وصلت حدة التوتر في العلاقات بين قطر وجيرانها السعودية والإمارات والبحرين إلى مرحلة غير مسبوقة، إذ قطعت الدول الثلاثة علاقاتها الدبلوماسية مع الدوحة، كما أغلقت الدول المجاورة فضلًا عن مصر موانيها وحدودها الإقليمية والجوية معها، وكذلك الحكومة اليمنية وحكومة طبرق الليبية المتحالفة مع قوات خليفة حفتر المتمردة على حكومة طرابلس والمدعومة من كل من السعودية والإمارات ومصر.
جاءت المقاطعة بحسب بيانات الخارجيات الثلاثة بسبب إيواء قطر لعناصر تابعة لتنظيمي الدولة والقاعدة، وكذلك أفراد محسوبين على جماعة الإخوان، كما توفر لهم منابر إعلامية يوجهون من خلالها النقد لمصر ويروجون لتوجهات الجماعة المحظورة والمصنفة كجماعة إرهابية لدى كل من الإمارات والسعودية، وادعت السعودية أن علاقات قطر المتنامية مع إيران تمثل تهديدًا لأمن السعودية والمنطقة كلها، ونشير هنا إلى المقطع المنسوب للأمير تميم والذي أنكرته بدورها الدوحة وكذلك جهات مختلفة، ولكن السعودية لم تلتفت لهذه التبريرات.
ترامب أعطى الضوء الأخضر لمواجهة إيران وإيقاف تمددها والحد من نفوذها على المستوى الإقليمي، ولا بد أن ذلك يستلزم تسوية الخلافات الداخلية أولًا أو إعادة ترتيب البيت الخليجي سواء بإخضاع الجميع إلى السياسة الموحدة أو تحييد المخالفين وعزلهم
ولا شك أن للولايات المتحدة دورًا في الأمر، إذ إن مثل هذا التصعيد يستلزم تنسيق مع الجانب الأمريكي أولًا، فضلًا عن ذكر قاعدة العديد الأمريكية في قطر في التسريبات التي نشرتها وسائل إعلام أمريكية والمنسوبة إلى سفير الإمارات لدى واشنطن، والذي يرى أنه من الأولى نقل هذه القاعدة إلى الإمارات أو الأردن بدلًا من قطر، ونستطيع أن نقول أيضًا، على ذكر الولايات المتحدة، إن ترامب أعطى الضوء الأخضر لمواجهة إيران وإيقاف تمددها والحد من نفوذها على المستوى الإقليمي، ولا بد أن ذلك يستلزم تسوية الخلافات الداخلية أولًا أو إعادة ترتيب البيت الخليجي سواء بإخضاع الجميع إلى السياسة الموحدة أو تحييد المخالفين وعزلهم.
ولست هنا بصدد الحديث عن الأسباب الحقيقية أو الظاهرية التي تقف خلف هذه الإجراءات التي تمثل تصعيدًا غير مسبوق بالنسبة لدول الأشقاء، ولكنني سأتوقف عند الأدوات التي استخدمتها السعودية لإخضاع شقيقتها قطر.
هذه ليست المرة الأولى التي ينشب فيها مثل هذا النزاع وللأسباب نفسها تقريبًا، إذ شهدنا سحب السفراء وقطع العلاقات في 2014 ثم حلت الأزمة مؤقتًا في 2015، ولم يسبق أن فرضت أي من الدول هذه الحالة من الحصار على أي من الدول المتخاصمة، كما لم يتم تناول العائلة المالكة نفسها بالانتقاد والاتهام بما يزعزع من شرعيتها، وكذلك شرعية الأنظمة العربية كلها.
وذلك يتشابه قليلًا أو كثيرًا مع موقف قريش من بني هاشم، ولا أقصد تشبيه أطراف النزاع ببعضها البعض هنا أو هناك، إذ إن الأزمة الحاصلة بين قريش من طرف وبني هاشم من طرف آخر ليست قضية الإسلام من عدمه، ولكن كانت قريش حريصة على تماسك البيت المكي أمام العرب، فلو أن قريش دب فيها الفراق والنزاع لربما تكالبت عليهم العرب طمعًا فيما لديهم من مكانة روحية واقتصادية، هذه المكانة ما زالت تتمتع بها المملكة إلى اليوم، ولما خرج المسلمون عن النسق وحاولوا هدم ثوابت ومعتقدات قومهم حاول سادة قريش رأب هذا الصدع مهما كلف الأمر، فعرضوا على الرسول الملك والمال والسيادة ثم الترهيب والتهديد، ولما باءت كل محاولاتهم بالفشل اتجهوا كما اتجهت السعودية اليوم إلى شن حملة دعائية تتناول شخص النبي وأخلاقه وعقله وبيته بالسوء.
نست قريش أو تناست أن هذا الفعل يتنافى مع آداب العرب نفسها التي حاصروا من أهليهم وبني جلدتهم في سبيلها، وبدلًا من أن يقضي هذا التصرف على النزاع زاد من حدة الصدام، وتحولت إلى معارك فيما بعد قتل فيها الرجل أباه وأخاه
ولما منعت بنو هاشم النبي، كان هذا نذيرًا بمزيد من الشقاق وربما ذهاب ريح قريش إلى الأبد، فاتجهت قريش إلى العزل، وكان سيدهم آنذاك عبد العزى بن عبد المطلب عم النبي قائمًا على هذا الحصار في شعب أبي طالب، كان مبرره في ذلك أنه حتى ولو كان النبي ابن أخيه إلا أن وحدة قريش ومصالحها أولى من أي نزعات قصيرة ضيقة.
وأكرر لست أقصد تشبيه طرف بآخر ولكنني ألتمس العذر قليلًا لقريش، إذ إن القضية كانت أكبر من نزاع سياسي ضيق كما رأته مكة، ومع ذلك فقد التمسوا كل الوسائل لدى الرسول لكي يكف عن حشد الناس في صفه وشحنهم على قريش وساداتها، وقضية الرسول كانت قضية دين وعقيدة حتى بصرف النظر عن أثر ذلك سياسيًا واستراتيجيًا على مكة والجزيرة بأسرها، ولما لم تفهم قريش ذلك لجأت إلى وسائل لا عائد منها ولا طائل، وظنوا أن الحصار والتجويع قد يجدي نفعًا مع النبي أو قد يفض أنصاره من حوله في محاولة لتطهير الصف القريشي من المخالفين والخارجين على النسق المرسومة ليس من قبل قريش وحدها ولكن من قبل العرب كلهم.
ونست قريش أو تناست أن هذا الفعل يتنافى مع آداب العرب نفسها التي حاصروا من أهليهم وبني جلدتهم في سبيلها، وبدلًا من أن يقضي هذا التصرف على النزاع زاد من حدة الصدام، وتحولت إلى معارك فيما بعد قتل فيها الرجل أباه وأخاه.
هذا الحصار لا يمكن أن يطول، إذ لا حل سوى حوار “الأنداد” بدلاً من كونه حوار الأشقاء، ولكن هل ستكون مطالب السعودية حينها بنفس القوة؟
بالمثل وعلى صعيد مختلف، فالدولة التي ظلت سنوات طوال تستثمر في علاقاتها السياسية والاقتصادية هنا وهناك ليست مهيضة الجناح، ولن يتم عزلها في شِعب كما يظن البعض والتخلص من صوتها إلى الأبد بإفقادها أدواتها الاستراتيجية التي تستطيع من خلالها تشكيل سياساتها الخارجية، كما أنها لن تقبل الخضوع لأجندات تحت ضغط التهديد والحصار، فقطر تجر وراءها شبكة كبيرة من المصالح تخص قوى دولية وإقليمية منها الولايات المتحدة نفسها، والإضرار بمصالح قطر يضر أيضًا بمصالح هذه القوى، وبدلاً من رأب هذا التصرف الصدع الحاصل في البيت العربي زاد من الشقاق وحدة الصدام.
وعليه فإن هذا الحصار لا يمكن أن يطول، إذ لا حل سوى حوار “الأنداد” بدلاً من كونه حوار الأشقاء، ولكن هل ستكون مطالب السعودية حينها بنفس القوة؟