ترجمة وتحرير: نون بوست
فوق المظلات القماشية على طول الشوارع الضيقة في منطقة باتروناتو التجاريّة المزدحمة في عاصمة تشيلي، تتدلى الأعلام الفلسطينية من أعمدة الإنارة وأبواب المستودعات المؤطّرة. تبيع المخابز البقلاوة والبيتا والفلافل، بينما أرفف المحلات التجاريّة مكدّسة بالمنتجات المستوردة من الشرق الأوسط وعلى أغلفتها الترجمة الإسبانية.
هنا في سانتياغو، على بعد 8 آلاف ميل من غزة، تتوهج قضية فلسطين وثقافتها: فتشيلي موطن لأكبر جالية فلسطينية في الشتات خارج الشرق الأوسط بتعداد يصل إلى 500 ألف شخص.
قالت دلال مرزوقة (28 سنة) وهي فلسطينية من الجيل الثالث من تشيلي: “أود أن أقول إن هذا الدعم ينبع من التعاطف الغريزي مع المعاناة الإنسانية. لكنني أعتقد أنه من المرجح أن يكون لدى الجميع هنا صديق أو زميل أو زميل دراسة من أصل فلسطيني”. تعمل مرزوقة في مقهى فلسطيني في وسط المدينة، حيث تتابع آخر الأخبار من غزة عبر تطبيقي واتساب وإنستغرام، بين إعداد القهوة الداكنة وتقديم الكنافة اللزجة الحلوة. وأضافت مرزوقة “أن كونك فلسطينيًا تشيليًا هو أمر فريد من نوعه. أنا لست هذا ولا ذاك، لكنني أعرف مدى تأثير ما يحدث في غزة علي”.
في وقت سابق من هذا الشهر، كانت مرزوقة من بين آلاف الأشخاص الذين ساروا تحت بحر من الأعلام الفلسطينية باتجاه لا مونيدا، القصر الرئاسي في سانتياغو، حيث طالبت الجالية المغتربة على مستوى عالمي بوقف إطلاق النار.
اعترفت تشيلي بفلسطين كدولة منذ سنة 2011.
أوضحت كريستال قسيس، وهي متظاهرة ولدت في تشيلي تبلغ من العمر 39 سنة هاجر أجدادها من بيت لحم: “إنها قضية إنسانية وليست وطنية. انظر حولنا: لقد انضم إلينا الكثير من الأشخاص الذين ليس لهم أي صلة بفلسطين للمطالبة بتحقيق العدالة”.
حمل المتظاهرون الذين يرتدون الكوفية لافتات تدين القصف الإسرائيلي لمدينة غزة، وأطلقوا هتافات على إيقاع الطبول تحث تشيلي على قطع جميع علاقاتها مع إسرائيل. وفي مقدمة المسيرة، وقفت ميرفت قيسيه أبو غوش، 57 سنة، أمام صحيفة لا مونيدا، وقد لفت علم فلسطين باللون الأسود والأبيض والأخضر والأحمر على كتفها. قالت وصوتها يرتعش: “كلنا نعاني بسبب هذا، إنها أحداث موت مُعلن. يبدو الأمر وكأن لا أحد يتحرك. لكن تشيلي تستقبلكم بشكل جيد للغاية، وفي بعض الأحيان تشعر وكأنك في فلسطين.
وُلدت قيسيه أبو غوش في بيت جالا لكن عائلتها فرت من البلدة بعد حرب الأيام الستة سنة 1967. ولم يتمكنوا من العودة، فانتقلت إلى سانتياغو حيث كانت تعيش عائلة والدتها بالفعل، وأنجبت ابنة من زوجها التشيلي. بين اللاجئين والمهاجرين، يعيش ما لا يقل عن 6 ملايين فلسطيني خارج وطنهم. وتعيش أبرز جالية مغتربة فلسطينية خارج منطقة الشرق الأوسط في تشيلي، ولكن هناك مجموعات كبيرة في أمريكا الوسطى، ولاسيما في هندوراس والسلفادور.
امتنعت الدول الثلاث عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1947 على تقسيم فلسطين، واعترفت تشيلي بفلسطين كدولة منذ سنة 2011. وعلى الرغم من أنها تربط علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل إلا أنه ليس هناك أي اتصال بين السفارتين في تشيلي. وقد صرّحت سفيرة فلسطين في سانتياغو، فيرا بابون، التي زارت خلال عملها السابق كرئيسة لبلدية بيت لحم سانتياغو في محاولة لتعزيز علاقات أوثق مع الجاليات المغتربة، “علاقتنا مع الحكومة جيدة جدا”. في الآونة الأخيرة، تمرّ الأيام ببطء في السفارة حيث تحدق الوجوه المحبطة بقلق في القنوات الإخبارية الفلسطينية التي تبث في كل غرفة.
قالت بابون: “أردنا أن نقيم علاقة حية وحيوية بين فلسطين وتشيلي. على الأقل في تشيلي، الرئيس مصمم على التعبير عن مفهومه لحقوق الإنسان والحقوق الدولية ويدافع عنه”. وفي السنة الماضية، أعلنت وزارة الخارجية في حكومة الرئيس غابرييل بوريتش أنها تخطط لفتح سفارة في فلسطين مع أنها لم تحدد إطارا زمنيا لهذه الخطوة.
خلال الشهر الجاري، استدعى بوريتش سفير تشيلي من تل أبيب، قائلا إن إسرائيل لا تلتزم بالقانون الدولي. وأدان بوريتش هجمات حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر التي قُتل فيها أكثر من 1200 شخص، لكنه وصف أيضًا الرد الإسرائيلي، الذي أدى إلى مقتل ما بين 13 ألف و15 ألف فلسطيني، بأنه “مبالغ فيه”.
في تشرين الأول/ أكتوبر، تبرّعت حكومته بمبلغ 200 ألف دولار لصندوق إنساني تابع للأمم المتحدة لمساعدة سكان غزة. كما اتصل برئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس ليؤكد مجددا التزامه بالسلام والأمن.
تأسست أول صحيفة باللغة العربية في تشيلي “مرشد” في سنة 1912، وسرعان ما تبعتها 20 صحيفة أخرى في ما أصبح قطاعا ثقافيًا.
يحتل صراع الشرق الأوسط دورًا بارزًا في الحياة والسياسة التشيلية. ويتنازع الساسة في تشيلي بانتظام حول الصراع في الشرق الأوسط، الذي يؤجج المشاعر حتى خارج الجالية المغتربة ويمتد إلى السياسات الطلابية. وفي سنة 2016، صوتّت جامعة بوريتش، كلية الحقوق بجامعة تشيلي، لصالح مقاطعة الأحداث التي يكون المشاركون فيها “موظفين في دولة إسرائيل أو تكون ممولة من قبل السفارة الإسرائيلية”.
وصل أول المهاجرين من فلسطين إلى تشيلي بجوازات سفر تركية في أواخر القرن التاسع عشر بعد أن تركوا الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، ونجحوا في إنشاء شركات النسيج والعمل في التجارة. انضمت إليهم موجة جديدة مع بداية القرن العشرين، حيث عبر العديد منهم المحيط الأطلسي من الموانئ الأوروبية إلى بوينس آيرس – وهي رحلة شاقة قد تستغرق ما يصل إلى ثلاثة أشهر – وعبروا جبال الأنديز إلى تشيلي على ظهور البغال. كان معظمهم من المسيحيين الأرثوذكس من بيت جالا وبيت لحم وبيت ساحور، وبحلول الجيل الثاني، دُمج الكثير منهم بالفعل في الكنائس الكاثوليكية.
تأسست أول صحيفة باللغة العربية في تشيلي “مرشد” في سنة 1912، وسرعان ما تبعتها 20 صحيفة أخرى في ما أصبح قطاعا ثقافيًا. وأوضح موريسيو عمار، الأكاديمي في مركز الدراسات العربية في جامعة تشيلي، أن “الثقافة الفلسطينية التشيلية عبارة عن كبسولة زمنية. فالهوية موجودة في كل مكان، والتقاليد التي لدينا هي تلك التي انتقلت من الجيل الأول في كل عائلة”.
وفي زيارات دراسية إلى بيت لحم، يتذكر بعض الشباب الفلسطينيين التشيليين أن معاصريهم الفلسطينيين قالوا لهم إن أسماءهم كانت قديمة وتستخدم منذ عدة أجيال. في ملعبهم المكتظ في لا سيستيرنا، إحدى ضواحي سانتياغو الجنوبية، يلعب نادي ديبورتيفو بالستينو، وهو نادي كرة قدم أسسه مهاجرون فلسطينيون منذ أكثر من قرن من الزمان، في دوري الدرجة الأولى في تشيلي بألوان العلم الفلسطيني. وعلى الكم الأيسر لقميص الفريق توجد خريطة لفلسطين قبل إنشاء إسرائيل منذ 75 سنة.
أوضحت مرزوقة في إشارة إلى نادي كرة القدم “هذه المساحات مهمة للمجتمع. فهي تمثل المكان الذي يلتقي فيه الفلسطينيون التشيليون. من المهم أن يظل الناس على اتصال بهذه الجذور، مهما كانت بعيدة، لأننا بعيدون جدًا عن الأرض التي اضطرت عائلاتنا إلى تركها وراءها”.
المصدر: الغارديان