واصل جيش الاحتلال هجماته وانتهاكاته المستمرة بحق الشعب الفلسطيني رغم سريان الهدنة المؤقتة التي أبرمتها حركة حماس مع تل أبيب بوساطة قطرية مصرية أمريكية، ودخلت حيز التنفيذ في تمام الساعة السابعة صباح الجمعة 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وجرى تمديدها يومين آخرين.
وتوغلت قوات المحتل داخل مدن جنين وأريحا والقدس مدعومة بالجرافات والمدرعات الثقيلة، وقصفت محافظتي خان يونس والواسطي بالزوراق البحرية، كما أعلنت جنين منطقة عسكرية، وسط انتشار لعشرات القناصة على أسطح عدد من المباني وإطلاق صفارات الإنذار في المخيم والمدينة.
وأسفر هذا التوغل عن إصابة العديد من الفلسطينيين واعتقال آخرين، فيما منع المحتل الأطقم الطبية من الوصول إلى الجرحى داخل المستشفيات، فضلًا عن منع المساعدات الغذائية والوقود من دخول شمال القطاع، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني بصورة كبيرة.
واعتاد الكيان المحتل منذ نشأته السرطانية في المنطقة العربية خرق الهدن ونسف المعاهدات، التي يبدو أنه دومًا ما يتخذها كجسر لترتيب الأوراق، وامتصاص الغضب والاحتقان، وساحة لالتقاط الأنفاس لإعادة تقييم الصورة مرة أخرى، لكن هذه المرة الوضع يبدو مختلفًا، فالخرق لم يمر مرور الكرام، حيث كانت المقاومة له بالمرصاد.
دمار في مخيم جنين إثر اقتحام قوات الاحتلال له وتجريف شوارعه pic.twitter.com/e6vZ5DYm9Z
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) November 29, 2023
ارتباك ومحاولة الخروج من المأزق
يعكس هذا الخرق الذي شمل العديد من المناطق، حالة الارتباك التي تشهدها قوات الاحتلال وقياداتها داخل الكابينت، وتؤكد على أن الهدنة التي أبرمتها مع حماس جاءت تحت ضغوط مشددة، فرضتها عليها تطورات الميدان والفشل في تحقيق الأهداف المعلنة، بجانب الضغوط الممارسة من عائلات الأسرى والإدارة الأمريكية.
ويحاول جيش الاحتلال عبر هذا الخرق التأكيد على أنه باق في ساحة المعركة، وأنه مصمم على استكمال الحرب حتى القضاء على حماس وبنيتها التحتية، وهو الخطاب الأقرب للشعبوية الذي تريد به حكومة الكابينت امتصاص غضب الشارع وتبريد حدة الانتقادات الإعلامية والسياسية بشأن الفشل الفاضح في تحقيق أي منجزات ميدانية رغم مرور أكثر من 50 يومًا على الحرب.
والكيان المحتل بهذا الخرق ربما يريد جرجرة المقاومة نحو الحرب مرة أخرى، هربًا من الهجوم الذي يتعرض له منذ بدء الهدنة، خاصة بعد إدارة كتائب القسام للحرب النفسية التي تشنها ضد دولة الاحتلال بامتياز واقتدار، وهي الحرب التي فندت الكثير من الأكاذيب والادعاءات التي ساقها الكابينت واستند إليها في قرار شن عملية برية داخل قطاع غزة، وإسقاطها لمرتكزات الشيطنة التي لجأ إليها جيش الاحتلال لتبرير انتهاكاته وحرب الإبادة التي يشنها ضد سكان غزة.
ويعلم جيش الاحتلال أن استمرار الهدنة وإطالة أمدها، ومن ثم احتمالية ترقيتها إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار، وهو ما تعكف عليه الدبلوماسية المصرية القطرية مؤخرًا، إعلان رسمي لانتصار المقاومة، يقابله هزيمة نكراء للكيان المغتصب، وشهادة وفاة رسمية للحكومة الحاليّة كما جاء على لسان وزير الأمن القومي المتطرف، بن غفير.
رد المقاومة السريع.. رسائل قوية
اللافت هذه المرة إزاء تلك الخروقات أن رد المقاومة جاء سريعًا، فلم تنتظر لتقديم بيانات الشجب والاستنكار، لكنها ردت ثم بعد ذلك حذرت من محاولات خرق الهدنة، حيث أظهرت مقاطع مصورة على وسائل التواصل الاجتماعي تفجير عدد من المقاومين عبوة ناسفة محلية الصنع في آلية لجيش الاحتلال في أثناء اقتحامه مخيم ومدينة جنين.
وقد كشفت تلك المقاطع عن تصاعد دخان كثيف من داخل تلك الآلية، فيما تحدث الاحتلال عن وقوع إصابات في صفوف مجنديه، متهمًا المقاومة بخرق الهدنة، وهي الاتهامات التي لم يلق أحد لها بالًا، في ظل ما يعتريها من كذب وافتراءات ومحاولة لحفظ ماء الوجه بعد استهداف آلياته بشكل غير متوقع.
المقاومة بهذا الرد السريع، الذي تزامن مع استعراض عسكري قامت به في أثناء تسليم إحدى دفعات الأسرى، وظهور القسام جنبًا إلى جنب مع سرايا القدس، إنما تبعث برسالة واضحة ومباشرة للاحتلال بأنها على أهبة الاستعداد، وجاهزة للرد والتعامل في أي وقت، وهو ما يفند المزاعم الإسرائيلية بشأن فقدانها السيطرة على مناطق الشمال، ويبعث برسالة ترهيبية أخرى لجيش الكيان الذي يعزف بين الحين والآخر على وتر استكمال الحرب بعد انتهاء الهدنة حتى تحقيق الأهداف المعلنة كاملة، بأن القادم لن يكون أقل سوءًا مما كانت عليه أيام المعركة الأولى.
تصاعد أعمدة الدخان في مخيم جنين بعد تفجير عبوة ناسفة بقوات الاحتلال خلال مواصلة اقتحامها المخيم pic.twitter.com/gngrq4aJF4
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) November 29, 2023
تعلم حماس وبقية فصائل المقاومة مخطط الكابينت بشأن جرجرتها لخرق الهدنة ومواصلة الحرب، وعليه تتعامل مع ذلك بحنكة وكياسة سياسية وعسكرية في آن واحد، حيث ترد على الخرق بما يبعث برسائلها المذكورة من جانب، وبما لا ينسف الهدنة ويبقيها على قيد الحياة من جانب آخر.
وكان جنرالات جيش الاحتلال قد تحدثوا عن قضائهم على مرتكزات حماس في شمال القطاع، وأنها ما عادت تمسك بزمام الأمور هناك، ورضخت لقبول الهدنة إثر الضغط الميداني والقتالي عليها، وهي الأكاذيب التي فندتها عبر ردها السريع والمنجز على محاولة التوغل داخل جنين، فضلًا عن تفاصيل عمليات تسليم الأسرى التي تتضمن الكثير من الرمزيات والدلائل على ثباتها وقوتها في أرض الميدان.
سجل حافل بالخروقات.. إستراتيجية الاحتلال التاريخية
– منذ نشأتها السرطانية في خاصرة العرب عام 1948 ولم تلتزم دولة الاحتلال بأي اتفاقية أو هدنة أبرمتها مع الدول العربية، البداية كانت بخرق الهدنة المبرمة مع مصر عام 1956 حين شاركت فرنسا وبريطانيا عدوانهما على مصر (العدوان الثلاثي) ثم الهجوم مرة أخرى على مصر وسوريا والضفة وغزة يونيو/حزيران 1967.
– كما خرقت قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة رقم 181 الذي أُصدر بتاريخ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947 الخاص بتقسيم الأراضي الفلسطينية (42.35% من المساحة لدولة فلسطين – 47.7% من المساحة لـ”إسرائيل”، مع بقاء القدس وبيت لحم تحت وصاية دولية)، حيث زادت من مساحتها المخصصة من الأراضي الفلسطينية المحتلة حتى وصلت إلى 77% من مساحة فلسطين التاريخية.
– في فبراير/شباط 1949 خرق الكيان المحتل الهدنة الموقعة مع مصر، في جزيرة رودس، وضم قرابة 200 كيلومتر من مساحة قطاع غزة التي تقلصت من 555 كيلومتر مربع إلى 362 كيلومترًا، قبل أن تتقلص مؤخرًا إلى نحو 350 كيلومترًا.
– وفي عام 1967 ألغت دولة الاحتلال الهدنة المبرمة مع لبنان من طرف واحد، حيث أعادت الانتهاكات والهجوم على الأراضي اللبنانية واحتلت أجزاءً من مناطقه الجنوبية، ثم أعادت احتلال أجزاء أخرى عام 1978.
زوارق إسرائيلية تخرق هدنة #غزة وتستهدف غرب محافظتي خان يونس والوسطى.. الصحافية خولة الخالدي: الخروقات الإسرائيلية لم تغير واقع التهدئة حتى الآن#فلسطين#الحدث pic.twitter.com/ASZ3ISh55H
— ا لـحـدث (@AlHadath) November 29, 2023
– كما تخلت عن التعهدات التي قطعتها على نفسها خلال اتفاقية أوسلو الموقعة في 13 سبتمبر/ أيلول 1993 بينها وبين منظمة التحرير الفلسطينية، حيث تعهدت بإنهاء ملفات: الاستيطان، والقدس، والأمن والحدود، واللاجئون، والمياه، في غضون 5 سنوات، للتمهيد لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، غير أنها خرقت تلك الاتفاقيات وزادت من التوغل والانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني ووسعت من دائرتها الاستيطانية.
– وشهدت السنوات الـ15 الأخيرة سلسلة من الهدن المبرمة بين الاحتلال وحركة حماس وذلك لوقف إطلاق النار في القطاع، غير أن جيش الكيان خاض خمسة حروب كاملة ضد غزة خلال تلك الفترة (2008، 2012، 2014، 2021، 2023) ضاربًا بكل الهدن المبرمة عرض الحائط.
يحاول نتنياهو وغالانت وجنرالاتهما استباق عملية القفز من مركب الفشل وما يترتب عليه من محاسبة ومساءلة قد تطيح بمستقبلهما السياسي، عبر إشعال الموقف ميدانيًا وإطالة أمد الحرب على أمل الخروج بمكاسب وانتصارات تحفظ ماء الوجه، غير أن الضغوط الممارسة عليهما من الأمريكان في ظل الرأي العام العالمي المتصاعد ضد الاحتلال، وفقدان الدعم الدولي شيئًا فشيئًا، تقف حجر عثرة أمام تلك المحاولات التي من الواضح أنها لن تتوقف.