معركة أخرى على رقعة عربية ملتهبة من المحيط إلى الخليج، كانت منطقة الخليج هادئة نسبيًا مقارنة بمنطقة الهلال الخصيب وكأنها بمنأى عن الحروب لكنها تتحول الآن إلى برميل بارود، فكانت تستثمر عائدتها من النفط والغاز وتبني أبراجها وتتباهى بنمو كمي لكنها الآن تستنزف في حرب تبدو لي غريبة عنها وقد تكون الماحقة.
نزيف العراق والشام
لن نعيد ترتيب الوقائع التاريخية القريبة منذ حرب الخليج الأولى أو حرب الثماني سنوات ضد إيران ومن بدأ الحرب وكيف انتهت وسلسلة الأحداث الدامية التي انجرت عنها وأخرجت العراق من دائرة الفعل والتأثير في المنطقة وهو الذي كان يقود الأمة أو يزعم ذلك ويقدم نفسه حارس البوابة الشرقية، لكن الوقائع تناسلت من هناك حتى اللحظة، يسهل علينا البقاء في منطقة الإدانات وإعلان البراءة ولكن ذلك لن يقدم بنا إلى فهم ما يجري الآن وهنا من خراب منهجي.
هل كان يمكن ألا تنطلق ثورة عربية ضد الاستبداد في أعقاب الوقائع المتتالية منذ تلك الخسارة العراقية الفادحة؟ كتب كثيرون أن المنطقة كانت بأمان قبل الربيع العربي وأن العواصم كانت مزدهرة وتتقاسم النعماء ولكن أحدهم رتب مؤامرة للفوضى أفضت إلى الاضطراب الحالي، وهذه لعمري قراءة مقلوبة في التاريخ تتخذ النتائج أسبابًا لتبرر الخراب القديم وتمنع إصلاحًا ممكنًا بقدرات محلية، ولم يكن الربيع العربي إلا طموحًا للديمقراطية التي يصنع فيها شعب مستقبله.
ما معركة قطر المحاصرة إلا فصل آخر لا ينذر بنهاية سعيدة أو بانتصار للربيع العربي في منطقة الخليج التي قامت مشيخاتها بشن حرب ضروس ضد كل احتمالات التغيير بدءًا بغزو السعودية للبحرين ووضعها تقريبًا تحت وصاية مطلقة، وانتهاءً بحصار الدوحة
وها قد حدث وانطلقت موجة من التغيير تكرس الحرية وتجعل بناء المؤسسات الديمقراطية ممكنًا، فتتالت الانقلابات وتردى الوضع العربي العام وتحول الشام إلى محرقة دون أن تهدأ نار العراق أو تتجه معركة فلسطين نحو حل يرضى أهل الأرض في أرضهم، ونسب الخراب إلى الربيع العربي.
إيحاء بأن ما سبقه كان نعيمًا مقيمًا بما كشف الصفوف وحدد قواعد الاصطفاف مع الحرية أو ضدها، وما معركة قطر المحاصرة إلا فصل آخر لا ينذر بنهاية سعيدة أو بانتصار للربيع العربي في منطقة الخليج التي قامت مشيخاتها بشن حرب ضروس ضد كل احتمالات التغيير بدءًا بغزو السعودية للبحرين ووضعها تقريبًا تحت وصاية مطلقة، وانتهاءً بحصار الدوحة ووضع شروط استسلام مذلة تبين بسرعة ألا علاقة لها بمحاربة إرهاب مجهول المصدر بقدر ما المطلوب قطع الصلة مع قضية الوطن العربي الأم (تحرير فلسطين).
النخب المقسّمة مديرة الخراب
لن أخوض هنا في تعريف النخب، فالأمر لا يتعلق بدرس أكاديمي ولكن مواقف النخبة المتعلمة والنخب الاقتصادية والسياسية إلا قليلاً انحازت ضد التغيير بما جعل كل تنظيراتها السابقة تقع في وحل لم يخرج منه أحد نظيفًا أو سليمًا.
وجدنا النخب تبكي ابن علي الهارب من تونس وتحقر ثورة الشارع، ووجدناها تنحاز إلى كتائب القذافي وتندب ثورجيته التي فقرت ليبيا، ووجدناها تصطف إلى جانب العسكر في مصر لتبرر له المذابح والدماء المهدرة، ووجدناها الآن تنحاز لأكثر الأنظمة شمولية وقهرًا لشعوبها وتبديدًا لثرواته في السعودية والإمارات
وجدنا النخب تبكي ابن علي الهارب من تونس وتحقر ثورة الشارع، ووجدناها تنحاز إلى كتائب القذافي وتندب ثورجيته التي فقرت ليبيا، ووجدناها تصطف إلى جانب العسكر في مصر لتبرر له المذابح والدماء المهدرة، ووجدناها الآن تنحاز لأكثر الأنظمة شمولية وقهرًا لشعوبها وتبديدًا لثرواته في السعودية والإمارات من أجل ألا تستمر موجة الحرية لأن احتمال الحرية يخلق احتمال ظهور أو عودة التيارات التي يمكن أن تؤول إليها السلطة بحكم الصندوق الانتخابي، وقد حصل وكان يمكن أن تتغير المعطيات والإمكانيات على الأرض ويشرع العرب في بناء ديمقراطيتهم ولو بصعود ربوة عسيرة بحكم الموروث الاستعماري في المجالات الاقتصادية.
الصندوق عدو النخب وإن زعمت عكس ذلك قبل الربيع العربي، فلما تهيأ لها الصندوق وعرضت نفسها وأفكارها على الشارع نكصت على أعقابها تدافع عن الاستبداد والقتل كأن لم تتغن يومًا بالحرية.
قطر ليست دولة للحريات ولكن
سيقول البعض إن الربط بين معركة الحرية وحصار قطر محاولة لتصوير قطر كمربع للحريات مقابل من يحاصرها، وهذا تحويل لوجهة النقاش والجدل الدائر، لكن ليس المقام مقام تبرير أو تمجيد لنظام سياسي لا يختلف عن جواره، ولكن في ظلام الخليج برقت الجزيرة، القناة التي قادت معركة حريات حقيقة مدة 20 عامًا وعدلت كفة الإعلام العالمي المحترف في تقديم صيغة واحدة لما يجري في الرقعة العربية، فمستوى الوعي السياسي الذي خلقته هذه القناة ووجهته غير معادلات على الأرض وجعلت للعرب صوتًا يعبر عن جوهر طموحاتهم.
نجد الآن أن المعادين لقطر، هم المعادون لقناة الجزيرة، هم أنصار ابن علي الهارب من تونس ومبارك المخلوع في مصر وصالح المحروق في اليمن وبقية أعداء الحرية المرتبكين من كل احتمال للتغيير
لذلك نجد الآن أن المعادين لقطر، هم المعادون لقناة الجزيرة، هم أنصار ابن علي الهارب من تونس ومبارك المخلوع في مصر وصالح المحروق في اليمن وبقية أعداء الحرية المرتبكين من كل احتمال للتغيير، لا يهمني هنا إذا كانت دولة قطر سعت إلى ذلك أو برمجته، لكن القناة كانت صوتًا لمن حرمته الأنظمة من الكلام، وها هي تتعرض لحملة عدوانية ممن انكسر نفوذهم بسببها.
هل أنجز أعداء الجزيرة مثل الجزيرة؟ إجابتي هي لا قطعًا، فلو كانوا فعلوا لما كانت القناة، ولو كانوا حرروا شعوبهم وأطلقوا ألسنتهم بالحرية لما كانت قطر أصلاً.
ولذلك نعود بالكلام إلى أوله، المعركة ضد قطر هي معركة ضد الحرية، وخطوة كبيرة في اتجاه المزيد من التردي والانهيار، ولقد كانت مطالب الحلف المعادي لقطر واضحة، فالعدوان تم تحت عنوان محاربة الإرهاب ولما نظرنا في لائحة المطالب المقدمة للمغلوب وجدنا قطع ألسنة الحرية الباقية، وفي مقدمتها الجزيرة ثم وسعنا النظر في المطالب فوجدنا في لائحة المطالب قطع الإمداد عن المقاومة الشريفة في فلسطين (حركة حماس).
المعركة ضد قطر هي معركة ضد الحرية، وخطوة كبيرة في اتجاه المزيد من التردي والانهيار، ولقد كانت مطالب الحلف المعادي لقطر واضحة، فالعدوان تم تحت عنوان محاربة الإرهاب ولما نظرنا في لائحة المطالب المقدمة للمغلوب وجدنا قطع ألسنة الحرية الباقية
يترادف العدوان على الحرية والمقاومة وينحصر في دور النظام القطري الآن وقد ضرب ما قبله، صندوق الانتخاب في مصر واليمن وخربت كل احتمالات التحرر في ليبيا من ربقة نظام متخلف حكمها نصف قرن بالحديد والنار، يخيل إلى من يحاصر قطر الآن أنه قد يجهز على بقية المواقع المحررة ولذلك يقضي على مصدر تمويلها نهائيًا، ولكنه لا يفعل سوى دفع المنطقة إلى المزيد من الاحتراب بإشعال حرائق لا يمكنه إطفاءها.
إن نقطة التفاؤل الوحيدة التي يمكن إبرازها في كل هذه الفوضى أن كل هذا التخريب سيدفع بسرعة إلى نهاية قريبة لكل المرحلة ومن أنقاضها قد يخرج شيء لا ندريه لكنه لن يكون إعادة إنتاج الخراب، وحتى ذلك الحين نحن نألم لحال شعب يملك أن يحكم العالم لكنه لا يفلح إلا في قطع غصن الشجرة الذي يجلس عليه.