا تنقل #إسرائيل الفلسطينيين لصحراء النقب لحين انتهاء عمليتها المعلنة بتصفية الجماعات المسلحة في #غزة؟ #الحدث pic.twitter.com/WBBQzDANSn
— ا لـحـدث (@AlHadath) October 18, 2023
وبدلًا من الحديث عن انسداد الأفق السياسي والوضع الاقتصادي المتردي والانتخابات الرئاسية وطلاسمها وخذلان الموقف الرسمي المصري، لم يعد هناك صوت يعلو فوق صوت غزة، تعاطفًا مع أهلها، ودعمًا للمقاومة.
وهكذا تبدلت أولويات الشارع المصري لينسى مؤقتًا واقعه المتردي اقتصاديًا وسياسيًا، وآماله في التغيير عبر صناديق الاقتراع التي باتت على الأبواب، وتغيرت دفة اهتماماته صوب غزة التي سحبت الأضواء والاهتمام من كل القضايا والملفات الداخلية.
توظيف المشهد انتخابيًا
في ذلك الوقت حاول أنصار السيسي تحديدًا توظيف هذا المشهد الداكن لتحقيق هدفين أساسيين: أولهما تعزيز شعبية الرئيس المتراجعة بسبب فشله السياسي والاقتصادي والحقوقي، فضلًا عن موقفه إزاء الحرب في غزة، وثانيهما استغلال تلك الأجواء لتوفير غطاء من الدعاية الانتخابية للسيسي.. وسعت السلطة لتحقيق ذلك عبر عدة محاور:
– التظاهرات الشعبية الداعمة لغزة استجابة لدعوة السيسي لها، وهي التظاهرات التي تحولت إلى دعم ودعاية للرئيس ومنحه تفويضًا شعبيًا لما هو قادم، لكنها لم تؤت ثمارها بالشكل الكامل بعدما أجهضها بعض المتظاهرين بدخول ميدان التحرير والتأكيد على أن “المظاهرة بجد مش تفويض لحد”.
من ميدان التحرير الآن.. الهتاف: دي مظاهرة بجد مش تفويض لحد!!
pic.twitter.com/wlHRImWfpl
— Dr.Sam Youssef Ph.D.,M.Sc.,DPT. (@drhossamsamy65) October 20, 2023
– وما إن فشلت إستراتيجية التظاهر التي خشى النظام أن تخرج عن النص وتتحول إلى تظاهرة ضد الرئيس والحكومة بشكل كامل، وإعادة المشهد الثوري مرة أخرى، حاول البحث عن آلية أخرى لتحقيق الأهداف ذاتها، فكانت إستراتيجية الدعم والمساعدات المصرية هي البديل.
تصدرت مصر قائمة الدول الأكثر مساعدة لقطاع غزة وفق الأرقام المعلنة من الهلال الأحمر المصري، وهو ما تم توظيفه دعائيًا، حيث تحولت تلك المساعدات إلى ساحات لدعم الرئيس لفترة رئاسية جديدة، وهو ما تؤكده حملات الدعم التي قام بها حزب “مستقبل وطن” الظهير السياسي للسيسي، كذلك مهرجان ستاد القاهرة الذي فقد بوصلته من مهرجان لدعم غزة إلى مسرح كبير للدعاية للسيسي.
– وبالتوازي مع ذلك تم توظيف الهدنة الأخيرة بين حماس وحكومة الاحتلال، لإبراز وبروزة الجهود الدبلوماسية التي تبذلها السلطات الحاليّة لوقف الحرب، في محاولة لطمس خذلان الموقف الرسمي، المصري والعربي والإسلامي على حد سواء.
الوضع الراهن.. لا صوت يعلو فوق صوت الحرب
ومع دخول الحرب مراحلها المتقدمة تفاقمت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في مصر بصورة أكبر مما كانت عليه قبل الحرب، حيث كسر سعر الدولار في السوق السوداء حاجز الـ50 جنيهًا، وما تلا ذلك من قفزات جنونية في أسعار السلع الضرورية، ومنها السكر الذي قفز من 27 جنيهًا إلى 50 جنيهًا في أقل من أسبوع واحد فقط، القياس ذاته على بقية السلع التي تحركت أسعارها بمستويات غير متوقعة.
وفي تلك الأجواء الملبدة بغيوم الارتباك والفوضى يرفع الخطاب الإعلامي المناصر للنظام شعار “لا صوت يعلو فوق صوت الحرب” فلا حديث عن أسعار سلع وخدمات، أو نقص المستلزمات الحياتية، أو أفق سياسي مغلق، أو حقوق إنسان وخلافه، إذ إن أمن الوطن هو الأهم، فالوضع أكبر من أي خيال بحسب تعبير الإعلامي المقرب من السلطة أحمد موسى.
واعتاد النظام المصري عبر أذرعه الإعلامية استخدام خطاب الترهيب هذا للتغطية على فشله مع كل أزمة أو حدث كبير، محاولًا توظيفه بما يخدم أجندته السلطوية، وله باع طويل في هذا الأمر، بداية من جائحة كورونا مرورًا بالحرب الروسية الأوكرانية وحرب الجنرالات في غزة والوضع المتأزم في ليبيا وصولًا إلى حرب غزة.
#احمد_موسى طالع يقول محدش يتكلم عن أكل وشرب وغلاء
أهم حاجة أمن البلد
محدش يتكلم عن حاله الشخصى
السؤال
وانت يا احمد بتقبض أمن!!
بتاكل وتشرب أمن!!
العقد السنوى اللى ب18 مليون سنوى راتبك من القناة بتقبضه فلوس ولا أمن#كتائب_االقسام#فلسطين_الان pic.twitter.com/cRWis9B2DN
— محمد الاسكندرانى (@3m4710) November 22, 2023
الانتخابات الرئاسية.. معركة محسومة سلفًا
وساعدت الحرب في غزة، التي سحبت البساط من تحت اهتمامات الشارع المصري، في حسم معركة الانتخابات الرئاسية بشكل مبكر للغاية، وباتت أقرب لمسرحية أو مهرجان استفتاء على شعبية الرئيس، حيث يُتوقع تراجع معدلات المشاركة بشكل كبير، وذلك – بجانب مسألة الحرب في غزة – لعدة أسباب:
أولًا: ضعف المنافسة وضآلة المنافسين، لا يوجد منافس من بين الثلاثة المرشحين (عبد السند يمامة – حازم عمر – فريد زهران) يمثل قلقًا على السيسي، فجميعهم خارج دائرة الحضور السياسي ناهيك عن الشعبية والجماهيرية، خاصة بعد استبعاد المرشح الذي كان من الممكن أن يمثل قلقًا وهو أحمد الطنطاوي، بجانب الحيلولة دون دخول آخرين ذوي شعبية وتأثير للسباق لسبب أو لآخر.
ثانيًا: الشكوك التي تساور الناس إزاء العملية الانتخابية، حيث يرى البعض نتائج الانتخابات محسومة سلفًا، في ظل الفارق الكبير في القدرات ودعم أجهزة الدولة للمرشحين، وعليه غابت فكرة الزخم وعنصر الأهمية وهو المحفز الأول لنزول الناس والمشاركة في العملية الانتخابية.
ومن أبرز مظاهر ذلك استئثار مرشح بعينه – دون بقية المرشحين – بالحضور والفعاليات والأضواء والحشد السياسي والإعلامي، وهو ما يحول العملية الانتخابية إلى استفتاء على شخص الرئيس وليست انتخابات بين مرشحين يمتلكون حظوظًا متساوية.
ثالثًا: الحالة المعيشية المتدنية للمصريين، التي حولته إلى ترس في عجلة مطولة من البحث عن لقمة العيش، وجعلت الممارسة السياسية رفاهية غير مدرجة على قائمة أولوياته في الوقت الراهن، وبطبيعة الحالة أفقدته الثقة في العملية الانتخابية برمتها، رغم أنه يفترض أن تكون حافزًا قويًا للمشاركة والتغيير، لكن في ظل غياب المنافسة فالأمر سيان لدى الشارع طالما هناك معرفة مسبقة شبه يقينية بهوية الفائز في تلك الانتخابات.
وبعيدًا عن توقعات إخراج المشهد الانتخابي بالصورة التي يأملها النظام عبر الحشد الإجباري لحزب “مستقبل وطن” وبقية الهيئات الرسمية والحكومية والحزبية ومنظمات المجتمع المدني، فإن حرب غزة قدمت للسيسي هدية على طبق من ذهب، وعبدت له الطريق بشكل كبير نحو ولاية رئاسية جديدة رغم الاحتقان الشعبي والفشل على المستويات كافة.